المسلمون والعالم
حمَّى سنة 2000
الحلقة الرابعة
عبد العزيز كامل
هذه الحلقات
تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن
الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى
شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي
يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال
قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت
من العام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها
لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.
وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،
ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات
منفصلة. ... ... ...
... ... ... ... ... - البيان -
قبل أن يلفظ القرن العشرون أنفاسه الأخيرة، يُراد منه أن يشهد الفصل
الختامي الذي يُسدل فيه الستار على المشهد الأخير من قضية (بيت المقدس) .
- فقبل العام 2000م يريد اليهود من العالم أن يحسم اختياره المتردد لصالح
اختيارهم الحاسم بالابتلاع (الأبدي) للقدس، عاصمة موحدة لدولتهم، وسيكون هذا
المحور الرئيس في المعركة الانتخابية في 17 مايو 1999م.
- وقبل العام 2000م تريد حامية النصارى الولايات المتحدة الأمريكية أن
تُنفّذ قرار الكونجرس الملزم بنقل سفارتها إلى القدس في موعد أقصاه 31 مايو
1999م.
- وقبل العام 2000م لا بد أن يرى العرب المصير الذي ستؤول إليه قضية
القدس، وهل ستصبح عاصمة للدولة الفلسطينية المقرر لها أن تعلن في 4 مايو
1999م بعد المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي، أم أن القضية برمتها ستعود من حيث
بدأت، فيراجع العرب مع أنفسهم حساب الربح والخسارة في مسيرة الحرب والسلام؟!
ستشهد الشهور القادمة حسم هذه المسائل الثلاث، سلباً أو إيجابياً. والسلب
والإيجاب هنا، ليس أمراً قدرياً محضاً من قبيل المصادفات؛ ولكنه السلب
والإيجاب الذي يحكمه قانون الأسباب، وهو من القدر أيضاً. بمعنى آخر: فإن
الأسباب المبذولة من كل طرف لنصرة قضيته ودعمها بعد فهمها هي التي ستوجه
المؤشرات نحو هذا الحل أو ذاك. [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم
بِبَعْضٍ] [محمد: 4] .
إن هذا الأمر يدعونا إلى أن نطرح سؤالاً كبيراً يحوي أسئلة ثلاثاً وهي: ماذا
تعني (القدس) بالنسبة لليهود، وماذا عملوا من أجلها على مدى خمسين عاماً؟ وماذا
تعني (القدس) بالنسبة للنصارى، وماذا عملوا من أجلها على مدى تلك الخمسين وما
قبلها؟ وماذا تعني (القدس) بالنسبة للعرب والمسلمين؟ وماذا عملوا من أجلها خلال
ما مضى من عمر القضية؟ !
مَنْ مِن هذه القوى يملك خياره؟ بل مَنْ منها سيفرض خياره؟
ماذا تعني القدس عند اليهود؟
هم يطلقون عليها (يورشلايم) أو (أورشليم) ، أي: مدينة السلام، التي
سيقودون العالم منها تحت قيادة (ملك السلام) ! هكذا نسبوا للتوراة. ففي التوراة كمّ
كثيف من الحديث عنها؛ حيث ذُكرت فيها نحواً من ستمائة وثمانين مرة، ويطلق
اليهود على القدس أيضاً (صهيون) نسبة إلى الجبل الموجود فيها والمسمى بهذا
الاسم الذي انتسبت إليه الحركة الصهيونية، ويطلقون على القدس أيضاً كما في
التوراة (مدينة الإله) و (مدينة العدل) و (مدينة الحق) و (مدينة الشعب المختار)
وأيضاً يطلقون عليها (أريئيل) يعني: أسد الله. وكل هذه المعاني تشير إلى مغزىً
واحد، وهو ارتباط تلك المدينة بالعقيدة والشريعة اليهودية؛ حيث فرضت تلك
الشريعة على اليهود أن يحجوا إليها ثلاث مرات في العام، وأن يتوجهوا إليها دون
أرضٍ غيرها في العالم.
وحيث شُرّد اليهود عن تلك الأرض، ودُمّر المعبد المُتخَذ قِبلةً فيها دون أن
يستطيعوا العودة إليها أو إعادة معبدها عبر ألفي عام؛ فهل يسهل عليهم بعد أن
عادوا إليها أن (يتنازلوا) عنها كلها أو بعضها لقوم آخرين يريدون أن يتخذوها
عاصمة؟ هل سيقدّم اليهود هذه المدينة التي انتزعوها بالدم والدمع كما يقولون لقوم
أضاعوها في أيام، بعدما حفظها أجدادهم طيلة قرون؟ !
إن المدينة التي يحتفل اليهود الآن بذكرى مرور ثلاثة آلاف عام [1] على
بنائها، لا تقبل في تصورهم أن تقسم بينهم وبين غيرهم ما دامت قد وقعت في
قبضتهم.
والذين يتصورون أن اليهود سيفرّطون في القدس أو في أحد شطريها،
لصالح العرب، يعيشون وهماً كبيراً، وهم مخدوعون أو مخادعون! فالقدس في
معتقد اليهود كل لا يتجزأ، فهم لا يعترفون بتقسيمها إلى غربية لليهود وشرقية
للعرب، بل هي مدينة واحدة موحدة، تقبل الزيادة ولا تقبل التجزئة، وفي التلمود
أن (القدس ستتوسع في آخر الزمان حتى تصل إلى دمشق، وسوف يأتي المنفيون
ليقيموا خيامهم فيها) [2] . وللقدس مكانة مستقبلية في التراث الديني اليهودي؛ فهي
ستكون عاصمة لمسيح الخلاص الآتي من نسل داود، ولهذا يطلقون عليها
(الشخيناه) أي: الملكوت الذي سيتنعم منه العالم. جاء في (الأجاداة) [3] : (سيأتي
اليهود إلى القدس وسيأخذونها، وستمتلئ حدودها بالثروة) . وفي تفسير التوراة
صَوّرت (القبالاة) [4] (أورشليم) وكأنها المكان الذي سيفيض بالخير من السماء،
ومنها يوزع على بقية العالم!
ومن اللافت للنظر أيضاً أنهم يعتقدون بمقتضى (القبالاة) أن القدس ستعلو
أسوارها حتى لا تصل إليها (قوى الظلام) ! وستكون مكاناً مناسباً لتهيئة اليهود
وإعادتهم إلى التقوى! !
ماذا فعل اليهود من أجل القدس؟ !
لقد برهن اليهود، ولا يزالون يبرهنون على أن المعاني العقدية لا بد أن
تترجم إلى وقائع عملية. وفيما يتعلق بالقدس، كان تحويلها إلى مدينة يهودية
خالصة هدفاً ماثلاً أمام كل القوى على اختلاف توجهاتها قبل إقامة الدولة وبعد
إقامتها، ووجدت فكرة (القدس اليهودية) من يحفرها على جدران الواقع الهش،
وسط أمة لم تحسن فهم الواقع فضلاً عن التعامل معه.
لقد تقرر اتخاذها عاصمة (دائمة) قبل أن تُتّخذ (تل أبيب) عاصمة مؤقتة،
وبُدئ في تهويدها بالفعل منذ قيام الدولة في عام 1948م، وفي الرابع والعشرين
من شهر يونيو من العام نفسه أعلن بن جوريون في الكنيست أن مسألة إلحاق القدس
بإسرائيل ليست موضع نقاش، ثم تم بالفعل إعلانها عاصمة للدولة في 23 يناير
1950م.
وقامت (إسرائيل) بنقل كل الوزارات إلى القدس (الغربية) ريثما يتم الاستيلاء
على القدس الشرقية، وفي حرب يونيو 1967م، وبعد يومين فقط من بدء الحرب، اجتاح الجيش الإسرائيلي القدس الشرقية محققاً الانتصار على مجموع الجيوش
العربية التي دخلت الحرب دون استعداد! ووقتها دخل (موشي ديان) وزير الدفاع
الأسبق ليعلن في تصريح أمام حائط المبكى، ما يُظهِر أن القدس الشرقية كانت هدفاً
رئيساً للحرب، قال: (لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا
قداسة، ولن نغادرها أبداً) وقد يقول قائل: إن مثل تلك التصريحات تقال في أزمنة
الحرب من أجل حشد الطاقات ورفع المعنويات، أقول: قد قالها بعد ديّان (رابين)
في أحد مؤتمرات السلام والتطبيع، ففي مؤتمر الدار البيضاء، وفي ضيافة الدولة
المضيفة لـ (لجنة القدس) قال رابين: (إن القدس الكبرى الموحدة، ستظل عاصمة
لإسرائيل لأبد الآبدين) [صحيفة هاتسوفين الإسرائيلية (12/11/1994م) ] .
أما نتنياهو فإن قضية القدس (الموحدة) بالنسبة له، هي قضية حياة أو موت،
وقد وقف أمام أعضاء الكونجرس الأمريكي في أول زيارة له بعد فوزه في
الانتخابات عام 1996م وجهر بعبارة محددة ورددها ثلاث مرات، وكأنه يردد قَسَماً، قال:
أورشليم هي عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد..
أورشليم هي عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد..
أورشليم هي عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد..
ومع تعالي نبرات صوته كلما كرر العبارة، كانت تتعالى أصوات التصفيق
الحاد، لتغطي على صوت الميكروفونات، حتى دوّت القاعة كلها بتصفيق متواصل، وازداد حماساً بعدما وقف جميع أعضاء الكونجرس الأمريكي لتحيته! وفي أول
لقاء له مع بيل كلينتون في حديقة البيت الأبيض، أعلن نتنياهو إلغاء كل القيود
على الاستيطان في القدس.
إن العبارة التي قالها بن جوريون وكان يرددها بعده مناحيم بيجن: (لا قيمة
لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل) . هذه العبارة، تنسجم منطقياً
مع النظرة الدينية اليهودية للقضية، وتدل على أنهم يَعُون ويعنون ما يقولون، وإلا، فماذا يصنع اليهود بدولة يعقوب (إسرائيل) دون مدينة (داود) ؟ وماذا يستفيدون
من مدينة داود، دون معبد (سليمان) الذي ترتبط به صلواتهم وحجهم ومجمل ديانتهم؟
إن العلمانيين العرب لم يفهموا، أو لم يريدوا أن يفهموا هذه الأبعاد الدينية؛
ولذا فإنهم كانوا ولا يزالون يتخبطون في فهم القضية والتعامل معها، وليتهم إذ
عجزوا أو تعاجزوا عن فهم المعنى الديني.. أقبلوا على فهم المغزى التاريخي،
فإنه يعطي خاصة في سياقه الحديث إشاراتٍ فصيحة تنبئ عن ثبات الخُطا اليهودية
تجاه السيطرة التامة على القدس غربيةً وشرقيةً.
قصة الابتلاع:
بعد أن حاز اليهود القدس الغربية بعد حرب عام 1948م، ونالوا من الأمم
المتحدة صكوك ملكها في حماية (الشرعية الدولية) اتجهت أنظارهم نحو (القدس
الشرقية) وكانت الحرب، وكانت النكسة، وكان الاحتلال، ولم تشأ الشرعية
الدولية أن تضفي شرعيتها على هذه (المخالفة) لقرار التقسيم، فأُطْلق على القدس
الشرقية وصف: الأرض المحتلة، ومن دون أن تتخذ هذه (الأمم) أي إجراء مضاد
لهذا الاحتلال يوقف المحتلين عند حدهم بعقوبات أو حصار أو تحالف دولي!
أما اليهود: فقد سارعوا إلى فرض واقع جديد في طبيعة الأرض التي استولوا
عليها، والتي لم يقدموا من أنحاء العالم إلا من أجلها؛ فبعد أقل من عشرين يوماً
من دخولها، صدر قانون يقضي بإخضاع القدس الشرقية لنظم الدولة في إسرائيل،
وبدأ ضمها الفعلي بدءاً من عام 1968م، وفي 30 يوليو 1980م، صدر قانون
بضمها بشكل نهائي واعتبارها عاصمة رسمية موحدة للدولة ومقراً لحكومتها
وبرلمانها ومكتب رئيسها. وقد أطلق على هذا القانون: (مشروع القدس الكبرى)
وقد تم ذلك لإعطاء قضية توحيد القدس بُعداً عالمياً في المجتمع الدولي الذي أسهم
فعلياً في تسهيل مهمة اليهود في ابتلاع الشطر الأول، تاركاً لهم مهمة تدبير شأنهم
مع الشطر الثاني.
ولم يكن على اليهود بعد أن سيطروا على القدس الشرقية حيث مقدساتنا
الإسلامية إلا أن يتفرغوا لفرض واقع جديد، يتم تنفيذه على مراحل: سياسياً
وقانونياً وديموغرافياً؛ فالواقع الديمغرافي المتعلق بالهوية والسكان، كان يميل بشدة
إلى جانب العرب المسلمين في فلسطين عندما احتُلت القدس الشرقية، ولكن الكفة
ظلت تميد وتميل إلى جانب اليهود، وفق تصور مبيت وتدبير مقصود. لقد كان
سكان القدس من الفلسطينيين عام 1967م يمثلون نسبة 100%، ولكن هذه النسبة
ظلت تنخفض بشكل خطير، ضمن مخطط يهدف إلى إيصالها إلى أدنى حد لها
بحلول العام 2000م، وذلك عن طريق مشروع (القدس الكبرى عام 2000م) وهو
مشروع يهدف باختصار إلى تقليص وتنقيص الأرض وسكانها عربياً، وإنمائها
وزيادتها إسرائيلياً؛ حيث تقرر بحسب المشروع أن توسع القدس لتمتد غرباً باتجاه
تل أبيب، وجنوباً باتجاه الخليل، وشمالاً إلى ما وراء رام الله وحتى حدود أريحا
شرقاً.
ولتنفيذ هذا المخطط (الذي يهدد ثلاثة أرباع الضفة الغربية) شرّد اليهود
حوالي 60 ألف فلسطيني، وصادروا أملاكهم. أما الأرض الفلسطينية (المحتلة
بحكم الأمم المتحدة) : فقد أكلتها القوارض اليهودية في هدوء أمام صمت الأمم
المتحدة، حتى إنه في حقبة التسعينات، لم يعد الفلسطينيون يسيطرون إلا على 21% فقط من مساحة المدينة، تصل بعد التخفيض إلى 4% فقط؛ لأن بقية النسبة
تتشكل من مناطق وعرة لا تصلح للسكنى والعمران [5] .
لقد حدثت في المقابل طفرة في إسكان اليهود بالقدس الشرقية، وخاصة في
عهد نتنياهو، وكان أول ما بدأ به استكمال مشروع (البوابات) حول القدس 26
بوابة وهو مشروع كان (شارون) قد بدأه في عهد (شامير) ليستكمل به تطويق
المدينة بأحياء سكنية يهودية.
سكان متدينون لعاصمة دينية:
ليس في دولة (إسرائيل) الدينية، عاصمة دينية وأخرى علمانية، بل فيها
عاصمة واحدة موحدة، يرون أنها عادت بالدين ومن أجل الدين، ولهذا فلا ينبغي
أن يسكنها إلا المتدينون؛ وهل في هذا الأمر غرابة؟ ! إن الغرابة في عكس هذا
الأمر، وهو أن تقع المدينة المقدسة في أيدي اليهود بعد قرابة ألفي عام ثم يتركها
المتدينون لسُكنى الفلسطينيين! أو حتى العلمانيين الإسرائيليين.
إن تسكين اليهود (المتدينين) لمدينة القدس يسير أيضاً وفق نسق ديني، يرسم
معالمه المتشددون من حاخامات وكهنة وطلاب علوم دينية، وتقوم على تحقيقه
الجهات المتنفذة من سياسيين وعسكريين.
ولماذا الدينيون المتشددون؟ ! لأنهم وحدهم الذين سيعرفون لها منزلتها في
الديانة اليهودية، وهم وحدهم الذين سيُخْلصون في تكثير سوادها [6] وتعمير
مرافقها، وأهم من ذلك؛ فهم وحدهم الذين سيتصدون للدفاع عنها وعن المشاريع
اليهودية الدينية المستقبلية فيها وعلى رأسها (بناء المعبد الثالث) ؛ حيث سيكونون
طليعة المستقبلين للملك القادم على كرسي داود كما يروج لذلك الحاخامات الذين
ينسبون إلى التوراة على لسان سليمان عليه السلام: (أيها الرب إله إسرائيل، احفظ
لعبدك داود أبي ما كلمته به قائلاً: لا يُعدم لك أمامي رجل يجلس على كرسي
إسرائيل إن كان بنوك إنما يحفظون طرقهم، حتى يسيروا أمامي، كما سرت أنت
أمامي) [7] فلا بد وفق هذا النص أن يكون جيل الخلاص مخْلصاً لليهودية متمسكاً
بها، حافظاً لطرقها، أما المفرطون من العلمانيين واليساريين والاشتراكيين
والليبراليين الإسرائيليين، فلا مكان لهم في الأرض المقدسة إلا إذا انضموا إلى
ركب المتدينين!
إننا نشهد في السنوات الأخيرة عملية حشد أو حشر كبيرة للمستوطنين اليهود
في المدينة المقدسة، ولا بد أن نتذكر، أن الاستيطان يقترن دائماً بالتدين والتسليح
وليس الحديث المستفيض في وسائل الإعلام عن الاستيطان اليهودي في القدس إلا
ترجمة لهذا الاتجاه. والمراقب للأمر يمكنه أن يرصد أن إسكان القدس للمتدينين
أصبح هدفاً تلتقي حوله القوى صاحبة القرار والتأثير في دولة اليهود، وقد اختصر
نتنياهو هذا الموقف بتصريح أدلى به أمام شركائه في الائتلاف الحاكم؛ حيث قال
بالنص: (أنا مستعد للذهاب إلى أبعد الحدود، ولو وصل الأمر إلى التضحية بتأييد
العالم من أجل تنفيذ وصية التوراة بتسكين القدس لليهود وإعمارها وتحرير أنفاقها)
وقال: (كل حلمي هو أن أبني القدس وأعمرها بالمستوطنات)
[يديعوت أحرونوت، 28/7/1997م]
وهو بالطبع يقصد القدس الشرقية؛ لأن الغربية قد عُمرت بالناطحات لا بمجرد المستوطنات!
وللحقيقة فإن مساعي إسكان اليهود المتدينين للقدس لم تبدأ بنتنياهو وإن كانت
قد تضاعفت في عهده وإنما بدأت قبل مجيئه؛ فإضافة إلى الحرص الذاتي لدى
المتشددين اليهود لسكنى القدس، فقد كان هناك تشجيع رسمي لإحلالهم فيها، وقد
نقلت صحيفة
(هاآرتس) الإسرائيلية في (6/8/1995م)
أن وزارة الإسكان أعدت خطة لإسكان المتدينين في القدس، تشمل 120 ألف وحدة سكنية منها 6500 وحدة بالقرب من مدخل القدس. ومما يدل على أن مشاريع الإسكان هذه لا تقل أهمية وخطورة عن مشاريع الحرب أن اليهود أوكلوا إلى الدموي (أرييل شارون) الذي كان وزيراً للحرب منصبَ وزير الإسكان [8] ، ليحوّل شراسته في الحرب إلى شراهة في التهام وتكثير المستوطنات وتعميرها باليهود. وقد أثارت هذه الحُمّى الإسكانية انتباه المراقبين في الإعلام الدولي حتى إن صحيفة (الفيجارو) الفرنسية الصادرة في (16/6/1997م) رصدت الظاهرة، وكتبت تقول تحت عنوان: (غزو حقيقي للقدس) : (إن اليهود المتدينين يقومون بنشاط محموم بالتحالف مع الأحزاب الدينية والحاخامات، لجعل القدس مدينة محكومة بتعاليم التوراة فقط) ، وذكرت الصحيفة أن غزو المتدينين اليهود (الحريديم) للمدينة ظهرت له آثار عديدة، فقد حصلوا على حق إغلاق العديد من الأحياء في المدينة في وجه حركة المرور في يوم السبت تمشياً مع تعاليم التوراة التي تحظر أي نشاط غير العبادة في يوم السبت، كما أن هناك فِرَقاً مسموحاً لها بأن تأمر النساء بالاحتشام وتنكر على النساء العلمانيات اللاتي يرتدين ملابس غير لائقة، وذكرت الصحيفة أن هؤلاء المتدينين يتلقون الإعانات والتبرعات من يهود الشتات، ويتفرغون للتعليم الديني، ولا يشاركون في دفع الضرائب، وتعفيهم السلطة من الخدمة في الجيش إذا أرادوا، وقد قدمت لهم البلدية إحدى عشرة ومائة قطعة من الأرض مجاناً ليقيموا عليها سبعة وثمانين معبداً يمارسون من خلالها أنشطتهم في أنحاء المدينة.
وذكرت صحيفة نيوزويك في عددها الصادر في (20/12/1416هـ) أن مدينة القدس، أصبحت معقلاً للتطرف اليهودي، وأشارت إلى أن عدد اليهود غير المتدينين الذين يغادرون المدينة في ازدياد؛ حيث أصبحت المدينة مكاناً غير مقبول بالنسبة لهم، نظراً للطابع الديني والقيود التي يضعها المتدينون اليهود على الحياة هناك.
والتمدد الديني بدأ يتسرب إلى باقي أجزاء الدولة اليهودية؛ فقد نجح المتدينون
الذين تسلموا سبع حقائب وزارية في وزارة نتنياهو، إضافة إلى رئاسة أهم اللجان
البرلمانية وهي (لجنة الدستور) في أن يكثفوا الدعوة إلى التطبيق الشامل لـ
(الشريعة اليهودية) وقدموا مقترحات رسمية لإغلاق كافة المصالح التجارية
والترفيهية اليهودية يوم السبت، إلى جانب إغلاق الشوارع الرئيسة في المدن
الكبرى الثلاث: القدس، وحيفا، وتل أبيب أمام حركة المرور، وإغلاق مطار اللد
في هذا اليوم أمام حركة الطيران الدولية! ! وامتثالاً لمطالب المتدينين أيضاً
حظرت الحكومة على كافة العاملات في البرلمان (الكنيست) ارتداء الملابس
القصيرة والسراويل.
[مجلة المجلة العدد (855) 14/2/1417هـ]
والقلق يتزايد في أوساط العلمانيين من نشوب حرب أهلية في القدس بين
المتدينين والعلمانيين؛ حتى إن صحيفة (معاريف) كتبت تقول في عددها الصادر
في 14/7/1996م: (إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه في ظل حكم الليكود،
فإن العلمانيين لن يستطيعوا المعيشة بالقدس وقد يضطرون إلى المواجهة، ونقلت
الصحيفة عن وزير البيئة في الحكومة العمالية (يوسي ساريد) تخوّفَه من استسلام
العلمانيين للأمر الواقع؛ حيث قال: (إنني مُحبَط من أن جمهور العلمانيين تركوا
الساحة في الواقع في أيدي الدينيين) ! وأظهر استطلاع أجراه معهد
(جيئوقرتوجرافيا) أن نصف سكان إسرائيل يعتقدون بإمكانية قيام حرب أهلية بين
المتدينين والعلمانيين)
[صحيفة هاتسوفين الإسرائيلية (23/12/96]
إن بعض (الواقعيين) العرب، بدأوا يراهنون كعادتهم على هذا الخطر على
دولة (إسرائيل) وبدأوا ينسجون الأوهام حول احتمال أن تنفجر إسرائيل بالحرب
الأهلية الداخلية، بعد أن أخفق العرب في إخضاعها بالحروب الخارجية. وهذا
التصور، فوق أنه (احتمال) لا ينبغي أن تُبنى عليه المواقف والآمال، فهو احتمال
نستبعده، لأمرين:
الأول: أن اليهود المتدينين يعتبرون اليهود غير المتدينين مخزوناً استراتيجياً
بشريّاً لهم، ويراهنون على أن قطاعات كبيرة منهم ستصهرها حرارة الأحداث
القادمة في بوتقة اليهودية (الأصولية) .
الثاني: أن اليهود العلمانيين لن يكرههم أحد وهم علمانيون دنيويون على
البقاء داخل القدس، بل داخل إسرائيل، إذا داهمهم خطر الحرب والقتل والدم.
بل فوق هذا وذاك يُعِدّ يهود العالم (الأصوليةَ) اليهودية والنصرانية أيضاً
لتكون سلاح ردع في وجه (الأصولية) الإسلامية، التي ينظرون إليها على أنها
العدو الأول والأخطر، وهم قد أدركوا تماماً أن جندية: (أمجاد يا عرب أمجاد)
المناضلة تحت راية القومية العربية الفاشلة، قد بدأ يتجاوزها الزمان، بعد أن بدأت
تلوح في الأفق إرهاصات القدوم المظفر لجندية (الله أكبر) المقاتلة تحت راية
الإسلام الخالد.
فعلى طريقة: (لا يفل الحديد إلا الحديد) يبدو أن اليهود عازمون على تصدير
غلاتهم ومتشدديهم في صف المواجهة الأول مع مشروع الإسلام الجهادي التحريري
في بيت المقدس وما حوله. وما يتناثر من تصريحات اليهود هنا وهناك، يصبّ
جميعه في هذا الاتجاه. قال شمعون بيريز رئيس الوزراء السابق في مقال كتبه
لصحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية في 17/1/1997م: (إن الشرق الأوسط يقف عند
مفترق طرق خطير، لا شيء فيه يمكن أن يبقى كما كان، الوضع يتغير بسرعة،
وعلينا أن نختار بين التحول باتجاه سلام يصبح لنا فيه اقتصاد جديد، وبين تحول
إلى التطرف والأصولية، يصبح له سلاح جديد. إنني أرى بوضوح قوة التحول
إلى غير المرغوب؛ إن التحوّل الأصولي الإسلامي الذي يستهدف النصرة من
شريحة عملاقة من السكان في العالم الإسلامي تقدر بمليار و300 مليون رجل
وامرأة، تحوّل لا يعتمد على المنطق، بل على التقديس وقصص الأساطير
والمعجزات والوعود بنعيم الجنة، وعلى رأس هذا التحول يقف رجال دين منظمون
، ومنظمات إرهابية في كافة أرجاء العالم، إضافة إلى دول ترعى الإرهاب وتسعى
للتزود بأسلحة صاروخية ذات رؤوس غير تقليدية، وتستعد لحيازة رؤوس نووية.. إذن؛ أردنا أم لم نرد، فإننا مضطرون للاختيار مع القرن القادم بين السلام، أو
مواجهة تعصب القرون الوسطى) ! وأردف بيريز قائلاً: (حتى سنة 2000م،
سيكون الشرق الأوسط مسلحاً من أخمص قدميه إلى رأسه بالصواريخ ذات
المسافات المتنوعة وبأسلحة غير تقليدية، وفوق هذا.. بأصولية عطشى وجائعة،
ومن شأن ذلك أن يغري بخوض حرب جديدة، والأكثر من ذلك ربما وإلى أن تحل
سنة 2000م تتصاعد من جديد المنافسة على زعامة العالم؛ حيث ستصبح المنطقة
ساحة واسعة لمن يحسم الصراع لصالحه) !
وقد أجرت صحيفة (هاآرتس) حديثاً في (22/11/1996) مع بنيامين نتنياهو
وسأله الصحفي عن المخاطر الرئيسة التي تواجهها إسرائيل فقال: (إن عالم القرن
القادم سيكون متعدد الأقطاب وغير مستقر، وسنتعرض إلى خطرين رئيسين:
الخطر الأول: يأتي من داخل الفلسطينيين، أما الخطر الثاني: فسيتمثل في التهديد
الإسلامي من خارج فلسطين، ويتمثل الحل بالنسبة للتهديد الأول في أن نخلّص
الفلسطينيين من حلمهم، فمن الضروري أن يتحرروا من فكرة (الخلاص) ، وفيما
يتعلق بالخطر الثاني فلا أرى أنه يوجد حل سهل، واعتقد أن حل هذه القضية بعيد
عن إسرائيل، ومع هذا فإني شديد التفاؤل خاصة وأني واثق من أن دولة إسرائيل
ستصبح أكثر قوة مما هي عليه حالياً خلال السنوات القليلة القادمة، وستتحول
إسرائيل إلى جهة بالغة القوة في عالم ما بعد الصناعة الذي نقتحمه) !
ورغم محاولة نتنياهو تغليف خوفه من (الخطر الإسلامي) بالتفاؤل، إلا أننا
نلحظ أنه لم يسجل للأنظمة العلمانية خطراً يذكر على إسرائيل؛ فالإسلام داخل
فلسطين، والإسلام خارج فلسطين هو فقط الخطر الذي يؤرق أحلام اليهود.
لأجل هذا الرعب والذعر المتنامي عند كبار زعماء اليهود من (الخطر
الإسلامي) فإنهم يعمدون إلى استنهاض الهمم اليهودية والنصرانية المتشددة؛ إلى ما
يمكن تسميته بـ (توازن الرعب) فإلى جانب أسلحة الردع النووية والكيماوية
والبيولوجية التي تتترس بها دولة اليهود، فإنها تريد أيضاً حيازة ترسانة بشرية من
السلاح (الأصولي) لتخزينه في الأرض المقدسة، ليستخدم عند الحاجة ضد ما
أسموه (الأصولية الإسلامية) !
وما نعتقده، أن (الحشر) اليهودي إلى بيت المقدس، ومجيئهم إليه لفيفاً،
وعمرانهم إياه بالبناء والسكنى، ليس إلا مقدمة ليوم تحتشد فيه قوى الإيمان في
مقابلهم، مصداقاً لقول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال
عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس
وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) [9] .
وبين (الأصوليتين) المتواعدتين قدراً للقاء محتوم على أبواب بيت المقدس،
هناك أصولية ثالثة، تتحسس خطاها، وتستحث أتباعها للقدوم إلى الأرض المقدسة؛ حيث ولد المسيح عيسى عليه السلام، وحيث سيعود. إنهم لا يرون للمسلمين حقاً
في هذه الأرض بشهادة تاريخ النصارى القديم والحديث بل لا يرون لليهود حقاً فيها
إلا باعتبارهم أداة قدرية تهيئ الدنيا لمقدم هذا المسيح العائد لتعميد اليهود والبشرية
كلها في الأرض المقدسة.
فعن هذه الأصولية الثالثة، المتهيئة والمتحفزة لاستقبال الألفية الثالثة في
الأرض المقدسة وفي احتفالات (بيت لحم 2000م) سيكون حديثنا في لقاء قادم إن
شاء الله.