دراسات تربوية
د. عمر النمري
تلتقي نظريات علم النفس الحديث مع الإسلام في أن العقوبة أمر مشروع لمن
لم تُفد معه الأساليب التربوية الأخرى كالمدح والثناء في وضع حد للسلوك الخاطئ
وإطفائه؛ ذلك أن بعض الناس لا يرتدعون إلا بالعقوبة؛ وقد جاء في الأثر: (إن
الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) .
والإسلام يُجيز العقوبة ويشرّع لها؛ ولذلك وضع عقوبات وحدوداً معينة
لبعض الجرائم الأخلاقية: فجريمة القتل حدها القتل، وجريمة السرقة حدها قطع
اليد، وجريمة شرب الخمر حدها الجلد، وكذلك جريمة الزنا لغير المحصن حدها
الجلد أيضاً.
وهكذا نجد في القرآن الكريم تفاصيل هذه الحدود بما لا يدع مجالاً للشك؛ قال
تعالى في حد القتل: [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأََلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]
[البقرة: 179] . فجعل حياة المجتمع وقفاً على موت بعض أفراده السيئين قطعاً
لجذور الفساد وردعاً لمن تسول له نفسه القيام بذلك جزاء وفاقاً.
وقال في حد السرقة: [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [المائدة: 38] .
وقال في حد الزنا: [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَاًخُذْكُم بِهِمَا رَاًفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ] [النور: 2] .
وقال تعالى في جواز ضرب الرجل زوجته ضرباً غير مبرح: [وَاللاَّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياً كَبِيراً] [النساء: 34] .
وفي تأديب الصبي وجواز ضربه على إهمال الصلاة إذا بلغ عشراً، قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين،
واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) [1] .
وهكذا يتبين لنا من هذه الأدلة أن الإسلام يجيز مبدأ العقاب ويشرع له،
ولذلك لا نجد من التربويين المسلمين الأوائل من أنكر مبدأ العقاب في التربية؛
ولكنهم أحاطوه بسياج من الشروط والقيود، وجعلوه تالياً للمدح، وقدموا عليه الرفق؛ عملاً بقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرفق لا يكون في شيء
إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) [2] .
وعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا عائشة! إن الله
رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي
على ما سواه) [3] .
ونجد من بين التربويين الأوائل الذين تكلموا في هذا الموضوع: الإمام الفقيه
محمد بن سحنون (ت 256هـ) ، وأبا الحسن القابسي (ت 324 هـ) ، وابن الجزار القيرواني الطبيب (ت 369هـ) ، والغزالي (ت 505 هـ) ، وبرهان الدين الزرنوجي (ت 640 هـ) ، وابن جماعة الكناني (ت 733هـ) وابن خلدون
(ت 808 هـ) وغيرهم.
قال ابن سحنون: (ولا بأس أن يضربهم يعني المؤدب أو المعلم على منافعهم، ولا يتجاوز بالأدب ثلاثاً إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحداً،
ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشراً، وأما على القرآن فلا
يجاوز أدبه ثلاثاً) [4] .
ويعلل ابن سحنون ذلك بقوله: (لأن عشرة غاية الأدب؛ وكذلك سمعت مالكاً
يقول: وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط
إلا في حد) .
وقد جاء في وصية ابن سحنون لمعلم ولده: (لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف
الكلام، وليس هو ممن يؤدّب بالضرب والتعنيف) [5] .
ويلتقي أبو الحسن القابسي مع ابن سحنون في ضرورة الرفق بالصبيان وعدم
تجاوز الثلاثة في التأديب، وإنما يلجأ إلى الضرب فقط عندما لا ينفع العذل
والتقريع بالكلام الذي فيه التوعد من غير شتم ولا سب لعِرْض، يقول أبو الحسن
القابسي: (وإذا استأهل الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل
اجتهاده لئلا يزيد رتبة فوق استئهالها، وهذا هو أدبه إذا فرّط فتثاقل عن الإقبال
على المعلم، فتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه، أو في كتابة لوحه.
ولئن سمح القابسي للمعلم بمعاقبة التلاميذ بهذا القدر من الضرب إلا أنه علّق
ذلك على مدى استئهال التلميذ لذلك، وقيّده بثلاثة، واشترط في تجاوز الثلاثة إلى
العشرة مشورة أبي الصبي أو ولي أمره ومدى احتمال الصبي للضرب فوق الثلاثة
إذا استأهل ذلك، وألا يتعدى أثر الضرب الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن المُضِر. وعلى الجملة: فالمعلم عنده عوض عن الأب بالنسبة للصبيان (فهو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عما لا يَصْلح لهم، والقائم بإكرامهم على مثل منافعهم؛ فهو
يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حسن رِفْقه بهم، ولا من
رحمته إياهم؛ فإنما هو لهم عوض من آبائهم) [6] ويعلل القابسي ذلك بقول
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم
فارفق به) [7] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب الرفق في الأمر
كله) [8] .
وقد تحدث ابن الجزار القيرواني الطبيب عن الفرق بين الصبيان في مدى
قبولهم للأدب؛ إذ منهم من يتقبل الأدب قبولاً سهلاً، ومنهم من لا يقبل ذلك،
ومنهم من إذا مُدِحَ تعلم علماً كثيراً، ومنهم من يتعلم إذا عاقبه المعلم ووبخه، ومنهم
من لا يتعلم إلا إذا استعملت معه أساليب أشد تعنيفاً كالضرب مثلاً. ولذلك قرر ابن
الجزار مراعاة هذه الفروق الفردية، واتباع الأسلوب المناسب لتأديب كل صبي بما
يناسبه من الأساليب؛ حيث قال: (فأما إذا كان الصبي طبيعته جيدة، أعني: أن
يكون مطبوعاً على الحياء وحب الكرامة والألفة محباً للصدق؛ فإن تأديبه يكون
سهلاً، وذلك أن المدح والذم يبلغان منه عند الإحسان أو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة
من غيره، فإن كان الصبي قليل الحياء، مستخفاً للكرامة، قليل الألفة، محباً
للكذب، عسراً تأديباً، ولا بد لمن كان كذلك من إرهاب وتخويف عند الإساءة، ثم
يحقق ذلك بالضرب إذا لم ينجح التخويف [9] .
وقد بين الغزالي أن الطريق في رياضة الصبيان وتأديبهم ينبغي أن يؤسس
على الرفق واللين، والثواب والمدح لا العقاب والشدة والتعنيف؛ حيث قال: (ثم
مهما ظهر من الصبي من خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى
عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة
واحدة؛ فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتك ستره، ولا يكاشفه، ولا يظهر له أنه
يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛
فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد
ثانية فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم الأمر فيه، ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك
لمثل هذا، وأن يُطّلع عليك في مثل هذا فتُفضح بين الناس. ولا تكثر القول عليه
بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع
الكلام من قلبه) [10] .
أما العلاّمة ابن خلدون فقد عقد في مقدمته فصلاً في أن الشدة على المتعلمين
مُضرّة بهم، أشار فيه إلى الأضرار الخطيرة التي تعود على الفرد في مرحلة الرشد، وعلى المجتمع بأسره نتيجة الشدة والتعنيف في تأديب الولدان في الصّغر، وما
ينجرّ عنها من فساد وسوء خلق وتعوّد على الكذب والخبث والكيد والمكر والخديعة؛ لأن الراشد قد تعوّد في صغره التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط
الأيدي بالقهر عليه، فصار ذلك له خلقاً وعادة لم يستطع منها فكاكاً في الكبر.
يقول ابن خلدون: (ومن كان مَرْباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك
أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النّفْسِ في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه
ذلك إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره
خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له
هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدّن،
وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل
وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل؛ فانقبضت عن غايتها ومدى
إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين) [11] .
ولم يكتف ابن خلدون بهذه الإشارة الجميلة للآثار المترتبة على العنف في
التربية؛ بل ضرب لنا مثلاً واقعياً باليهود وما اتصفوا به من خبث ومكر وكيد؛
ومردّ ذلك حسب تحليله يعود إلى ما لقوه من قهر وعسف نتيجة تيههم وتفرقهم في
الأمصار. يقول ابن خلدون: (وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق
السوء، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج؛ ومعناه في الاصطلاح
المشهور: التخابث والكيد؛ وسببه ما قلناه. (أي: العسف والقهر في
التأديب) [12] . ولذلك دعا ابن خلدون إلى الرفق بالمتعلم واجتناب الشدة في تأديبه وتهذيبه، واستحسن وصية الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين، واعتبرها من أحسن مذاهب التعليم، ومما جاء فيها: (يا أحمر! إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أقرئه القرآن، وعرّفه الأخبار، وروّه الأشعار، وعلّمه السنن، وبصّره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا
مجلسه، ولا تمرّنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدها إياه، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة؛ فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة) [13] .
وأجمل منها وصية مسلمة بن عبد الملك إلى مؤدب ولده؛ حيث قال: (إني قد
وصَلْتُ جناحك بعضدي، ورضيتُ بك قريناً لولدي؛ فأحسن سياستهم تدم لك
استقامتهم، وأسْهِلْ بهم في التأديب عن مذاهب العنف، وعلّمهم معروف الكلام،
وجنّبهم مثاقبة اللئام، وانههم أن يُعرَفوا بما لم يَعْرِفوا، وكن لهم سائساً شفيقاً،
ومؤدباً رفيقاً تكسبك الشفقة منهم المحبة، والرفق حسن القبول ومحمود المغبة،
ويمنحك ما أرى من أثرك عليهم، وحسن تأديبك لهم مِني جميل الرأي، وفاضل
الإحسان ولطيف العناية) [14] .
ومما سبق يتضح أن المربين المسلمين الأوائل وإن أقرّوا بدور العقاب في
التربية إلا أنهم جعلوه من باب: (آخر العلاج الكي) بحيث لا يلجأ إليه المربي إلا
عند الضرورة القصوى، وضمن حدود معينة، وشروط محددة؛ فهم قد فاضلوا بين
الأساليب التربوية على النحو الآتي:
1- المدح والثناء والترغيب:
اعتبر التربويون المسلمون الأوائل الثواب والمدح والثناء الأسلوب الأمثل،
والحافز الأقوى للتعلم، ولذلك طالبوا المعلم بالمبادرة به قبل غيره، وأن لا يلجأ إلى
غيره إلا لحاجة ملحّة قد تفرضها طبيعة الصبي كأن يكون الصبي قليل الحياء
مستخفّاً بالكرامة، قليل الألفة محباً للكذب. وفي ذلك يقول أبو الحسن القابسي:
(وإذا هو أحسن يغبطه بإحسانه من غير انبساط إليه ولا منافرة له ليعرف وجه
الحسن من القبيح فيتدرج على اختيار الحسن) [15] .
وفي ذلك أيضاً يقول الغزالي: (ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل، وفعل
محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر
الناس) [16] .
وقد مر معنا وصية ابن سحنون لمؤدب ولده: (ولا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف
الكلام) [17] .
كذلك أوصى ابن جماعة المعلم بشكر التلميذ إذا أصاب الجواب ومدحه والثناء
عليه، فقال: (فمن رآه مصيباً في الجواب، ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره
وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد) [18] . وقد
كان المربون الأوائل يتحينون الفرص لتشجيع الأولاد وحثهم على المنافسة النزيهة
في العلم وتحصيله. قال ابن سحنون في حث المعلم على ذلك: (وينبغي أن يجعل
لهم وقتاً يعلمهم فيه الكتاب ويجعلهم يتجاوزون؛ لأن ذلك مما يصلحهم ويخرجهم،
ويبيح لهم أدب بعضهم بعضاً) [19] .
وكانوا إذا حذق الصبي القرآن أي أصبح ماهراً فيه جمعوا له الناس وعملوا
له وليمة لتشجيعه ومدحه بين الناس بما يدفعه إلى الاستزادة من العلم وتحصيله؛
خصوصاً إذا علمنا أن أول ما يتعلمه الصبي في الكتّاب القرآن الكريم، فهو بختمه
القرآن الكريم وحذقه لا يزال في بداية الطريق. جاء في: (كتاب العيال) للحافظ
ابن أبي الدنيا: (حدثني بشر بن معاذ العبدي، حدثنا أبو عمارة الرازي، حدثنا
يونس، قال: حذق ابنٌ لعبد الله بن الحسن بن أبي الحسن، فقال الحسن: إن فلاناً
قد حذق.
فقال الحسن: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً
للناس) [20] .
وبهذا يكون المربون الأوائل قد سبقوا بأشواط كثيرة علماء النفس المحدثين في
تقرير أهمية المدح والثناء في التربية. ويشار إلى أسلوب التشجيع والثواب في علم
النفس بمصطلح (التعزيز) . ومعناه المكافأة ويعتبر التعزيز، سواء كان معنوياً
كالمدح والثناء، أو مادياً، من أهم الأساليب الحديثة في تعديل السلوك وتهذيبه.
وهكذا يتضح أن التربويين المسلمين قد لامسوا الموضوع عن قرب ولكن دون
الدخول في تفصيلات كبيرة كما هو الشأن بالنسبة لعصرنا الحالي الذي تشعبت فيه
التخصصات.
2- الإيحاش والإعراض والتّرْك:
ويعتبر الإيحاش والإعراض والترك أقل درجات العقوبة المعنوية؛ فالمعلم قد
يلحظ على الصبي ملحظاً أو يرى منه تصرفاً غير لائق؛ ولكنه يُعرض عنه
ويتغافل عنه ولا يعنفه أو يشتد عليه في العقوبة؛ ربما لأن الصبي قام بهذا السلوك
مرة واحدة فيعفو عنه، أو لأنه كان يتوقع أن ما قام به يعتبر لائقاً وينتظر عليه
مكافأة من المعلم ولو في صورة مدح أو بشاشة وجه أو اهتمام به، فيعرض المعلم
عنه ويبدي له نوعاً من الإيحاش وعدم البشاشة. وقد أشار الغزالي إلى هذا
الأسلوب بقوله: (فإن خالف ذلك (أي: أتى فعلاً غير محمود أو تخلق بخلق غير
جميل) في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا
يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره
الصبي واجتهد في إخفائه) [21] .
ويشار إلى هذا الأسلوب في نظريات التعلم بمصطلح: (الانطفاء) .
ومعناه أن الصبي إذا قام بسلوك غير لائق وتجاهله المعلم وأعرض عنه ولم
يُبْدِ نوعاً من الإيناس وبشاشة الوجه للصبي؛ فإن الصبي يبدي رغبة أقل في
تكراره ويتركه؛ فينطفئ. وقد قدم لنا كل من (مارتن وبير) في كتابهما: (تعديل
السلوك) عدة شروط يجب مراعاتها لكي يكون استخدامنا للانطفاء أكثر فعالية في
تعديل السلوك، يمكن الرجوع إليها في مظانها لمن رام المزيد.
3- الذم والتوبيخ والترهيب:
إذا لم ينفع مع الصبي أسلوب الإيحاش والإعراض والترك يلجأ المعلم إلى
أسلوب أشد في العقوبة المعنوية وهو أسلوب الذم والتوبيخ والترهيب والوعيد
الشديد دون إيقاع الضرب ودون التبذل في العذل والتقريع في الكلام أو اللجوء إلى
الشتم والسب. وقد جعل أبو الحسن القابسي هذا الأسلوب في العقوبة أعلى درجات
العقوبة المعنوية، ويليه مباشرة إيقاع العقوبة البدنية بالصبي إذا استأهل ذلك.
كذلك أشار الغزالي إلى أن الصبي إذا نُهي عن التخلق بسيئ الأخلاق فلم ينته، ولم ينفع معه أسلوب الإيحاش والإعراض والترك فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم
الأمر فيه؛ فيقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يُطّلع عليك في مثل هذا
فتُفتضح بين الناس [22] . فإن لم ينته الصبي عن ذلك يُلجأ إلى العقاب الجهري
والتغليظ في القول لينزجر السامع ومن معه ويتأدبوا بذلك؛ فإن لم ينفع معه ذلك
يُلجأ إلى العقوبة البدنية على النحو الذي سيأتي ذكره.
4- العقوبة البدنية:
إذا لم تفلح أساليب العقوبة المعنوية من إيحاشٍ وإعراضٍ وذمٍ وتوبيخٍ
وتخويفٍ يَلجأ المعلم إلى العقوبة البدنية؛ حيث أجاز الإسلام العقوبة البدنية وشرع
لها كما أسلفت، كما أجاز المربون المسلمون استعمال الضرب لتأديب الصبيان؛
ولكنهم جعلوه آخر أسلوب في التربية، وأحاطوه بسياج من القيود والشروط. وفيما
يلي الشروط التي وضعها أبو الحسن القابسي للعقوبة البدنية [23] :
1- ألاّ يستعمل المعلم الضرب إلا لذنب.
2- أن يوقع المعلم الضرب بقدر الاستئهال الواجب في الجُرْم (وإذا استأهل
الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في
رتبة فوق استئهالها) [24] .
3- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن القائم بأمر الصبي في
الزيادة إلى عشر ضربات. فإن اكتسب الصبي جرماً من أذى ولعب، وهروب من
الكتّاب، وإدمان البطالة فينبغي للمعلم أن يستشير أباه، أو وصيه إن كان يتيماً،
ويُعْلمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه
التقصير في التعلم عن إذن من القائم بأمر هذا الصبي، ثم يزاد على الثلاث ما بينه
وبين العشر [25] .
4- أن يزاد على عشر ضربات إذا كان الصبي يطيق ذلك أو كان سيئ
التربية غليظ الخلق. (وربما كان من صبيان المعلم من يناهز الاحتلام ويكون سيئ
الرعية، غليظ الخلق، لا يروعه وقوع عشر ضربات عليه ويرى للزيادة عليه
مكاناً، وفيه محتمل مأمون، فلا بأس إن شاء الله من الزيادة على العشر
ضربات) [26] .
5- أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه: (ولْيتولّ أدبهم بنفسه؛ فقد أحب
سحنون ألا يُولي أحداً من الصبيان الضرب) [27] .
6- أن يوقع المعلم الضرب على الرّجْلين دون الوجه والرأس: (وليتجنب أن
يضرب رأس الصبي أو وجهه؛ فإن سحنون قال فيه: لا يجوز له أن يضربه،
وضرر الضرب فيهما بيّن، قد يوهن الدماغ، أو تطرف العين أو يؤثر أثراً قبيحاً، فلْيُجتنبا؛ فالضرب على الرّجْلين آمن وأحمل للألم في سلامة) [28] .
7- أن يكون الضرب بحيث لا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن
المضر: (وصِفَة الضرب: هو ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع، أو
الوهن المضر) [29] .
8- أن تكون الدّرّة التي يضرب بها المعلم الصبيّ رطبة مأمونة لئلا تؤثر
أثراً سيئاً.
9- ألاّ يكون الضرب انتقاماً من الصبي وإنما يكون لعلاجه وتأديبه: (ينبغي
لمعلم الأطفال أن يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم، وليس لمعلمهم في ذلك
شفاء من غضبه، ولا شيء يريح قلبه من غيظه؛ فإن ذلك إن أصابه فإنما ضَرَبَ
أولاد المسلمين لراحة نفسه، وهذا ليس من العدل) [30] .
ومن استعراض هذه الأساليب ومفاضلة التربويين المسلمين بينها يتبين لنا
مدى حرصهم على الرفق بالصبيان عند تعليمهم وتأديبهم ومدى تضييقهم على مسلك
العقاب في التربية.
ونجد في الدراسات النفسية الحديثة دعوة ملحة لاجتناب استخدام العقاب في
التعليم، وإشارات عديدة لكون العقاب يعد أقل الأساليب التربوية فعالية في التعليم،
ومع ذلك فإنِ احتاج المعلم إليه فعليه أن ينبه الصبيّ إلى مواضع الخطأ قبل إيقاع
العقاب عليه، وأن يبين له السلوك البديل فيما أخطأ فيه، وإذا أوقع عليه العقاب
فليكن القصد منه مصلحة الصبي دون التهجم على شخصه.