مجله البيان (صفحة 3015)

البقرة العاشرة.. أخرجوها، فمتى يذبحوها؟

المسلمون والعالم

حمّى سنة 2000

الحلقة الثالثة

(البقرة العاشرة) .. أخرجوها، فمتى يذبحونها؟ !

عبد العزيز كامل

هذه الحلقات

تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن

الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى

شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي

يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال

قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت

من عام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها

لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.

وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،

ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات

منفصلة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-

بدايةً، أعتذر للقارئ الكريم، عن إشغال جزء من صفحات هذه المجلة

الوقورة للكلام عن (بقرة) ! .. ولكن.. ماذا نفعل إذا كان أعداء الله من غلاة اليهود

يربطون مصير المنطقة الآن بمصير (بقرة) ؟ !

ولا أدري بالضبط ما هي حكاية اليهود مع البقر؛ فقد اتخذوا في بواكير

عهدهم مع موسى إلهاً من عجول البقر، كما جاء في القرآن: [وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى

مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ] [الأعراف: 148] .

ولهم مع البقر قصة أخرى، نزلت باسمها أكبر سورة في القرآن، وهي

سورة البقرة التي سميت بهذا الاسم لتدل على سوء الفهم وخبث الطوية لدى بني

إسرائيل في أمر تعنّتهم في البقرة التي أُمروا بذبحها، واستمرار هذا التعنت في

شؤونهم كافة، بما استحقوا معه أن يُنتزع منهم الاصطفاء، ويتحول إلى الأمة

الخاتمة، أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما دل على ذلك محور السورة

وهدفها الرئيس.

ولكن بني إسرائيل من يومها ظلوا يعيشون في وَهْمِ الاصطفاء والاختيار

والتميّز، مهما اقترفوا من خطايا وارتكبوا من موبقات، زاعمين أنهم [أَبْنَاءُ اللَّهِ

وَأَحِبَّاؤُهُ] [المائدة: 18] ، أما الشريعة التي أنزلها الله تعالى لهم، فقد بدلوها

وغيّروا فيها بما يُبقي عندهم الشعور الزائف بأنهم لا يزالون على دين صحيح

مقبول. والحق أن ما بقي لديهم من الديانة، إما مفتقر إلى الصحة أو مفتقر للقبول، فهو إما باطل مخترع، أو حق منسوخ.

وهناك أساطير كثيرة لا يزالون يتداولونها تدخل ضمن هذا السياق، فهي

باطل مخترع أو حق منسوخ، وقد تابَعَتْهم على بعضها طوائفُ من النصارى،

ولهذا فهم جميعاً يتقلبون بتلك المعتقدات الباطلة بين وَصْفَي: (المغضوب عليهم،

والضالين) .

وقد مر معنا في الحلقتين السابقتين كيف أن اليهود يحاولون إعادة إحياء كل

الأساطير البائدة المستمدة من التوراة المحرفة، وكأنهم بذلك يريدون الجمع بين

الخصوصية الزمانية (زمن الخلاص) والخصوصية الإنسانية (شعب الله المختار)

والخصوصية المكانية (الأرض المقدسة) .. ولكن هيهات هيهات أن تغير الأساطير

ما قضت به المقادير؛ فقد كتبت عليهم اللعنة إلى يوم الدين على ألسنة المرسلين.

أسطورة لها خوار:

في عام 1920م، وعندما بدأت المباحثات بين الاتحاد الصهيوني والإنجليز

من أجل التوصل إلى صيغة لتسليم فلسطين لليهود بعد انتهاء الانتداب، كان من

بين الموضوعات المطروحة للبحث: (ملكية جبل الهيكل) . وطرح الجانب

الإنجليزي في المباحثات سؤالاً: هل هذا المطلب مطلب عاجل أم آجل؟ وما مدى

اجتماع الشعب اليهودي حول هذا المطلب؟ فأجابهم الحاخام (راف كوك) قائلاً:

(يؤمن الشعب اليهودي كله إيماناً لا يتزعزع أن هذا المكان المقدس، وكل جبل

الهيكل هو مكان العبادة الأبدي للشعب اليهودي، ورغم أنه في حكم غيرنا الآن، إلا

أنه في النهاية سيقع تحت أيدينا، ويوم تقع أرض الهيكل في أيدينا، ستأتي إشارة

من الرب (البقرة الحمراء) وبعدها نبدأ فوراً في البناء؛ حيث تنبأ بذلك أنبياء بني

إسرائيل) [1] .

والنبوءة التي أشار إليها الحاخام، هي معنى ما ورد في الإصحاح التاسع

عشر من سفر العدد بالتوراة، ونصها: (وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: هذه

فريضة الشريعة التي أمر بها الرب قائلاً: كلّم بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة

حمراء صحيحة لا عيب فيها، ولم يعْلُ عليها نِيرٌ [2] فتعطوها (ألعازار) الكاهن

فتخرج خارج المحلة، وتذبح قدامه، ويأخذ ألعازار الكاهن دمها بأصبعه، وينضح

من دمها في وجه خيمة الاجتماع سبع سنوات، ويحرق البقرة أمام عينيه، يحرق

جلدها ولحمها ودمها مع فرثها، ويأخذ الكاهن خشب أرز وزوفاً وقرمزاً،

ويطرحهن وسط حريق البقرة، ثم يغسل الكاهن ثيابه ... ) ثم بيّن النص العلة من

ممارسة هذا الطقس: (.. تكون البقرة لبني إسرائيل وللغريب النازل في وسطهم

فريضة دهرية) .

ولكن: لماذا حوّل اليهود تلك (الفريضة) إلى نبوءة و (إشارة) من الرب؟ !

في الواقع أنهم يربطون بين تنفيذها وبين إعادة بناء الهيكل؛ فالفريضة.. أو

النبوءة.. أو البقرة الحمراء، ستكون دلالة عندهم على أن الزمن الذي ظهرت فيه

هو نفسه زمان الهيكل الثالث بعد إعادة بنائه. ولعل هذا يفسر لنا استمرار غياب

الكلام عن مثل تلك الطقوس خلال أزمنة اليهود الخالية التي لم يكن لهم فيها تمكين. ويعتقد اليهود المتدينون أنه قبل ألفي عام مضت، في حقبة المملكتين اليهوديتين،

الأولى والثانية؛ تم مزج رماد بقرة حمراء صغيرة ذبحت في عامها الثالث، وخلط

دمها بالماء، واستخدم في (تطهير) الشعب اليهودي، ليصبح مهيأً للدخول إلى

الهيكل المقدس، ويعتقدون أيضاً أنه لم تولد طوال التاريخ اليهودي بقرة بتلك

الأوصاف منذ دمر الهيكل الثاني عام 70 للميلاد، وعلى حسب التاريخ الديني

اليهودي، فإنه قد جرت التضحية ببقرة حمراء واحدة في زمن الهيكل الأول،

وبثماني بقرات في زمن الهيكل الثاني.. واليوم، يستعدون لمرحلة الهيكل (الثالث)

وزمان البقرة (العاشرة) .

البحث عن البقرة:

لم يعد سراً تزايد حرص اليهود على المزيد من الخطوات العملية المتفاعلة

الآن من أجل إعادة بناء الهيكل بعد الانتهاء من هدم مسجدي الأقصى والصخرة،

وبما أن الهيكل لن يعمره بالعبادة إلا أناس (مطهرون) من النجس، وبما أن هذا

النجس لن يزول إلا برماد البقرة، وبما أن البقرة لم تكن موجودة إلى عهد قريب،

فإن جهود اليهود اتجهت للبحث عن بقرة تطل بقرنيها على مشارف القرن الجديد..

فلا بد من ظهورها أو إظهارها، ولو اقتضى الأمر استحداث بيئات وظروف

تستخرج تلك البقرة استخراجاً من بين ملايين البقر! ! وهذا ما كان؛ فمنذ عدة

سنوات، تعهد كاهن أمريكي يُدعى (كلايد لوت) ينتمي إلى جماعة (حركة الهيكل

الثالث) الإنجيلية الأصولية بأن يوقف جهوده للعثور على بقرة بالمواصفات الدقيقة

الواردة في العهد القديم، ونذر نفسه للمساعدة في أي مشروع يتعلق بإعادة تأهيل

الهيكل للعبادة، وقد جرت اتصالات ومقابلات عام 1989م بين هذا الكاهن وبين

الحاخام الإسرائيلي (حاييم ريتشمان) الذي يعمل في معهد (الهيكل المقدس) حيث

اقترح ريتشمان فكرة إنشاء مزرعة لإنتاج وتربية الأبقار من سلالة (ريدنفوس)

الضاربة إلى الحمرة، فاقتنع الكاهن، وأنشأ بالفعل تلك المزرعة في ولاية

ميسيسيبي الأمريكية، وقد أنشأ هذا الكاهن فيما بعد فرعاً لمزرعته في مدينة حيفا،

تحسباً ليوم تولد فيه البقرة المنتظرة!

إعلان العثور على البقرة.. وماذا يعني؟

أخيراً ... وبعد ما يقرب من ألفي عام، ادعى اليهود أنهم وجدوا ضالتهم! لقد

ظهرت البقرة! ! ففي شهر أكتوبر من عام 1996م، تم الإعلان عن ميلاد بقرة

حمراء مطابقة للمواصفات الواردة في التوراة، وأعلن أنها ولدت في مزرعة (كفار

حسيديم) وعلى الفور ذهب وفد من الحاخامات لمعاينة حالة مولود العصر،

ومقارنته بالأوصاف المذكورة في التوراة، ثم أعلنوا وقتها مطابقة المولودة

للمواصفات بعد أن باركوها، وأمروا بفرض حراسة مشددة حولها!

... ... ... ... ... [جريدة الأخبارالمصرية، 25 إبريل 1997م]

لقد كان الإعلان عن العثور على البقرة بداية لمرحلة جديدة ومثيرة من الهوس

الألفي عند اليهود وأنصارهم من البروتستانت المتهودين في أمريكا وبريطانيا،

وتناولت وسائل الإعلام الحديث بتغطية متلفعة بالتكهنات والتوقعات والحذر؛ فقد

نشرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية في عددها الصادر في (9/7/1997) أخبار

الحدث قائلة: (سيكون الذبح الطقسي للبقرة الحمراء بعد ثلاث سنوات من ميلادها،

بداية العد التنازلي للعودة الكبيرة لليهود إلى موقع عبادتهم السابق، وتبشيراً بمجيء

المسيح المخلّص، بيد أن محاولة تحقيق هذه العودة ستؤدي إلى بداية لا تُنسى

للألف الثالثة) !

لقد توافد الآلاف من اليهود (متدينين وغير متدينين) إلى مزرعة (كفار

حسيديم) في إسرائيل لمشاهدة هذا الكائن (الأسطوري) . ولحسم الفوضى التي يمكن

أن تنشأ عن هذا التدافع، لجأت الجهات اليهودية المهتمة بهذا الشأن إلى تنظيم

الزيارات والرحلات لزيارة البقرة! ! لقد نجح الشيطان لعنه الله في استثمار ضعف

الإنسان حيال الغيب المجهول، فأحدث بين اليهود حالة من النشوة، محفوفة بهالة

من الرهبة وممزوجة بالرغبة في اقتحام المزيد من أستار الغيب المجهول، ورأى

كبار زعماء الجماعات الدينية الفرصة سانحة لضخ الدماء في عروق التعصب

لمزيد من التأهب لمغامرات المستقبل القريب، ونظروا إلى البقرة التي أطلقوا عليها

اسم (ميلودي) على أنها أحدث إشارة بدنو العصر الأخير، وتوقع الكثيرون منهم أن

تستخدم دماء تلك البقرة عينها في احتفالات (تطهير) الشعب اليهودي، الذي لا

يمكن أن يمارس العبادة في الهيكل إلا بعد أن يتم تطهيره برمادها وفقاً لقول التوراة

التي بأيديهم: (كل من لم يتطهر فإنه ينجس مسكن الرب) [3] ورأى آخرون أن

هذه البقرة التي ظهرت هي حلقة الوصل المفقودة والمطلوبة للوصول السريع إلى

زمن إعادة الهيكل؛ حتى إن اليهودي الأصولي المتعصب (يهودا اتزيون) الذي كان

متهماً رئيساً في محاولة تفجير قبة الصخرة عام 1985م، أعلن بعد ظهور البقرة

ابتهاجه بهذا الحدث (التاريخي) وقال: (إننا ننتظر منذ ألفي سنة ظهور إشارة من

الرب، والآن أرسل لنا البقرة الحمراء، وظهورها يعتبر أحد أهم الدلائل على أننا

نعيش في زمن مميز، ولهذا فلا بد من الإسراع بإزالة مسجدي الأقصى والصخرة

من جبل الهيكل، ونقل بقاياهما إلى مكة) !

[السياسة الكويتية، 30/10/97]

وبدأ المتعصبون اليهود على الفور في استثمار الحدث، لإنشاء واقع جديد من

خلاله، فدعا عديد من زعماء الجماعات الدينية (الطليقة) في طول البلاد وعرضها

في (إسرائيل) إلى إلغاء الفتوى الحاخامية القديمة التي تحظر على اليهود دخول

ساحات المسجد الأقصى، ووقعوا توصية بذلك في المؤتمر السابع لحركة (إعادة

بناء الهيكل) . [الحياة، 16/9/1998] . وبالفعل، قررت لجنة من 60 حاخاماً في

شهر أغسطس من عام 1997م تجاوز الحظر الذي كان معمولاً به، وشجعوا اليهود

على الصعود إلى ما يسمونه (جبل الهيكل) حيث يوجد المسجد الأقصى ومسجد

الصخرة، واحتج هؤلاء بأن لديهم مسوغات كافية تجعل من حق اليهود أن يصعدوا

إلى هناك لكي يتسنى لهم البدء في الاستعدادات الخاصة بإعادة بناء الهيكل، وقال

المتحدث باسمهم: (إن الحظر العام على الصعود لم يكن يأخذ في اعتباره في

السابق الاكتشافات الأخيرة، وأبرزها اكتشاف البقرة الحمراء، ونحن الآن بانتظار

الخلاص، وإعادة بناء الهيكل التي يجب أن تبدأ بسرعة في أيامنا هذه) .

... ... ... ... ... ... [الأنباء الكويتية، 9/7/1997]

وبدأت مجموعة من الحاخامات منذ سنوات في دعوة عائلات الكهان لإرسال

أولادهم لكي يتم إعدادهم في حجْر (العزل الطاهر) ليكونوا جاهزين للعمل في

الطقوس المتعلقة بالبقرة، واستجابت أربع عائلات كهنوتية للتبرع بأولادها من أجل

هذا الغرض. ... ... ... ... ...

[الرأي العام: 5/3/1998]

وبدأ الحاخامات منذ فترة بالاتفاق مع الجهات الحكومية بتحصيل نسبة 1%

من مجموع الإنتاج داخل إسرائيل، ليوضع في حساب (خدمات الهيكل) الذي دخلت

مهماته مرحلة التنفيذ بظهور البقرة، وتحصيل هذه النسبة يجري الآن وفقاً لتشريع

ديني يقضي بأن يقدم الشعب اليهودي عُشر العشر ليوقَف على الهيكل، وقد وُضِعَ

عنوان خاص لاستقبال تلك الإسهامات وتنظيم إنفاقها على المشاريع المتعلقة بالهيكل.

لقد ظهرت مع ظهور البقرة الحمراء حالة من الحماس الديني بين الجماعات

اليهودية التي تنافس الحكومة بأنشطتها (120 جماعة) ، وبدأت في اكتساب أنصار

جدد من أولئك الذين لم يكونوا يأبهون بشعارات الجماعات الدينية، وقد علق

(مناحيم فريندمان) الخبير في الشؤون الدينية في جامعة (بارابلان) على هذه

الظاهرة الجديدة بقوله: (إن ولادة هذا الحيوان الطارئة، أوجدت حالة من الحساسية

في إسرائيل؛ إذ أصبح الناس يبحثون في أمر هذه العلامة ويتحدثون عنها بدقة) .

... ... ... ... ... ... ... [السياسة، 30/10/1997]

البُعد السياسي لعهد (البقرة) :

لم يكن المتدينون وحدهم المحتفين بضيفة (إسرائيل) الجديدة، بل اهتبل

السياسيون مناسبة حلولها في ذلك التوقيت، لتحقيق أغراض سياسية وحزبية،

مستغلين تصاعد المد الديني في (إسرائيل) وربط كثيرون بين ظهور البقرة وظهور

نتنياهو، الذي تُوجت في عهده أنشطة الجناح الديني في السياسة الإسرائيلية.

والمؤسسة الدينية التي اعتبرت فوز نتنياهو انتصاراً للمتدينين وهزيمة للعلمانيين؛

دأبت على تدعيم موقفه بعد الإعلان عن ظهور البقرة، وربطت مجيئه بتحقيق

نبوءات يؤمنون بها، مما جعل البعض منهم ينظرون إليه على أنه يتبوأ منزلة

(ملِك) من ملوك إسرائيل التاريخيين، وأنه يمكن على هذا أن يتمتع بـ (العصمة)

الدينية، التي تجعل مخالفيه في زاوية المخالفين للتوراة.

وقد أثار تفاؤل المتدينين أيضاً وقتها، أن عهد نتنياهو سيستمر في السلطة

حتى العام 2000م على الأقل [4] وهو العام المرتب له أن يكون عام (التطهير) !

لكن هناك فريق من الإسرائيليين لم يشاركوا جمهور اليهود في الابتهاج

بالعجل الجديد، وهم شرائح من العلمانيين الذين شعر كثير منهم بالانزعاج

والتخوف من مضاعفات هذا الاكتشاف ونتائجه التي قد يصيبهم شرها وشررها.

ورأى بعضهم أن (قضية) البقرة، قد تفتح باباً لدوامة من العنف لا نهاية لها بين

المسلمين واليهود داخل فلسطين، وأيضاً بين المتدينين وغير المتدينين من اليهود،

وذلك ما أكده الصحفي الإسرائيلي (ديفيد لانرد) حيث قال: (إن الأذى المحتمل من

جانب الحديث عن ظهور البقرة الحمراء، يفوق بكثير ما يمكن أن ينتج عن

الخصائص التدميرية لقنبلة نووية دينية) .

خيبة أمل.. عارضة:

بعد أن راحت الأحلام تسبح باليهود المتدينين في سواحل الخيال.. والخبال،

طرأ ما يعكر أجواء هؤلاء الحالمين، فقد شكك بعض الحاخامات في أن تكون

(ميلودي) هي البقرة الحمراء المنتظرة، وأوردت صحيفة معاريف الإسرائيلية

الصادرة في (29/10/1997م) عن الحاخام (شمار ياشوف) تصريحاً أدلى به من

المزرعة التي تقيم فيها (ميلودي) قال فيه: (قد لا تكون هذه البقرة هي الحقيقية

بسبب بعض الشوائب) ! وأخرج الحاخام عدسة مكبرة، ولاطف البقرة، وصوّب

العدسة نحو ذيلها وقال: (انظروا.. هنا تجدون بعض الشعيرات البيضاء) ! ثم

اتجه إلى رأسها، وصوّب النظر نحو عينيها وقال: (لاحظوا.. إن رموشها تبدأ

حمراء وتنتهي سوداء) !

وقد شكك آخرون في هذا التشكيك، كما نقلت ذلك الأوبرزفر في 9/7/1997 م فهوّن (يهودا اتزيون) الناشط الصهيوني من شأن تلك التحفظات التي أبداها

الحاخام المذكور، وسارع إلى طمأنة القلقين وقال: (هذه الشعيرات التي شوهدت

ستختفي بمضي الوقت، وحتى إذا لم تختفِ، فإن الكتاب المقدس يقول: إن

شعرات قليلة لا تنفي الطبيعة المقدسة للبقرة إذا كانت كلها حمراء) .

إن مشاعر التعجل لدى متعصبة اليهود، لا تريد أن يخرج الناس من أجواء

الأوهام الألفية الخلاصية، فهم يجنون أنضج الثمرات من تأجيج أحاسيس الدنو

القريب لعصر النهاية (السعيد) ولا يدري هؤلاء البؤساء، أنهم سيخرّبون بيوتهم

بأيديهم وبأيدي المؤمنين في نهاية المطاف، ولكنهم مصروفون عن هذا، ومصرون

على النفخ في كير الحرب الدينية القادمة، حتى إن (اتزيون) المذكور آنفاً، وغيره

من المتعصبين، يعتقدون كما نقل عنه في التصريح السابق أن رماد البقرة الحمراء

سيحول مجموعات اليهود المتدينين القلائل إلى حركة جماهيرية واسعة الانتشار!

هل لنا موقف من (البقرة) ؟

نحن بطبيعة الحال، لا يعنينا من شأن تلك البقرة شيء، سواء في شكلها أو

وصفها أو سنها، أو زمان ومكان خروجها، ولكن الذي يعنينا هو ما تمثله تلك

البقرة من كابوس يمكن أن يثير من الأحداث ما يتعاظم على السيطرة، وقد عودنا

اليهود خلال الخمسين عاماً الأخيرة أنهم أكفأ البشر في تسويق الأحلام واستثمار

المصائب لصالحهم. قد يتشبث اليهود بتلك البقرة بالذات ليكملوا نسج بقية

الأسطورة بين يديها أو قرنيها، وقد يستبدلونها بعد حين بأخرى أكثر مطابقة

للمواصفات التي تليق بأمة متنطعة تريد أن تكرر حديث الصفات النادرة عن البقرة

الصفراء الفاقع لونها، مع البقرة الحمراء الخالص حَمَارها.

أما المعتقد الأصلي في البقرة، والموجود الآن في نسخ التوراة المتداولة، فلا

نصدقه ولا نكذبه فقد يكون من الشرائع المنسوخة وذلك تسليماً بالهدي النبوي

المذكور في الحديث الشريف: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا:

آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم) [5] . ولكن المقطوع به أن تلك (الفريضة

الدهرية) كما وصفوها.. لا تمت إلى الدين المقبول بصلة، بعد بطلان الشرائع

بشريعة النبي الخاتم.

وهنا أمر أود الإشارة إليه، وهو أنني لا أستبعد أن يكون ظهور بقرة حمراء

مطابقة لما يتطلع إليه اليهود، من تلاعب الشيطان، فيكون هذا من قبيل الاستدراج

لهم، فقد تأتي الأقدار لهم بالبقرة التي يريدون، إمداداً لهم في الغي، فيظنون أنهم

قد وصلوا إلى عتبة عصر (الطهارة) وينتهي الأمر بهم إلى مزيد من الانصراف

عن الحق، كما قال سبحانه: [سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ

بِغَيْرِ الحَقِّ وَإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً

وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً] [الأعراف: 146] .

ويمكن أن يكون هذا التلاعب الشيطاني بهم مثيلاً لتلاعبه بهم في شأن انتظار

نبي خاص بهم من نسل داود، جعلهم يكفرون بعيسى اويكفرون بمحمد -صلى الله

عليه وسلم- مصرين على انتظار هذا النبي الموعود. قال ابن القيم رحمه الله:

(ومن تلاعبه بهم يعني اليهود أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي، إذا حرك

شفتيه بالدعاء، مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي

وُعِدوا به، وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر

أتباعه) [6] .

البقرة.. ونجاسة الشعب (المختار) :

من أعجب أمور اليهود، أنهم لا يزالون يؤمنون عن يقين بأنهم (شعب الله

المختار) حتى تقوم الساعة! والأعجب من ذلك أنهم يعتقدون بالقدر نفسه من اليقين

بأنهم شعب (نجس) منذ عشرات القرون، لماذا؟ لأنهم قارفوا نجاسات عديدة لا

يمكن التطهر منها حسب شريعتهم إلا برماد البقر الأحمر، ضمن طقوس لا تمارس

إلا في الهيكل، وبما أن الهيكل غائب منذ ألفي عام، وعقمت معه الأبقار أن يلدن

واحدة حمراء خالصة، فإن (النجاسة) ظلت ملازمة للشعب اليهودي بكامله. جاء

في توراتهم: في سفر العدد الإصحاح 19: (هذه هي الشريعة.. إذا مات إنسان

في خيمة، فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً ... كل إناء

مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس، وكل من مس على وجه الصحراء قتيلاً

بالسيف أو ميتاً أو عظم إنسان أو قبراً يكون نجساً..) (والذي مس ماء النجاسة

يكون نجساً.. وكل ما مسه النجس يتنجس، والنفس التي تُمس تكون نجسة) ! !

فَمَنْ إذن من الشعب (المختار) بقي طاهراً؟ ! المشكلة هنا ليست في النجاسة فكل

الكفار والمشركين نجس ولكن المشكلة أنهم يعتقدون أن هذا النوع من النجاسة لا

يزول إلا برماد البقرة المحظية في نهاية الألفية، جاء في الموسوعة الدينية اليهودية: (إن البقرة الحمراء يجب سحبها خارج القدس، وبعد ذبحها يجب حرقها بكاملها

بعد إضافة خشب الأرز وأعشاب أخرى، ويشرف على هذه الطقوس حاخام أو

كاهن، ويستخدم الرماد في التطهر وطرد الأرواح الشريرة التي يمكن أن تنتقل إلى

اليهود من الموتى لو مسوا جثمانهم) . والظاهر أن نجاسة اليهود من أكثر ما يؤرقهم، حتى إن التلمود الذي وضعه الحاخامات تفسيراً للتوراة يدور سدسه تقريباً حول

كيفية التطهر من النجاسات، وجاءت البقرة أو هكذا ظنوا لتكون فاتحة لعهد من

الطهارة يستقبلون به عصراً من الأمجاد، والله يعلم أن جميع البقر الأحمر والأبيض

والأسود، لو صُيّر رماداً، ثم خلط بماء البحر الأحمر والأبيض والأسود، ثم

أغرقت فيه أمة اليهود كلها، لما تطهر واحد منهم من نجاسة الكفر، إلا إذا دخل في

دين التوحيد وآمن برسالة خاتم الرسل وسيدهم محمد صلوات الله وسلامه عليه

وعلى آله وصحبه ومن اتبعه إلى يوم الدين قال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ

رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ

نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ

الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [المائدة: 15-16] .

أما هؤلاء، فإنهم لا يزالون في أسر الآصار التي كانت عليهم، لا يبغون

عنها فكاكاً، وقد نقلت صحيفة الرأي العام الكويتية عن إحدى الصحف الإسرائيلية

في (5/3/1998م) أن حواراً أجري مع واحد من أبرز الحاخامات الإسرائيليين

ويدعى (البويم) حول العديد من الأسئلة الحائرة الدائرة حول البقرة، فكان من ضمن

الأسئلة: هل تكفي بقرة واحدة لخمسة ملايين يهودي ملوثين بالنجاسة؟ فأجاب:

(أجل، ولسنوات كثيرة أيضاً، لقد دُوّن في التوراة أن البقرة الحمراء الأولى أعدت

على عهد موسى، أما الأبقار التالية فقد أعدها عزرا، فخلال فترة الهيكل الثاني

أعدوا ثماني بقرات، إذن فالعدد كله تسع بقرات، ونحن الآن في زمان البقرة

العاشرة) إذن، فأمر البقرة سواء كانت هي تلك التي أعلنوا عنها أو غيرها مما

يمكن أن يعلنوا عنه، ليس بالأمر الهامشي في حياة اليهود في هذه الأيام؛ خاصة

أنهم يرون أنفسهم قد قطعوا من الطريق أطوله نحو عهد الهيكل الثالث، وعلماً بأن

ما يقرب من 95% من الطقوس العبادية اليهودية التي تؤدى في الهيكل، يحول بين

اليهود وبين ممارستها ما يسمونه بـ (نجاسة الموتى) ، بل إن بعض الحاخامات

يتحدثون عن استحالة افتتاح الهيكل للعبادة بأيدي (أنجاس) واستحالة تمكّن هؤلاء

من القيام بشؤونه وطقوسه قبل تطهّرهم برماد البقرة! ! ولله في خلقه شؤون! كيف

إذن سيبنون وكيف يجهزون وهم أنجاس؟ الله أعلم!

أما عن كيفية التخطيط العملي لهذه (الطهارة) الجماعية، فهذا سؤال توجهت

به صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية في (2/3/1998م) إلى أحد الحاخامات الكبار فقال: (سنحرق البقرة قبالة موقع الهيكل من جهة الشرق، وبالإمكان أن نضيف إليها

بعض الأشجار، وبعد ذلك نخلط الرماد بعضه ببعض، ومن ثم يتم وضع الرماد

في أنابيب، وتوزع في أرجاء البلاد) ! ! شيء قريب من توزيع مياه الشرب أو

(الغاز) .. إنها ألغاز! ! فماذا إذن عن الملايين العشرة الباقين من اليهود خارج

البلاد؟ ! الظاهر أن الرماد سيصدّر إليهم في مغلفات معقمة من قوارير، أو أنه

سيكون مدعاة قوية لهجرات جديدة إلى أرض الميعاد ... والرماد!

موعد الميلاد.. وموعد الذبح:

الموعد الذي ولدت فيه البقرة سيحدد بدقة الموعد الذي ستذبح فيه، فعلى

حسب المفاهيم اليهودية لا بد أن تذبح البقرة بعد أن تتم ثلاث سنوات، وهناك

اختلاف معلن في تحديد الموعد الذي ولدت فيه، فالبعض داخل (إسرائيل) يقول

إنها ولدت في شهر أغسطس من عام 1997م، وهناك من يقول إنها ولدت في

يناير من العام نفسه، وعلى هذا؛ فهي ستتم عامها الثالث إما في يناير من عام

2000م، أو في أغسطس من العام نفسه، وعلى هذا يكون العام 2000م، عاماً

مصيرياً في عمر البقرة وفي عمر اليهود، حيث تتوقع جماعاتهم الدينية أن عصراً

جديداً سيحل في الأرض المقدسة بعد ذبح البقرة في بيت المقدس، أو في (أورشليم)

كما يسمونها!

ومع (أورشليم) التي يجري إعدادها أيضاً لعهدها الجديد قبل العام 2000م

سيكون حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015