مصطلحات ومفاهيم
عبد السلام البسيوني
مصطلحات.. زاوية جديدة
تموج الساحة الثقافية بالعديد من التعبيرات والمصطلحات الشائعة التي أصبح
استعمال بعضها ضرورياً لا مفر منه لبناء ثقافة المسلم، وفهم الواقع الذي يعيش فيه، وأصبح بعضها الآخر أمراً واقعاً أو يراد له ذلك، وإضافة إلى أن معنى بعض
هذه المصطلحات غير واضح وغير محدد في ذهن كثير من القراء؛ مما يعوقهم
عن الفهم الصحيح لمدلولاتها.. فإن بعض الدوائر الثقافية تعمل على اللعب بهذا
الغموض والالتباس لتمرير قيم ومبادئ تخدم توجهاتها..
ومن هذا المنطلق فإن مجلة (البيان) حرصاً منها على البيان الواضح ورفع
الالتباس استحدثت هذه الزاوية (مصطلحات) على أن تكون زاوية ثابتة بإذن الله يتم
فيها طرح أحد المصطلحات المتداولة في أحد العلوم المعرفية أو الثقافة العامة..
وستحاول (البيان) جاهدة من خلال كُتّابها الكرام استجلاء معنى المصطلح، وأصل
نشأته، واستعمالاته ودلالاته، وتطور هذه الدلالات، والرؤية الإسلامية له إن كان
مصطلحاً غير إسلامي.
وفي هذا العدد تنشر (البيان) مقال الأستاذ عبد السلام البسيوني مقدمة
موضوعية تحليلية لأهمية تناول هذا الموضوع، سيتلوها إن شاء الله تعالى تناول
المصطلحات الشرعية والفكرية والاقتصادية والأدبية ... إلخ، على أن تكون زاوية
كل شهرين بإذن الله.
و (البيان) تدعو كُتّابها الكرام ممن لهم مقدرة علمية على الكتابة المنهجية في
هذا المجال ألا يبخلوا عليها بما رزقهم الله به من علم وفضل، كما تدعو قرّاءها
الأفاضل إلى التواصل مع المجلة في هذه الزاوية بإطلاعها على انطباعاتهم عنها
وتسمية المصطلحات التي يرون أهمية عرضها ...
- البيان -
أشد الحملات الصليبية وأطولها عمراً:
قبل نحو خسمة عشر عاماً بدأت علاقتي بقضية المصطلحات تأخذ منحىً جادّاً
حين وجدت نفسي طرفاً في معركة دارت بين أستاذي الجليل الدكتور عبد العظيم
الديب وبين صحفي كتب في جريدة خليجية عن فرقة فلسطينية راقصة (تجاهد)
بالدّبكة في سبيل الله.
فنبه الدكتور الديب أخانا ألاّ يخلط بين الجهاد والرقص، وأن نسمي الأشياء
بأسمائها احتراماً للألفاظ الشرعية، أو على أقل تقدير احتراماً للعقل والمنهجية.
وثارت ثائرة أخينا الصحفي وبدأ يخرج ألفاظاً من ماركة: ضيق العطن،
والتّزمّت، والتطرف، والجهل، وما شابه من ألفاظ إرهابية يستخدمها بعض السادة
الصحفيين، والكتّاب المستنيرون لقمع الناس، وتخويفهم، وقطع ألسنتهم.
وبدأتُ منذئذٍ النبش في القضية؛ لأجد نفسي أمام حربٍ دقيقة مبرمجة،
طويلة النفس، متعددة الأساليب، منوعة المقاصد، أداتها الكلمة، ونتيجتها إرهاب
الحق وقمعه، وإعزاز الباطل ورفعه، وتنفيس الخسيس، وتحقير النفيس،
وصناعة مسارات فكرية موجهة، وتحريف الكلم عن مواضعه، بدهاءٍ وفاعليةٍ،
وهذه النتائجُ نعيشها، ونلمس آثارها، ونرى ما أحدثت من تلبيس، وتشويش،
وإفساد، وإساءة.
البدايات:
ويبدو لي أن القضية بدأت مبكرة جدّاً؛ فلقد استعملها اليهود عليهم لعائن الله
مع أنبيائهم حين حرفوا الكلم، وغيّروا نصوص التوراة والإنجيل دلالاتٍ وألفاظاً:
[مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ] [النساء: 46] كما استخدموها مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في محجتهم ورطانتهم وحوارهم فيما بينهم:
[وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَياً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ]
[النساء: 46] .
واستخدمت في تاريخ الإسلام في طروحات الفرق المنحرفة عن هدي
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وحربها الاصطلاحية على أهل السنة؛ ففي حين
سمى المعتزلة أنفسهم: أهل العدل والتوحيد أطلقوا على أئمة السنة: بلاكفة [1] ،
وحشوية، ومعطّلة، ومشبّهة.
وفي عصرنا دخل القوم علينا بتقسيم الإسلام إلى: بدوي وحضري،
وأرثوذكسي وعلماني، ورسمي وشعبي، ونصوصي وعقلاني، ومدرسي
(اسكولاستيكي) وحداثي، وسلفي وعصري.
واستخدموا مناهج لقراءة النصوص لا علاقة لها باللغة التي تحدث بها
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب ولا بأصول الاستنباط والنظر التي
تواضع عليها الأصوليون، ولا بفهوم الصحابة والتابعين والأئمة المُعْتَبَرِين،
فقراءتهم كما يسمونها عصرية/ تفكيكية/ تنويرية/ عقلانية / تثويرية.
وحدثونا عن (ألسنة) النص المقدس، أي عن تحوله بعد نزوله مباشرة إلى
نص بشري قابل للنقد والقبول والرد، وقراءته بعين: (سوسير، وإلتوسير،
ورولان بارت، وميشيل فوكو) جاعلين القرآن والسنة نصوصاً لا تتميز بحالٍ من
الأحوال عن زاوية (نصف كلمة) لأحمد رجب في صحيفة الأخبار القاهرية؛
و (بقرة حاحاً) لأحمد فؤاد نجم، لتنتفي القداسة عن النص، ويتحول فور كتابته، أو
نزوله إلى كيانٍ مستقل، تنقطع العلاقة بينه وبين منشئه، ويعود نصاّ بلا معانٍ
محددة.
ولا بد هنا قبل الدخول في الموضوع، أن نبين: ماذا نريد بالمصطلح،
وماذا نريد بالغزو؟
الغزو المصطلحي:
انتبه عدد من الأساتذة للهجمة الشرسة على الإسلام عن طريق الألفاظ ومناهج
القراءة، وسماها بعضهم كالأستاذ عمر عبيد حسنة: معركةً، واعتبرها آخر هو
الأستاذ جمال سلطان: إسقاطاً، والحق أنني أراها غزواً يعتمد تكثيف الهجوم،
وتنويع الأساليب، والمباغتة، والتمويه، مستغلاً غفلة الخصوم، وانشغالهم
وتفرقهم، ورداءة مناهجهم في التعامل مع الواقع الفكري والدعوي، وقلة متابعتهم،
لما يُرمَون به! !
وكلمة مصطلح تطلق اليوم ليراد بها المعنى الذي تعارف عليه الناس، واتفقوا
عليه في استعمالهم اللغوي الخاص، أو في أعرافهم الاجتماعية، وعاداتهم السائرة.
وتساعد الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية على أن تُحَمّل
كلمةٌ مّا معنىً غير الذي وضعت له في أصل اللغة التي تنتمي إليها، ويسير هذا
المعنى الجديد بين الناس، حتى يصبح في استعمالهم اليومي شيئاً مألوفاً يُنسى معه
ذلك المعنى اللغوي الأساس أو يكاد. وهذا المعنى الجديد هو ما نقصده عندما نقول: المعنى الاصطلاحي [2] .
وهناك المصطلحات الفنية Terminology وهي مجموع الكلمات والعبارات
المتصلة بفرع من فروع المعرفة، أو بفن ما، أو الكلمات والعبارات الخاصة بعالمٍ
معين في بسطه وعرضه لنظرية من النظريات الفنية أو الأدبية أو العلمية، كأن
نقول: مصطلحات الغزالي في التصوف، كالمريد والقطب والإشراق [3] .
ولو أردت أنا أن أعرّف المصطلحات بشكل ألصق بموضوع هذه المقدمة،
لقلت: إنها الألفاظ المنقولة أو المرتجلة التي توضع لها معانٍ مخالفة لوضعها
اللغوي أو الاصطلاحي العربي، لتخلق جوّاً من التحسين أو التقبيح لهذه الألفاظ
يخدم أعداء الإسلام.
وأعني بالمنقولة: الألفاظ التي تُحوّل عن دلالاتها الأصلية لتعطي معنىً جديداً
غير المعنى الاصطلاحي السابق، أو المعنى الشرعي: كلفظ الاجتهاد، ولفظ
الأصولية، ولفظ العقلنة، في تناول بعض المفكرين والصحفيين لها.
وأعني بالمرتجلة: الألفاظ ذات الدلالة المستحدثة والمعنى الموجّهِ: كلفظ
العولمة أو الكوكبة، وأعني بجملة (لتخلق جوّاً ... ) : أن هذه الألفاظ التي اصطلح
عليها نفر قليل جدّاً، ثم نشرها الإعلام، ومكّن لها في الأذهان، ليست عريةً عن
الغرض، ولا بريئة أو حيادية، بل تخدم فئةً أو عقيدة أو نظاماً.. ولا تصبّ في
مصلحة تاريخ الأمة، ولا دينها، ولا حاضرها، ولا مستقبلها.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمصطلحات:
حرص سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تحرير العقلية المسلمة
من كل غبشٍ ودخن يمكن أن يتسلل إليها: من الأفكار الشركية، أو العقائد الجاهلية، أو الألفاظ التي كانت تدور أحياناً على ألسنة بعض الصحابة، دون أن يفطنوا
لظلالها، وخطورة ما استتر تحتها من عقائد ومفاهيم.
واتخذ هذا الحرص أشكالاً عدة منها:
1- تحذيره -صلى الله عليه وسلم- من خطورة الكلمة، وأمره بحفظ اللسان،
وتحريم الكذب على الله تعالى وعلى عباده، وعدّه ذلك من أعظم الكذب.
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إن العبد ليتكلم بالكلمة
ما يتبين ما فيها يزلّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) [متفق عليه] .
2- تصويبه -صلى الله عليه وسلم- لبعض ألفاظٍ نطق بها الصحابة رضي
الله تعالى عنهم، رأى فيها ما يمس العقيدة. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي
الله عنه مرفوعاً: (إن أخنع اسمٍ عند الله عز وجل رجل تسمى: ملك الأملاك) وفي
سنن أبي داود عن بريدة رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تقولوا للمنافق: سيد؛ فإنه
إنْ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل) .
3- تغييره -صلى الله عليه وسلم- بعض الأسماء ذات الدلالات القبيحة
كتغييره اسم الأجدع إلى عبد الرحمن، وبني الزّنْية إلى بني الرّشدة، وعاصية إلى
جميلة، وعبد الكعبة إلى عبد الله [4] .
4- تغييره -صلى الله عليه وسلم- بعض العبارات ذات المعاني الجاهلية،
مثل: بالرفاء والبنين، وعم صباحاً، وأبيت اللعن [5] ، لما تتضمنه من مفاهيم
تتعارض مع قواعد الإسلام ومفاهيمه.
5- إشارته -صلى الله عليه وسلم - إلى أن قوماً يأتون بعده سيعبثون
بالمسميات ويغشّون في الدلالات، كما في سنن ابن ماجه مرفوعاً: (لَيشربنّ أقوام
من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها ... ) . وهذا منهج الذين سمّوا الربا فائدة،
وجعلوا سبّ الله تعالى تنويراً، والاستباحة حرية، والرقص فناّ، والزنا صحة
جنسية! !
السلف الصالح والمصطلحات:
ولا يخفى على مُطّلعٍ اهتمام العلماء قديماً وحديثاً بتحديد الألفاظ وضبطها
بالشكل، وبالحدّ، وبإخراج المتحرزات، وبتقسيم التعاريف وتحريرها بشكل جامع
مانع؛ بحيث لا تتداخل المفاهيم، ولا تختلط المعاني، لعلمهم أن المصطلح إذا
استعمل بشكل غير محرّرٍ (غير جامع ولا مانع) لم يكن مقبولاً، ولا علميّاً.
وسر هذا أن سلفنا الصالحين رضي الله عنهم انتبهوا إلى أن للألفاظ دلالات
حقيقية وأخرى مجازية، وأن لها زوايا للنظر من جهة الوضع اللغوي، والدلالة
الشرعية والدلالة الاصطلاحية، والدلالة المعرفية، كما أن الدلالة اللغوية للكلمة
تدور بين النص كما يحرره الأصوليون والظاهر والمشترك والمجمل والمبهم [6] .. والعام والخاص والمفهوم والمنطوق، والفحوى والإشارة.
فاهتموا بفرز مصطلحات الفنون: كمصطلحات أصول الفقه، وعلم الحديث،
وعلوم القرآن الكريم، والنحو، والمنطق.
وكتبوا كتباً مفردة في المصطلحات والتعريفات منها رسالة للكندي الفليسوف
(ت 252) في: (حدود الأشياء ورسومها) ، وكتاب أبي عبد الله محمد بن أحمد بن
يوسف البلخي الخوارزمي الكاتب (ت 387هـ) : (مفاتيح العلوم) الذي جمع فيه مصطلحات العلوم في عصره، ثم كان لابن سينا (ت 428هـ) رسالة بعنوان: (الكندي نفسه في حدود الأشياء ورسومها) وكتب أبو الوليد الباجي (474هـ) كتاب: (الحدود) والرازي 357 هـ: (حلية الفقهاء) والمطرزي: (المغرب في لغة الفقه) وأبو هلال العسكري: (الفروق اللغوية) وللآمدي 631 هـ رسالة بعنوان: (المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين) ، وللجرجاني (816هـ) : (التعريفات) ، وكتاب أبو البقاء الكفوي (1094هـ) : (الكليات) ، وكتب القاضي الأحمدي نكيري الهندي (1173هـ) : (دستور العلماء) ، أو جامع العلوم، وكتب التهانوي (1158هـ) كتابه الفذ: (كشاف اصطلاحات الفنون) ، والأمير العالم صديق حسن خان: (أبجد العلوم) [7] .. وغير ذلك كثير.
وقد لا نرى ضيراً أن نقول: إن وضع علم النحو والصرف، وتقعيد القواعد، إنما كان في الحقيقة سبيلاً إلى حماية الألفاظ والدلالات القرآنية، وضبطها بمعهود
العرب في الخطاب؛ حيث نزل القرآن بلسان عربي مبين؛ حتى لا يكون إسلام
أصحاب اللغات الأخرى سبيلاً إلى التيه الدلالي والاصطلاحي، حتى إن كثيراً من
علماء اللغة كابن هشام رحمه الله فيما روي عنه: عندما طلب إليه أن يضع لطلبته
كتاباً في التفسير، وضع لهم كتاب: (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) لضبط
دلالات الألفاظ والأدوات، ومعانيها، وحتى يدرك المصطلح القرآني بكل
احتمالاته [8] .
بل إنهم نصّوا في مقدمات كتبهم المعنية بالمصطلحات أو غيرها على التحذير
من أي خلط أو خلل في هذا المجال، ومن ذلك ما أورده إمام الحرمين الجويني في
مقدمة الكافية في الجدل: (اعلم أنه لا يتم تحقيق النظر أي البحث العلمي لمن لا
يكون مستوفياً لمعاني ما يجري من أهل النظر، في معاني العبارات وحقائقها على
التفصيل والتخصيص معرفة على التحقيق، فتكون البداية إذاً بذكرها أحق وأصوب؛ فأول ما يجب البداية به: بيان (الحد) ومعناه، لتتحقق خواص حقائق العبارات
وحدودها.
ويقول في مفتتح كتابه (البرهان في أصول الفقه) : حقٌ على كل من يحاول
الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه، وبالمواد التي منها يستمد
ذلك الفن، وبحقيقته وحده ... والغرض من ذلك أن يكون الإقدام على تعلّمه مع حظّ
من العلم الجُمْلي بالعلم الذي يحاول الخوض فيه.
ويقول ابن حزم في مقدمات (الإحكام) عن تحديد المصطلح وخطورته: (هذا
باب خلّط فيه كثير ممن تكلم في معانيه، وشبك بين المعاني، وأوقع الأسماء على
غير مسمياتها، ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت
المضرّة، وخفيت الحقائق) [9] . بل إن هناك من كتب رسائل في ألفاظ بعينها.
ويستمر العمل المعجمي الذي يُعنى بالمصطلحات في اطّراد؛ حتى رأينا في
عصرنا معاجم في لغة الفقهاء، ومعاجم للألفاظ: الاقتصادية، والعسكرية،
والسياسية، ومصطلحات الأدب والفن، ودراسات المناهي اللفظية في الفصيح
والعامي وغير ذلك.
ويقف كثير من أهل الفكر والنظر أمام القضية في دراساتهم: كأستاذي
الدكتور عبد العظيم الديب: (التبعية الثقافية) والدكتور القرضاوي: (كيف نتعامل
مع القرآن) والأستاذ عمر عبيد حسنة: (رؤية في منهجية التغيير) ومقدمات بعض
كتب مجلة الأمة مثل: (المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري حول إعادة تشكيل
العقل السليم في شرف العربية) والدكتور عماد الدين خليل: (إعادة تشكيل العقل
المسلم) والأستاذ جمال سلطان: (غزو من الداخل) والأستاذ المودودي:
(المصطلحات الأربعة) والدكتور صلاح الصاوي: (الثوابت والمتغيرات)
وعبد السلام البسيوني: (الألوهية في العقائد الشعبية) وغيرهم.
كما اهتم كثير من المعاصرين بضبط ألفاظهم التي سيدور حولها الحديث في
كتبهم: كالدكتور عبد الرحمن اللويحق: (الغلو في الدين) والدكتور البيانوني:
(المدخل إلى علم الدعوة) والدكتور فهد الرومي: (منهج المدرسة العقلية في
التفسير) .
وقفة مع أهل الترجمة:
ولعل من الإنصاف هنا أن أشير إلى أن هناك من يقع في فخ المصطلحات
بكثير من حسن النية خصوصاً من المترجمين للألفاظ الإسلامية إلى اللغات
الأوروبية.. غير منتبهين إلى خصوصية المصطلح الإسلامي إن كان اصطلاحيّاً أو
اللفظة القرآنية في محاولة تفسيرها تفسيراً ميسّراً وإلى تحرك دلالات الكلمات،
وإلى تنوع الاصطلاح الواحد وتغيير معناه بين أهل الفنون المختلفة، بل حتى في
العلم الواحد (كلفظ المفرد في النحو العربي، وهو متعدد الدلالات) .
ولإيضاح مقصدي أقول: إن معاني المصطلح قد تتعدد وتتنوع بين أهل
الفنون المختلفة، وبين الفصيح والعامي.. وخذ مثلاً: كلمة الفاعل، وتنوع معانيها؛ فهي عند النحاة: (اسم مرفوع قدم عليه فعل تام مبنىّ للمعلوم، أو شبهه، وأسند
إليه) وفي اصطلاح الصحفيين: هو المؤثر (له دورٌ فاعلٌ) وعند الفقهاء: هو
الزاني أو من عمل عمل قوم لوط (فاقتلوا الفاعل والمفعول به) وتُخص به الزانية
إذا اقترن بتاء التأنيث، وهو عند المتكلمين: من يصح أن يصدر عنه الفعل مع
قصدٍ وإرادة (الفاعل المختار) وله ظلال عند الفلاسفة: العقل الفاعل أو الفعال وهو
عند العامة: من يقوم بالأعمال الخسيسة والشاقة.
ويتتبع اللغويون تحرك دلالات الكلمة، وتحولها من معنىً إلى معنى؛ وقد
يدفعهم التطور الدلالي إلى أن ينقلوا ألفاظاً إلى معانيها الجديدة المولّدة، مثل: كلمة
(بسيطة) التي استجاز المجمع اللغوي إطلاقها على الأشياء غير المعقدة (جملة
بسيطة مشكلة بسيطة فكرة بسيطة مهمة بسيطة) يريدون بذلك يسر الأداء، وخفة
النتائج، رغم أن أصل البسيطة: فعيلة بمعنى مفعول بها، أي: مفصلة مطولة
(المبسوط للسرخسي) و (البسيط) للغزالي أو ممتدة مترامية الأطراف، ومنه سميت
الأرض بالبسيطة.
وليس من هذا الباب وهذا محل استطرادتي السابقة نقل الألفاظ والمصطلحات
الإسلامية إلى الإنجليزية مثلاً فبعض المترجمين يجعلون كلمة: (وضوء) مساوية
لكلمة ablutian، و (دين) مساوية لكلمة Religion، و (الله) تعالى مساوية لكلمة، و (رسول) مساوية لكلمة Prophet ... وهذه الكلمات (العربية الإنجليزية) غير
متساوية في الدلالة على المعنى الشرعي ولا مقاربة، فكلمة صلى الله عليه وسلمbutian تعني أكثر
ما تعني في ظني التطهر بماء مقدس، كماء التعميد، أو ماء نهر الجانج، أو الآبار
المقدسة، لذلك فإنها تحمل ظلالاً وثنية مغروسة في ذهنية أبناء اللغة الأصليين؛
لذلك فإن كلمة الوضوء = الوضوء فقط، ويشرح في الهامش أو في الصّلب معناها، كذلك كلمة gods التي تعني: الآلهة الوثنية من الحجارة والخشب والبشر والبقر.. يستحيل أن تكون مساوية لكلمة الله.. فكيف أسوي بـ Jesus عند النصارى
أو Yahweh عند اليهود؟ !
وقد التفت لهذا مترجما معجم المصطلحات في العربية في الأدب واللغة تقليداً
للمستشرقين أثناء تصنيف المعجم، إذ أثبتا بعض الألفاظ مكتوبة بلفظها العربي لكن
بحرف لاتيني.. وقد جاء في مقدمة المعجم: (بذلنا جهداً كبيراً في البحث عن
المصطلح الإنجليزي المقابل للمصطلح العربي في مؤلفات كبار المستشرقين،
ووضعناه بجانب المصطلح العربي؛ بيد أننا لم نوفق دائماً في العثور على هذا
المصطلح.
وفي هذه الحالة أعدنا وضع المصطلح العربي بالحروف اللاتينية حسب نطقه
في العربية، على نحو ما فعله كبار المستشرقين من قبل) .
خصوصية الرؤية الإسلامية:
ولأن لعبة المصطلحات تصدر عن مناهج غير إسلامية نفسية ولغوية،
علمانية ودينية، شاكة ومنحازة فإنها تحاول (صبغ) الإسلام بغير صبغته، وإلباسه
ثياباً غير ثيابه، وتتحدث عنه بقواعد مراوغة أو عدائية، بعيدة من الفهم الصحيح، والرغبة في الإنصاف، والحيادية المزعومة للمناهج الوضعية.
ولأن نصوص القرآن وحي وكذلك السنة في معانيها، ولأن قراءة السابقين لها
صادرة عن قناعة راسخة بأنهم يعبدون الله تعالى بقراءة هذه النصوص، والتفكر
فيها، والاجتهاد في توجيهها، فإن قواعدهم ذات خصوصية تخالف مطلقاً طبيعة
القراءة المتمردة، أو الملحدة، أو المعادية التي يحاول المتطاولون إخضاع نصوص
القرآن والسنة والتراث العلمي الإسلامي لها. ويذهب الأستاذ سيد قطب رحمه
الله [10] إلى أن علينا في استلهام القرآن العظيم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً: لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة، وأن على الباحثين أن يفعلوا هذا؛ ليقوم تصورهم نظيفاً من كل رواسب الجاهلية: قديمها وحديثها على السواء، مستمداً من تعليم الله وحده، لا من ظنون البشر التي لا تغني من الحق شيئاً [11] .
ومعرفة هذا الميزان، وفهم اللغة التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد
الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب؛ لأنهم صاروا يحملون كلام الله
تبارك وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما يدعون أنه دال عليه، ولا
يكون الأمر كذلك [12] .
أما دفع النصوص الإسلامية نحو الخضوع للمناهج والأطر الغريبة عنها،
فأزعم أن أقل ما يوصف به أنه خيانة: خيانةٌ لميراث الأمة، ولعلمائها، ولمناهجها
الفكرية، ولتفردها كمنهج يمتاز بالربانية في مصدره، كما أنه بيعٌ واضح لهذا
الميراث لصالح أعداء الأمة؛ لأن المقدمات تشي بالنتائج، والسير في مبتدأ طريقٍ
ذي اتجاه واحدٍ لا بد أن يؤدي إلى آخره.. وهذا ما يعترف به المستغربون أنفسهم:
(إن علاقتنا بالنظريات الغربية كأية علاقة وضعية براجماتية ذرائعية لا يمكن أن
تؤدي إلاّ إلى النتائج التي توصلت إليها النظريات الغربية، وهي نتائج غير ملائمة
لبيئتنا؛ لكونها جُردت من إطارها الاجتماعي والتاريخي، وانفصلت عن مسار
تكوينها المعرفي.
فكل النظريات الغربية قد نتجت عن علاقتها بالعامليْن التالييْن: خصوصية
مجتمعاتها وقضاياها الاجتماعية من ناحية، والحقل المعرفي الذي نمت بداخله،
وطورت قضاياها النظرية المحدودة من ناحية أخرى.
لماذا هذه السطور؟
بعد هذا السرد أرجو أن يوافقني القارئ الكريم على أن هذا الغزو شديد
الفاعلية، قوي التأثير، يتسلل كالخلية السرطانية إلى الذاكرة العربية والإسلامية،
ويسكنها، ويبدأ عمله في تخريب وتدمير ما حوله، ويبدأ عمله بعد أن يمكّن له في
الأرض عن طريق الإلحاح الإعلامي، وكثرة الدوران على ألسنة كتّاب ليسوا فوق
مستوى الشبهات منهجيّاً وعقديّاً وكثيراً ما يسكن أفواه كبار الدعاة والكتّاب
الإسلاميين في غفلةٍ منهم، أو في غمرة خصومة أو عصبية فلن تخطئ عينك
كلماتٍ مثل: (أيديولوجية، ونظرية، وإرهاب، وديمقراطية، وفقه بدوي، ودولة
مدنية، وعقلانية، ونصوصية) تدور بكثرة على ألسنة وأقلام الكثيرين من المنتمين
للفكر الإسلامي.
بل سأذهب لأبعد من هذا حين أزعم أن من الدعاة من يتحول إلى داعيةٍ
لمصطلح بعينه، فيصير هاجساً له، وزاداً يعلكه، وقضية (يناضل) من أجلها،
حتى لو وقع في تناقضات مع نفسه، وابتلع مصطلحات متضاربةً أشد التضارب،
وربما كانت كَنَسيّة المصدر، صليبية الاتجاه، وربما كانت لعبة تسخر من
(الأمميين) وتوقعهم في التضارب.. وإنك لو نظرت بأدنى تأملٍ لوجدت كثيرين
ممن دعَوْا إلى الاشتراكية (أيام زمان) يدعون اليوم إلى الديمقراطية، ويتعصبون
لها ويُنظّرون؛ على ما بين المصطلحين من تضارب كما بين الليل والنهار! !
ومنهم من يُصنع له المصطلح صناعة، فيصادف هوىً في نفسه، فينساق
وراءه، غير منتبه إلى أنه يقاد إلى حفرة ستكسر قدميه أو أقدام بعض السائرين في
الطريق نفسه.. وليس آخر هذه المصطلحات مصطلح العقلانية في مقابلة
النصوصية وضرب عددٍ من الشيوخ على وتريهما، كأن النصوصية جريمة، كما
صارت السلفية جريمة، والأصولية جريمة على ألسنة بعض المتعصبين الذين
اجترأ بعضهم على وصف الإمام أحمد بأنه: نصوصيّ جامد، وليس فقيهاً ولا
فيلسوفاً، وإنما هو معادٍ للرأي، وكانت أهم أفعاله جمع النصوص: الحديث وهو
نص، والقرآن وهو نص، والأخذ بالضعيف وهو نص، وأقوال الصحابة وهي
نصوص، وكان يقف عند ظواهر النصوص وحدها، في حين اعتبر أولئك
المجترئون المتخبطون أن العقلانية المؤمنة ودفع العطاء الحضاري للإسلام كان
على أيدي المعتزلة؛ فهم وحدهم باعتبار المتجرئين فرسان العدل والحرية والفكر
المستنير للفكر الاعتزالي مرةً بإبهامٍ، ومراتٍ بسفور وتبجج على حساب أئمةٍ كبارٍ
وُصفت كتبهم بأنها نصوصٌ قديمة، ومفاهيم متجاوَزة، ليبتلع المنظّرون الجدد
الطعم، أو ليطعمونا إياه، ويحولوا قيادة المسيرة بدلاً من أحمد بن حنبل وأبي
حنيفة النعمان والشافعي وابن تيمية لحساب الاعتزال بأطيافه كلها إلى أقصى حدود
التطرف.
المقاصد والأساليب:
* والغزو المصطلحي ليس لمجرد اللهو، والعبث اللفظي؛ فمحاولات إطفاء
نور الله تعالى بالأفواه محاولاتٌ قديمة، وإنما يراد به تحقيق جملة من المقاصد
أُورِدُ بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر:
1- إرهاب تيارات إسلامية بعينها، وإعلاء تيارات أخرى وهذا يأتي في
كثير من الأحيان من داخل الصف الإسلامي نفسه؛ فهناك ألفاظٌ قمعية وهذا أقل ما
توصف به في رأيي كمصطلح الوسطية الذي تصف به بعض التيارات نفسها، في
الوقت الذي يدمغون غيرهم بدمغة التشدد أو النصوصية أو (الظاهرية الجدد) ،
فصار هذا المصطلح كأنه نوع مصادرةٍ للتيارات الأخرى بلسان المقال كما تصادر
بلسان الحال.. وقد سرى هذا الاصطلاح بالذات في كتابات وخطب بعض رموز
الصحوة مع الأسف رغم الشعار الشهير المرفوع دائماً: (نتعاون.. ويعذر بعضنا
بعضاً) ولا أكاد أبرئ تياراً إسلامياً مع الأسف ثانيةً من هذا الأمر.
2- تضليل الشباب المسلم، ودفعه إلى المراوحة مكانه، دون إحراز أي
عمق في الوعي، ولا زيادة في العلم، ولاصدقٍ في التربية.. فكثيراً ما ينشغل
الشبان بألفاظ ومصطلحات تُلقى بينهم عن عمد لصرف أنظارهم عما يجري لهذا
الدين وإن ادعت أنها تعمل من أجله أو لضرب بعضهم ببعض كلفظة القطبية أو
السرورية أو الطحانية التي قصد بها: التقسيم، وشق الصف، وشل الفاعلية! !
3- قد تؤدي عبارة ما أو مصطلح ما إلى نتائج معروفة سلفاً كتحييد المتلقي؛
فلا يطرح العداء للدين بطريقة سافرة حتى لا يثير ذلك غضب الناس، وإنما يهاجَم
الدين ويُعادى عبر مظلة اسمها: (تحليل التدين والسلوك الديني، أو الوعي الديني)
ولهذا يسارع رجال الاجتماع بوضع هذا (الخاتم) في بداية أي دراسة أو تحليل لهم
للدين لتحييد مشاعر القراء الذين لا يزال للدين مكانة في قلوبهم، ثم يطعنون في
الدين في أثناء هذه الدراسة وهذا التحليل [13] .
4- المغالطة المنهجية لتحقيق أغراض علمية أو سياسية أو غيرها.. فقد
يكون للمصطلح دلالة خاصة في تراثنا، فيجري تحريفها لصالح خصوم الإسلام.
إن بعض المصطلحات أصيل في تراثنا، ولكنه يستخدم الآن من منظور
غربي، وبمفهوم غريب تماماً عن مفاهيمنا.
ونكتفي بمثال واحد هو لفظ: (الاجتهاد) الذي يحمل مفهوماً خاصاً، ودلالة
تراثية محددة هي: (بذل الجهد والوسع وأقصى الطاقة في استخراج الحكم من
الأدلة الشرعية) . على حين يُستخدم هذا المصطلح الآن استخداماً معكوساً؛ فبدلاً
من أن يكون الاجتهاد داخل النص تعرفاً على معطياته، واستنباطاً لأحكامه الآمرة
الناهية نراه يستخدم بمفهوم غربي غريب عن الاجتهاد المعروف في ثقافتنا الأصيلة؛ إذ يُعبّر به الآن عن جهد بشري مطلقٍ من كل قيد، لا علاقة له بالنصوص
والأدلة الشرعية؛ حيث يرى بعضهم أن الدين تجربة مجتمع، ونتاج ظروف وبيئة
معينة [14] .
وهذا أيضاً ما يتيح لأمثال نصر أبو زيد وسعيد العشماوي وأركون وحسن
حنفي وعلي حرب وإبراهيم محمود، ومحمد شحرور أن يُلغوا الميراث الإسلامي
كله بفهومهم غير المنهجية وغير البريئة على ما نعتقد! !
5- صناعة ولاءات جديدة، وزرع أفكار ذات جذور عقلية وعقدية لا تنتمي
للإسلام وتراثه وحضارته عبر توظيف المصطلح توظيفاً خاصاً. وممن يستعملون
هذا الأسلوب: المنصرون الذين نصوا في أكثر من وثيقة من وثائق مؤتمر كلورادو
1978 على أن استعمال اللغة يمكن أن يكون وسيلة تنصير [15] ، فاقترحوا
استخدام لقب: (مسلمين عيسويين) على معتنقي النصرانية المرتدين من المسلمين
ليُبقوا جزءاً من ثقافتهم المحلية ووطنهم، وعدم استفزاز مشاعر الناس حولهم،
وكذلك مصطلح (مسجد عيسوي) للمكان الذي يلتقي فيه هؤلاء المرتدون (الكنيسة
المحلية) وتحدثوا أيضاً عن مسجد المسيح [16] وكيف يمكن الوصول للمسلمين من
أجل المسيح عن طريق تأويلات قرآنية، وتوظيف الحوار [17] المضلل في
التبشير؛ لأن الحوار الذي يتم بصراحة وأمانة قد يقود إلى كسب المسلم للنصرانيّ
وضمه لصف الإسلام، ولقد انحشر بيننا بكل أسف عدد كبير من المصطلحات ذات
الأصول الكهنوتية: كالأصولية والتنوير والعقلانية والعلمانية، بل كثيراً ما يتحدث
(مستنير متطرف) كأركون عن الإسلام الكهنوتي والأرثوذكسي.. كما يتعاطى كثير
من الحداثيين في الأدب مصطلحات: الخلاص، والصلب، والتعميد، والفداء،
وما شابه! !
6- تدمير الوعاء التعبيري: إن خطورة الإسقاط المصطلحي كما يقول جمال
سلطان [18] : كَمُنَ في جانب هام وماكر، فيه تدمير للوعاء التعبيري الذي تُقدّم
من خلاله الفكرة؛ مما يترب عليه تدمير الفكرة ذاتها بمرور الوقت.
ولعل من أصرح ما يدّلنا على هذا الجانب هو اعتراف (المستنيرين) أنفسهم
في أثناء كلامهم بتركيزهم على هذا الأسلوب، وإثباتهم لما يؤدي إليه من نتائج.
أساليب جديرة بالتأمل:
ويعتمد الغزاة بالمصطلح جملة أساليب يجدر بي أن أتأمل بعضها؛ مع قابليتها
للزيادة والتوسعة والتعميق والتأصيل، ومنها:
1- تقبيح مصطلحاتٍ شريفةٍ في أصلها، ودفع أصحابها للخجل منها، أو
المدافعة عن أنفسهم عن ذكرها، فما أشرف كلمات مثل: السلفية، والأصولية،
والجهاد، والحريم، والنصوصية، والكتب الصفراء، والشهادة.. لكن تناولها
بطريقة ملتوية وموجهة جعل السلفية تهمةً، والأصولية جريمة، والجهاد سبباً
للشنق، والحريم وصمة بالجهل والتخلف، والكتب الصفراء دلالة الجمود
والظلامية، والنصوصية سبباً لسبّ الإمام أحمد لحساب ابن أبي دؤاد وبشر
المريسي في دعاوى بعض المعاصرين من داخل الصف الإسلامي.
2- تحسين وتزيين مصطلحات خسيسة، لا علاقة لها بالإسلام؛ بل هي إما
كَنَسيّة المصدر، أو ملحدة، كمصطلحات: الحتمية، والعقلنة، والأصولية،
والتنوير، والحداثة، والعلمنة، والمعاصرة، ونشرها على الألسن حتى تصير
مقبولة مرتضاة، وتجد بين المسلمين دعاة لها، كما هو الحال مع: فؤاد زكريا،
وجابر عصفور والطيب تيزيني وأدونيس وأركون.
3- تحريف مصطلحات ذات أصول إسلامية، وإعطاؤها دلالات جديدة:
كالاجتهاد، والرأي، والعورة، والحق، والشورى، والعدالة، والحاكمية؛ ليكون
الاجتهاد من حق كل أحد، وكذلك الرأي حتى في المعلوم من الدين بالضرورة،
والعورة خلقية معنوية فقط، والحاكمية للإنسان لأنه في الدعوى على كل شيء قدير؟!
4- ابتكار مصطلحات جديدة وطرحها، وتحديد مفاهيمها ابتداءً وفق رؤية
عدائية تجاه الإسلام والمسلمين كالإرهاب والتطرف والعولمة، والإلحاح عليها حتى
يصطلح عليها بعض أبناء المسلمين ليوظفوها ضد إخوانهم وبني جلدتهم وقد يُتخذ
هذا منهجاً مراوغاً عن طريق طرح مصطلحات جديدة مستحدثة مع إعطائها
مضموناً عاماً غير منضبط، مما قد توافقهم عليه من الوجهة المبدئية، فضلاً عن
جمال المصطلح الشكلي: كاصطلاح الاستنارة أو المعاصرة أو التقدمية، ونحو ذلك؛ فإذا استقر المصطلح في ذهن المتلقي على أنه حقيقة ثابتة فإنهم يبدؤون في طرح
المصطلح بمضمون محدد، وأفكار منضبطة تؤدي إلى هدفهم المنشود في غرس
الفكرة الغربية في (النظرية) الإسلامية.
5- تخفيف رد الفعل الرافض لبعض الألفاظ المباشرة واضحة المخالفة
للشريعة، وتمريرها بين غير المدققين كمصطلح الاشتراكية أو الاشتراكية العلمية
بدل الشيوعية الذي طرح بقوة في بلاد المسلمين، ومصطلح العلمانية بدل اللادينية
أو الإلحاد، ويدخل في هذا ليّ المصطلحات ذات الدلالة الأخلاقية: كتسمية الخمر
مشروبات روحية (ترجمة لكلمة Spirits) والرقص فناً، والربا فائدة، والاستباحة
اجتهاداً، والسقوط حرية.
هذا؛ وللموضوع بقايا وحواشٍ لا تحتملها هذه المقدمة المحدودة، ولعل فتح
(البيان) لهذا الباب يوجد فرصة مناسبة بمشيئة الله تعالى لكثير من الكتاب
والمفكرين بتحرير كثير من المصطلحات المطروحة على الساحة في مجالات الفكر
والأدب والسياسة والفن والتراث والدعوة. وأتوقع أن يكون هذا المسار تأصيلاً
منهجياً معجباً يسد ثغرة، ويواصل عملاً بدأه السلف رضوان الله عليهم ويحمي
العقل الإسلامي من الذوبان أو الانهيار، ويضيء الطريق أمام الباحثين، ويكشف
الكثير من الشبهات والأضاليل التي تطرحها الألفاظ التي تُغزى بها الأمة.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لاإله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.