المسلمون والعالم
الإسلام في نظر مسؤول إنجليزي معاصر
د. جلال الدين صالح
ألقى وزير الخارجية البريطاني (روبين كوك) كلمة عن علاقة الغرب وخاصة
بريطانيا بالإسلام في الآونة الأخيرة، وكانت تلك الكلمة بتاريخ 8 أكتوبر 1998م،
وألقاها عند زيارته للمركز الإسماعيلي بلندن. وقد مست الحاجة إلى التعليق على
تلك الكلمة حتى لا تحمّل أكثر مما تحتمل، وقد جاءنا تعقيب من الدكتور جلال
الدين صالح على تلك الكلمة، و (·البيان) تنشر الكلمة وتنشر التعقيب.
كلمة الوزير البريطاني:
(من دواعي سروري أن أتيحت لي الفرصة لزيارة الجالية الإسماعيلية
ولزيارة مركزها الرائع أيضاً. فهذا المركز هو جوهرة من تحف المعمار الإسلامي
وأجمل مذكّر لنا في صميم مدينة لندن بأن جذور ثقافتنا ليست يونانية أو رومانية
الأصل فحسب بل هي إسلامية أيضاً. فالفن الإسلامي والعلوم والفلسفة الإسلامية قد
ساعدت على تشكيل تطورنا، وعملت على تكييف نمونا أفراداً، وتداخلت في كيفية
تفكيرنا وطريقة معيشتنا؛ فالأرقام الإسلامية ما زالت معنا وهي التي علمتنا طريقة
العد الصحيحة.
إن ثقافتنا مدينة للإسلام بديْن يجدر بالغرب أن لا ينساه، ونحن نقوم حالياً
بتطوير علاقاتنا مع العالم الإسلامي. وقد سمحنا للأيام أن تبعد بعضنا عن بعض،
وسمحنا لسوء التفاهم وعدم الثقة أن ينموا ويكبرا ويفرقا بين الغرب والإسلام.
يجب أن لا ندع سوء التفاهم بيننا يستمر ويتواصل؛ ذلك لأنه أصلاً من
الخطأ أن تصدر ثقافتان عظيمتان حكماً جائراً بعضهما على بعض بهذه الصورة
المؤسفة.
ثم إنه في عالم اليوم ليس لدينا أي خيار أو مفر من العيش معاً والعمل
متآزرين بسلام ووئام. إن التحديات التي نواجهها هي تحديات عالمية؛ وذلك من
شأنه أن يؤثر على الشرق الأوسط بالقدر الذي يؤثر به على أوروبا أيضاً.
والشباب في طهران أو القاهرة هم ضحايا تجارة المخدرات مثل ما هو الحال في
لندن أو أدنبرة. وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط يقلق أوروبا بصفتها أقرب جار
للمنطقة مثلما يقلق المجتمع الإسلامي. فالخيار هنا هو إما أن نعمل معاً متضافرين
وننتصر معاً أو نترك عدم الثقة والتوجس والخيفة فيما بيننا على ما هي عليه
وتكون النتيجة من ذلك كله أن نخسر جميعاً.
وبعضهم يقول: إن الغرب بحاجة إلى عدو! وبما أن الحرب الباردة قد ولّت
إلى غير رجعة فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتي القديم واعتباره عدواً.
ويقولون إن (صراع الحضارات) قادم لا مفر منه. وأنا أقول: إنهم مخطئون بل
ومخطئون خطأً فادحاً؛ فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام عدواً بل نحن بحاجة إليه
صديقاً. فقد تكون الحضارات التي لدينا مختلفة، وقد تكون الديانات أيضاً مختلفة،
ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نتعايش معاً، وأن ننسجم معاً.
وهكذا علينا أن نتعاون معاً لدحر هذه النبوءة. يقول القرآن الكريم في سورة
الحجرات: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [الحجرات: 13] .
وبوحي هذه الإرشادات الكريمة علينا أن نعمل معاً لتحسين التفاهم بيننا
وتفكيك تلك الصور الخاطئة والمشوّهة التي يرسمها بعضنا لبعض للتخلص تماماً
من مشاعر عدم الثقة التي تضر بالجميع.
كلّ يرى الآخر على صورة بدائية مشوهة:
يرى أحدنا الآخر إلى حد كبير عبر الصورة المبسطة والمشوهة والخطيرة
التي يرسمها بعضنا لبعض؛ فالإسلام يرى أن الغرب مادي يُفتقد فيه احترام
الروحانية، وعلى أنه عدو للإسلام وعاقد العزم على استعمال قيم الغرب المتحررة
لتقويض المجتمعات الإسلامية. والغرب من ناحيته يساوي الإسلام بالأعمال
المتطرفة التي يقوم بها البعض؛ فعدد كبير من وسائل الإعلام هنا لا يرى الإسلام
ثقافة غنية جليلة مزدهرة ومتنوعة تدعمها ديانة من أعظم الديانات في العالم، بل
يرون أنه الأعمال الإرهابية التي يرتكبها القلة باسم الإسلام.
إن كلتا النظريتين في غير محلها؛ فالحقيقة أن أسامة بن لادن لا يمثل وحده
الإسلام، كما أن الذين ارتكبوا عملية (أوما) الإرهابية لا يمثلون قيم الغرب.
والقائل: إن ثقافاتنا غير متجانسة هو مخطئ؛ فإن هناك قدْراً كبيراً من المعارف
يمكن أن يتعلمها بعضنا من الآخر.
الإسلام يسهم في ثقافة الغرب:
الغرب مدين للإسلام بالشيء الكثير؛ فالإسلام وضع الأسس الفكرية لمجالات
عديدة مهمة وكبيرة في الحضارة الغربية. فمن الأرقام العربية التي نستعملها، إلى
فهمنا للأفلاك؛ فإن الشيء الكثير من أسس حضارتنا يعود الفضل فيها إلى العِلم
الإسلامي.
ومن أكبر الأخطاء التي يمكن للغرب أن يرتكبها هو الظن بأن الثقافة
الإسلامية شيء غريب عنا؛ فهي ليست كذلك البتة؛ فإن ثقافتينا قد تشابكتا معاً
عبر التاريخ والأجيال، وهما تتشابكان أيضاً في وقتنا الحاضر، ويجب أن تستمرا
في التشابك كلما أصبح مستقبل كل منا مرتبطاً بالآخر.
وفي الأسبوع الماضي قلت لمؤتمر حزب العمال بأن من أهم التحديات
الجوهرية التي نواجهها في هذه الأيام هي كيفية تشكيل علاقة إيجابية مع العالم
الإسلامي. وهذه من المسائل الرئيسة التي تشغل تفكيري بصفتي وزيراً للخارجية.
بداية عهد جديد مع إيران:
أرى أننا نسير قُدُماً وبنجاح في هذا المجال؛ فنحن نقوم بتذليل بعض العقبات
الرئيسة التي تعكر الجو بين الغرب والعالم الإسلامي واحدة تلو واحدة؛ ففي
نيويورك عقدتُ منذ أسبوعين محادثات مع الدكتور كمال خرازي وزير خارجية
إيران، وكانت هذه المحادثات مختلفة عما يجري عادة بين وزراء الخارجية. فقمنا
سوياً بإعطاء العلاقات بين إيران وبريطانيا بداية جديدة.
وقد أوضح الدكتور خرازي بأن سلمان رشدي لا يواجه أي خطر تجيزه أو
تسمح به الحكومة الإيرانية. ولكن أبعاد هذه القضية تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي
تعني أنه يمكن لبريطانيا وإيران أن تعملا معاً لمواجهة التحديات المشتركة على حد
سواء. فمثلاً سيزداد التعاون العملي فيما بيننا ضد تجارة المخدرات. وسيصبح
الآن بمقدور الاتحاد الأوروبي أن يقيم مع إيران علاقة بناءة أكثر من قبل.
إن مفاوضاتنا مع الأمريكان في الربيع الماضي بالنيابة عن الاتحاد الأوروبي
قد أزالت فتيل الخطر عن التجارة بين أوروبا وإيران بموجب قانون العقوبات
الاقتصادية ضد إيران وليبيا الذي سنته الولايات المتحدة، وستنفتح الأبواب أمام
فرص جديدة عديدة للتجارة والاستثمار بين الجانبين وتكون مفيدة للطرفين.
حان الوقت لإجراء حوار جديد:
نحن نسير على الدرب الصحيح لحل المشكلات العالقة بيننا. وهكذا فقد آن
الأوان للبدء ببناء التفاهم والثقة اللتين نحن بأمسّ الحاجة إليهما. اليوم أريد أن
أقترح أن نبدأ حواراً جدياً بين أوروبا والعالم الإسلامي فقد حان الوقت ليبدأ الاتحاد
الأوربي ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالكلام معاً على أعلى مستوى ممكن، ويتحاور
أعضاؤهما حول العديد من القضايا التي تهم الجانبين.
دعونا نتكلم عن البلقان، وعن عملية السلام في الشرق الأوسط، وعن
أفغانستان، وعن الإرهاب وحقوق الإنسان ومعاملة الأقليات؛ لأنه بالحوار البنّاء
فقط يمكننا أن نتعلم كيف يفهم أحدنا الآخر ويثق به.
ولكن مثل هذا الحوار يجب أن لا يقتصر على الديبلوماسيين أو حتى على
وزراء الخارجية. فأنا مثلاً أنعم بمركز مهم ومكتب وثير، ولكن الأهم من هذا
وذاك والذي لا يحيد نظري عنه هو مصلحة الأمة وخير الشعب، ثم لا شك عندي
أن العلاقات المهمة حقاً هي تلك العلاقات التي تكون بين الشعوب.
وهكذا فإن الحوار الذي علينا أن نجريه بين أوروبا والعالم الإسلامي يجب أن
يكون بين شعوبنا أيضاً. يجب على المعلمين من الجهتين أن يتكلموا معاً، وكذلك
الفنانون والمعماريون والمثقفون. يجب أن يتكلم هؤلاء بعضهم مع بعض وعلى
جناح السرعة؛ لأن هناك الشيء الكثير الذي يمكننا أن نكسبه من قيامنا بذلك، كما
أن هناك الشيء الكثير الذي يمكننا أن نخسره لو أننا لم نقم بذلك.
إن قدْراً كبيراً مما ذكرناه يجري تحقيقه فعلاً في الوقت الحاضر؛ فلدى
بريطانيا معاهد علمية راقية تقوم بنشاطات ممتازة في هذا المجال. وهناك جماعات
خاصة تساعد على إعادة التوازن في هذا المجال. ولكن لن نحرز التقدم الذي نحن
بحاجة إليه حتى يبدأ المؤثّرون على الرأي العام من الجاذبين في وسائل الإعلام
والتعليم وغيرهما بتحطيم تلك الصور المبسطة والمشوهة، والقضاء على
الانطباعات المضلّلة التي تقع في صميم النزاع بين مجتمعينا وتسبب التنافر بين
ثقافتينا.
تقوم وزارة الخارجية بأداء دورها في هذا المجال، ومن ذلك أن زميلي
(ديريك فاتشيت) ، وزير الدولة يجري محادثات دورية مع قادة الجالية الإسلامية في
بريطانيا لتبادل وجهات النظر، وترعى وزارة الخارجية تبادل الزيارات بين الطلبة
والندوات العلمية والمؤتمرات المعدة لإزالة الحواجز والعوائق بين الثقافات.
ووزارة الخارجية قائمة على مشروع تحديث لأنظمتها حتى تصبح فعالة حقاً
في هذا المجال. فيجب على وزارة الخارجية أن تكون ممثلة أكثر من السابق لكل
ما يمكن أن تقدمه بريطانيا من تراث فكري وتنوع عرقي. وهكذا فإن وزارة
الخارجية تشجّع المسلمين البريطانيين الأذكياء من كافة مجالات الحياة أن يأخذوا
بعين الاعتبار السلك الديبلوماسي ويلتحقوا به كمهنة لهم؛ فهم سيلاقون ترحيباً من
جانبنا؛ لأنه بإسهام المسلمين البريطانيين المخلصين إسهاماً فعالاً يمكننا أن نقول
بأننا قد وسعنا البعد الإسلامي في سياستنا الخارجية.
لدى بريطانيا ميزتان في علاقتها مع العالم الإسلامي: فنحن نشترك معاً في
ألف عام من التاريخ المشترك مع أنه لم يكن كله تاريخاً سهلاً أو يسيراً. ولدينا في
بلادنا مجتمع مسلم مزدهر؛ ففي بريطانيا أكثر من تسعمائة مسجد. ويحق الآن
للمدارس الإسلامية أن تتلقى الدعم المالي من الدولة، كما أن حوالي مليون ونصف
مليون مسلم بريطاني يسهمون إسهاماً كبيراً في المجتمع البريطاني.
والمسلمون البريطانيون يؤدون دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والسياسية
والاقتصادية للأمة وهو دور آخذ في الازدياد المستمر؛ فإن مقدرتهم في الأعمال
التجارية تساعد على دفع الاقتصاد البريطاني وتقويته، وشغفهم بالعلم ومحبتهم له
ينعكس في الإسهامات التي يقدمونها للمهن في بريطانيا، وأكلاتهم المميزة اللذيذة قد
تركت انطباعاً عميقاً ودائماً على الحياة البريطانية. وفي عالم اليوم يمكن لبريطانيا
أن تستفيد إفادة متزايدة من كونها مجتمعاً متعدد الثقافات والأعراق.
الجالية الإسماعيلية جسر فريد من نوعه:
ولذلك فأنا سعيد بزيارتي لكم اليوم؛ لأن الجالية الإسماعيلية تشكل جسراً
فريداً من نوعه بين الغرب والإسلام؛ فالجالية منتشرة في كافة أنحاء العالم، وهي
موالية بقوة لجميع الأقطار التي تعيش فيها، ولكن أينما حلت فهي تتمسك تمسكاً
قوياً بالقيم السامية لتقاليدها وهي: الاتحاد، والاعتماد على النفس، وتقديم الخدمات
عند كل المناسبات. فأنتم بهذا المسلك تنسجمون مع البلد الذي تقيمون فيه،
وتزيدون من تراثه الفكري وتقومون بكل ذلك من دون تخفيف أو تقليل أو إجحاف
بهويتكم الفريدة.
رجاؤنا الآن وأملنا هو أن يتمكن الغرب والإسلام من التعايش معاً في وئام
وسلام، وفهم الواحد منا للآخر فهماً سليماً وتعلم بعضنا من بعض، وبناء الثقة بين
مجتمعاتنا. وأملنا أيضاً أن نزيد من ثراء البعض فكرياً وإنسانياً واجتماعياً من دون
أن نفقد هويتنا المستقلة. ولا شك أن الجالية الإسماعيلية قد أثبتت مع الزمن أن
تحقيق ذلك أمر ممكن فعلاً) . اهـ
التعليق على كلمة (كوك)
الوجود الإسلامي في أوروبا ومسار الحوار مع الغرب:
لم تعد أوروبا بالرغم من سلطان الكنيسة وتأثيرها المحدود كما كانت من قبل
خالصة للأجراس والصلبان، بل علتها مآذن المسلمين، وتناثرت عليها مراكزهم
الثقافية أسوة بسائر معابد الملل والنحل الدينية، ولم يعد الوجود الإسلامي فيها حكراً
على فئة دون أخرى، بل بات جامعاً كل أطياف اللون السياسي والعرقي، وشاملاً
كل التوجهات المنتسبة إلى الإسلام باستقامة واعتدال أو زيغ وضلال.
والطائفة الإسماعيلية هي إحدى فرق الرافضة الناشطة في الساحة الأوروبية
بشكل عام وفي بريطانيا بشكل خاص، ولقد زار وزير خارجية (بريطانيا) (روبين
كوك) في 8/10/1998م مركزها بلندن حيث ألقى هناك خطابه الذي حمل عنوان:
(حوار جديد مع الإسلام) وقد ضمنه قضايا عديدة ثقافية وأخرى سياسية، مؤكداً
حتمية تأثر مصالح كل من الغرب والشرق الإسلامي بما يؤثر على كل منهما من
مؤثرات إيجابية أو سلبية، وداعياً من أجل تحاشي المؤثرات الضارة إلى نبذ ثقافة
التعادي وإرساء وإيثار ثقافة التلاقي والتجاوز، والتحرر من هيمنة الرؤية التآمرية
التي سوف يؤدي بقاء سلطانها لا محالة إلى خسارة الجميع، وهنا استبعد أن تكون
العلاقة بين الحضارتين الإسلامية، والغربية علاقة تصارع وتصادم، وأعرب عن
سقم نظرية صراع الحضارات قائلاً: (نحن لسنا بحاجة إلى الإسلام عدواً، بل
نحن بحاجة إلى الإسلام صديقاً) و (إن الشيء الكثير من أسس حضارتنا يعود
الفضل فيه إلى العالم الإسلامي) .
وأشار إلى أن بناء علاقة متينة مع العالم الإسلامي هي (من أهم التحديات
الجوهرية) التي يواجهها حزب العمال الحاكم، ويحمل هو همّها بصفته عضواً في
الحزب ووزيراً للخارجية.
ثم تناول عقب ذلك مسار العلاقات البريطانية الإيرانية وما حققته من تجاوز
العقبات وتذليل الصعوبات مفيداً أن الدكتور كمال خرازي وزير خارجية إيران
أفصح له (بأن سلمان رشدي لا يواجه أي خطر تجيزه أو تسمح به الحكومة
الإيرانية..) مما جعله يوقن بأنه (يمكن لبريطانيا، وإيران أن تعملا معاً لمواجهة
التحديات المشتركة على حد سواء) وأنه (سيصبح الآن بمقدور الاتحاد الأوروبي أن
يقيم مع إيران علاقة بناءة أكثر من قبل) .
وأعاد إنجاز المكاسب إلى وعي وإدراك أهمية التحاور في حل التناقضات
السياسية والثقافية بين الغرب والإسلام ليس على الصعيد الرسمي فحسب وإنما على
صعيد علاقة الشعوب، وحث على فتح باب الحوار بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة
المؤتمر الإسلامي حول كل ما يهم الجانبين، وخص منها بالذكر مسألة البلقان،
والسلام في الشرق الأوسط، والنزاع في أفغانستان والإرهاب، وحقوق الإنسان،
ومعاملة الأقليات كأهم قضايا تلح على إجراء المحاورة.
ونبه على ما تقوم به وزارته على الصعيد المحلي من الاتصال بقادة الجالية
الإسلامي، وحث أفرادها إلى الالتحاق بالسلك الديبلوماسي؛ لأنه كما يقول: بإسهام
المسلمين البريطانيين تكون وزارته قد وسعت بُعدها الإسلامي في سياستها الخارجية.
الحوار المنشود:
وهذه اللغة الهادئة عن الإسلام من وزير الخارجية لا تمثل نشوزاً في السياسة
الإنجليزية؛ فقبل أربعة أعوام تقريباً أدلى ولي العهد الأمير (تشارلز) بتصريحات
كهذه عن الإسلام كان لها صداها في الصحافة البريطانية والعربية، وما هي
بمستغربة من قادة هذه المملكة التي تتوكأ على موروث ضخم من الخبرة في التعامل
مع شعوب العالم الإسلامي الذي حكمت جزءاً كبيراً منه أعماراً مديدة، وأعواماً
طويلة، وقد أومأ وزير الخارجية نفسه إلى هذه الخاصية التي ميزت بلاده عن
مثيلاتها من دول أوروبا حيث قال: (لدى بريطانيا ميزتان في علاقاتها مع العالم
الإسلامي: فنحن نشترك معاً في ألف عام من التاريخ المشترك مع انه لم يكن كله
تاريخاً سهلاً، أو يسيراً) .
وحقاً كما قال إن هذا التاريخ حافل بكثير من الآلام والتآمر على مصالح
الإسلام، وحسبه سوءاً أنه كان رأس الحربة المسمومة التي طعنت خاصرة الخلافة
الإسلامية، ومهدت السبل لضياع فلسطين بوعد بلفور المشؤوم الذي جعل من حلم
اليهود واقعاً محققاً بقيام دولة (إسرائيل) ، وما فتئت آثاره، وآثامه تحرم المنطقة
الإسلامية أمنها واستقرارها، وتدفع بها من مأزق إلى آخر لا يرى فيه إلا ما يدعو
إلى الاشمئزاز والتقزز من كل دعوة حوار يطلقها الغرب، وليس هذا فحسب؛ بل
السياسة الحالية لبريطانيا لا تقف من الحق الإسلامي موقف المؤيد والمناصر، ولا
من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة موقفاً حاسماً يردعها، ويحد من أطماعها
التوسعية، بل في كثير من الأحداث نراها تقتفي أثر السياسة الأمريكية المندفعة
نحو استفزاز العالم الإسلامي سواء فيما يتعلق بأمن (إسرائيل) حيث أعلن رئيس
الوزراء (توني بلير) دون تحرّ ولا تروّ تأييد الضربة الأمريكية وتصديق مزاعمها
مما حمل الحكومة السودانية على سحب سفيرها احتجاجاً على هذا الموقف.
ولا شك أن مثل هذه المواقف تفقد دعوة الحوار التي نادى بها وزير الخارجية
جديتَها؛ لأن الحوار المنشود ليس هو ذاك الذي يكون أحد طرفيه مملياً والآخر
متلقياً، ولا ذاك الذي يشعر فيه القوي بعلوه على الضعيف، وإنما هو ذاك الذي
ينطلق من أسس العدل، وإقرار الحقوق، وخصائص الشعوب الدينية، والثقافية.
ولا أعتقد أن أحداً من قيادات الفكر والسياسة في عالمنا الإسلامي يتردد في إجراء
الحوار مع الغرب بهذا المفهوم، ولكن الواقع أن الحضارة الغربية لا ترضى في
محاوراتها للحضارة الإسلامية بأقل من الانسلاخ عن مفاهيمها الدينية، والتبعية
لأطروحاتها الفلسفية والثقافية؛ ومن هنا نجد وقوف الغرب بإصرار وإلحاح دون
إرادة الشعوب الإسلامية واقترابها من إسلامها منهجاً للحكم والثقافة؛ حتى لو تحقق
ذلك وفق آليات الحضارة الغربية ذاتها كالذي حدث في الجزائر؛ حيث كانت
الديمقراطية وهي إحدى آليات الحضارة الغربية في التعبير السياسي والفكري
الوسيلة التي اعتمدها المسلمون هناك للإسفار عن رغبتهم السياسية، ولكن بالرغم
من ذلك فقد بارك الغرب تلك الأقدام التي ركلت هذه الإرادة ووأدتها، وأدخلت
الشعب الجزائري في نفق مظلم، وآثر دعم تلك الأقدام الهمجية ومساندتها دون أدنى
إحساس بعدوانها ومرارة استبدادها بالشعب الجزائري.
إذن؛ فالحوار بين الغرب والإسلام لا يؤتي أُكُلَهُ يانعة إلا حين ينزل الغرب
عن علوه ويتجرد من تلك النظرة التي لا تنظر إلى العالم الإسلامي إلا كبقرة حلوب
تدرّ فقط ما يغذي الغرب وينمي قواه الاقتصادية، وليس له من الأمر شيء في أن
يحكم بالذي يميز شخصيته.
ونزعة الإرهاب التي ما طفق الغرب يتحدث عنها من باب أنها عقبة كؤود
في طرق الحوار الغربي الإسلامي ونص عليها الوزير البريطاني في خطابه هذا؛
إنما جاءت رداً على عدوان السلطة العلمانية وإرهابها، تلك السلطة التي لا تستمد
شرعيتها إلا من السياسة الغربية ومساندة آلتها العسكرية باعتبارها إدامة للرؤية التي
يود الغرب فرضها على العالم الإسلامي. أيضاً فإنه في الوقت الذي يشدد فيه على
مطاردة الإرهاب ملوحاً تارة، ومصرحاً تارة أخرى بخروجه من محاضن الإسلام
نراه لا يحرك ساكناً إلاّ ما كان همساً لمحاكمة أولئك الذين أراقوا الدم الحرام بشكل
فظيع على أرض البلقان إرهاباً؛ فكيف يستقيم إذن مجرى الحوار بين الغرب
والإسلام، والغرب تحكمه نزعة التطفيف في المكيال ساعة الكيل للمسلمين،
ونزعة الاستيفاء ساعة الحديث عن مصالحه ومقاصده؟
من أين يلج الغرب حواره مع الإسلام؟
كيف يمكن تصديق الغرب في رغبته هذه وهو لا يأتي البيوت من أبوابها
وإنما من أدبارها التي أوقف عليها صنائعه التي شكلها بنفسه وصنع لها وجوداً
مريباً في دياره، وديار الإسلام، ومن ثم لا أجد ما يدعو إلى الغرابة في وصف
الوزير البريطاني للطائفة الإسماعيلية (بأنها تشكل جسراً فريداً من نوعه بين الغرب
والإسلام) فإن مثل هذه الحركات الباطنية تمثل بلا ريب مطية الغرب المروّضة؛
فمن قبلُ أوجد البريطانيون نِحلة القاديانية في الهند تسويغاً لغزوهم الاستعماري؛
حيث ألحقتهم زوراً بولاة الأمر الواجب طاعتهم ديناً، وليس من الحقيقة في شيء
الاعتقاد بأن الغرب لفظ هذه النحلات المارقة عقب الحقبة الاستعمارية بعد أن
استنفد منها غرضه، لا؛ إنه ما زال يكلؤها بالعناية ويعود إليها حين الحاجة لكونها
أخلص نية، وأصدق ولاءً، وهذا ما نعت به الوزير البريطاني الطائفة الإسماعيلية؛ حيث قال فيها: (إنها موالية بقوة لجميع الأقطار التي تعيش فيها) ويقيننا أن هذه
الموالاة هي التي تدنيها من الغرب. ومعلوم أن ولاء الطوائف الباطنية لأقطار
الكفر أوضح بكثير من أن يحتاج إلى رصد الوثائق، وتقديم الوقائع، ولهذا لا معنى
لهذا الحوار ما لم يأخذ سبيله عبر المرجعية الإسلامية ممثلة في العلماء الربانيين
ودعاة العمل الإسلامي المنضبط بضوابط المنهج النبوي في فهم الدين، وتنظيم
علاقات الذات مع الآخر، وليس عبر هذه الشياه القاصية، ولكن لأمر ما نجد
الغرب يقدم هذه النماذج المشبوهة، ويسعى إلى أن يجعل منها مثالاً صالحاً للتحاور
باسم الإسلام والمسلمين في حين أنها لا تحمل من الإسلام إلا اسمه! ولا من الدين
إلا رسمه.
العلاقات الإيرانية البريطانية:
وما غاب عن الوزير وهو يشير إلى مسار العلاقات البريطانية أن يطمئن
الطائفة الإسماعيلية باعتبارها إحدى طوائف الرفض بأن قضية سلمان رشدي لم تبق
حداً مستعصياً على تطبيع العلاقة مع إيران، وبغض النظر عما إذا كانت الفتوى
الإيرانية في الأصل للاستغلال السياسي والمزايدة على الشارع الإسلامي أم لا،
فإني لا أرى أن نفور الغرب عن الاتجاه السني يضاهي نفوره عن الاتجاه الرافضي، ولعلي لا أكون مبالغاً إذا ما قلت: (إن إيراد الوزير البريطاني اسم أفغانستان وهو
يخاطب الإسماعيليين في مركزهم ليس ببعيد من أن يكون منطوياً على إمكانية تفهم
بريطانيا لموقف إيران من طالبان إن لم يكن تأييداً ومؤازرة، باعتبار قلق الطرفين
من انتصارات الأخيرة على الجيوب الموالية لإيران والغرب داخل أفغانستان،
وبدهي جداً أن يستصحب البريطانيون وهم يضعون مسألة الأفغان على قائمة
اهتماماتهم العالمية مأثورات ماضيهم الاستعماري جنباً إلى جنب مع العداء التاريخي
بين الأفغانيين والإيرانيين؛ فالاستنفار العسكري الذي قام به الإيرانيون مؤخراً على
حدودهم مع أفغانستان عقب الأزمة التي نشبت بينهم وبين طالبان ليس له من تفسير
سوى ارتفاع درجة القلق والأرق من احتمال قيام دولة سنية قوية تحجّم دور إيران
الشيعية وتحول دون أطماعها الفكرية والسياسية في المنطقة، وخبرة البريطانيين
بهذه التناقضات تسول لهم توظيفها لصالح سياساتهم في المنطقة، فهم كما قلت
يعرفون من أين تؤكل الكتف؟ !
وربما يعاب عليّ بأني على حد كبير من التشاؤم لا أنظر إلى التفاعلات
السياسية إلا من ثقوب ومنافذ نظرية التآمر التي تصوّر كل مبادرة غربية وكأنها
شيطان مارد ذو مخالب وأنياب يريد أن ينقض علينا، وينهش لحومنا، لكني أقول: ليس الأمر كذلك؛ ولكني أرى ضرورة الاسترشاد بالتاريخ، والاهتداء به في
تثبّت المواقف وتحديد السبل؛ فإنه عبرة لأولي الألباب لا سيما إذا ما كان هذا
التاريخ كتاريخ بريطانيا العظمى مع العالم الإسلامي الذي قال فيه الوزير نفسه:
(إنه لم يكن كله تاريخاً سهلاً أو يسيراً) وإلا تكون اللدغة عقب اللدغة؛ ولا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين؛ فكيف إذا لدغ مرات؟ !
الوجود الإسلامي في بريطانيا:
أما فيما يتعلق بالوجود الإسلامي في بريطانيا فهو كما ذكر الوزير آخذ في
التنامي والتزايد، ولكن إلى أي حد من الاهتمام والتوقير يحظى هذا الوجود من
الحكومات البريطانية؛ إنه أقل بكثير من ذلك الذي يحظى به الوجود اليهودي مثلاً؛ فحتى وقت قريب كان الدعم الحكومي لمؤسسات التعليم غير الحكومي حِلاّ لبني
إسرائيل محجوباً عن المسلمين حجب حرمان، ولم يتحقق منه ما تحقق إلا بعد
طول مُحاجّة ومجادلة انتهت فقط بدعم المرحلة الابتدائية من مدارس يوسف إسلام
وأخرى لغيره في برمنجهام دون إلحاق سواهما بهما، فهل من الإنصاف أم من
الإجحاف حين يكون اعتناء الحكومات البريطانية المتعاقبة (بمليون ونصف مليون
مسلم بريطاني يسهمون إسهاماً كبيراً في المجتمع) ويؤدون (دوراً كبيراً في الحياة
الثقافية والسياسية والاقتصادية للأمة..) على حد تعبير الوزير إلى هذا الحد من
التدني؟ أجل إن الجالية الإسلامية تزر وزر تقصيرها في المطالبة بحقوقها بما هي
عليه من تعدد الإطارات المبعثرة واللاهية عن مصالحها الحقيقية. لكن من جانب
آخر إنه حيدة عن الدقة حين يجعل الوزير من هذا الدعم حقاً مشاعاً لكل مدارس
الجالية الإسلامية بقوله: (ويحق الآن للمدارس الإسلامية أن تتلقى الدعم المالي من
الدولة..) .
على كلٍ فإن الإسلام في الغرب بعامة وفي بريطانيا بخاصة أضحى فوق حد
التجاهل والتجاوز، وبات وجود المسلمين معتبراً في التأثير على مختلف جوانب
الحياة الأوروبية، ومن الممكن أن يتعاظم ثقلهم السياسي، ويتعزز نفوذهم
الاقتصادي والثقافي إذا ما أحسنوا توظيف وجودهم هذا لمآرب تقيهم شر الأذى
وتعود عليهم بشيء من منافع المآل والحال، أما انفعالهم مع الدوائر السياسية إدلاءً
بالأصوات وتنافساً على المناصب فهو نازلة تقتضي دراسة شرعية من أهل العلم
بضوابط الشرع وفقه الواقع حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.