مجله البيان (صفحة 2991)

أحداث بيعة العقبة الثانية.. رؤية إدارية وتربوية (1)

مراجعات في السيرة والتاريخ

أحداث بيعة العقبة الثانية

رؤية إدارية وتربوية

(1/2)

جمال الحوشبي

الاجتماع هو لقاء بين شخصين أو أكثر يدور حول أفكار وعواطف متبادلة،

وله هدف محدد يسعى الأفراد المجتمعون إلى تحقيقه. وبمقدار تحقق الهدف أو عدم

تحققه يُحكم بنجاح أو إخفاق ذلك الاجتماع مهما بلغت الإمكانات المادية في التحضير

والإعداد له.

كلما قرأت أحداث بيعة العقبة الثانية، كانت تستوقفني أسئلة ملحة تبحث عن

إجابة واضحة: هل من المعقول أن ينتهي ذلك الاجتماع قُبيل الفجر بالرغم من كل

ما دار فيه من محاورات وأحاديث، وبوجود ذلك العدد الضخم من المجتمعين؟ هل

كان هناك سر في تحديد اللقاء أوسط أيام التشريق بالذات؟ هل من حكمة في تحديد

خروج الأنصار بعد منتصف الليل؟ ما هي الفائدة النظامية من جراء اختياره -

صلى الله عليه وسلم- للنقباء الاثني عشر؟ وغيرها من الأسئلة.

إن الواجب علينا ونحن نخوض في مجريات هذه الأحداث أن نعلم أنه بالرغم

من كونه اجتماعاً بشرياً محضاً ضم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والوفد المسلم

من حجاج المدينة؛ إلا أن رعاية الله وتوفيقه كانت من أكبر عوامل النجاح.. ومن

دلائل تلك الرعاية والمعية الربانية حفظ الاجتماع من مبدئه إلى منتهاه أن يظل بعيداً

عن أنظار أهل منى من جهة، وعن أنظار قريش من جهة أخرى. غير أنّي لن

أتعرض إلا لتلك التدابير البشرية التي أسهمت في إنجاح ذلك الاجتماع فحسب.

عوامل نجاح هذا الاجتماع الكبير:

مما يدل على نجاح ذلك الاجتماع الدعوي:

1- حسن الإعداد له والتحضير لفعالياته؛ مما يؤكد أنه ليس وليد اللحظة،

وأنه لم تحركه العاطفة فحسب.. ولقد استغرق الإعداد لهذا اللقاء المهم طيلة ثلاث

سنوات؛ بدءاً من العام الحادي عشر من البعثة؛ حين التقى النبي -صلى الله عليه

وسلم- ستة من الأنصار في موسم الحج كلهم من الخزرج أثناء عرضه نفسه -

صلى الله عليه وسلم- على قبائل العرب، فلما عرض عليهم الإسلام ودعاهم إلى

عبادة الله أسلموا جميعاً، وبايعوا وانصرفوا دعاةً إلى قومهم.. وواعدهم عليه

الصلاة والسلام العام القادم لينظر ما صنعوا في قومهم. فلما كان العام (12 للبعثة)

أقبل اثنا عشر رجلاً من الأنصار، منهم خمسة من الستة الأُوَل وسبعة آخرون:

عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. وتم في هذا اللقاء المصغر عقد (بيعة

النساء) التي كان من نتائجها إرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمصعب وابن

أم مكتوم إلى المدينة.

كل ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- صابر مترقب؛ بالرغم مما كان

يعصف بالمسلمين المضطهدين في مكة، وما كان يُنَكّل بهم. وفي العام (13 من

البعثة) وقبيل موسم الحج بقليل رجع مصعب إلى مكة بعد أداء المهمة التي كُلّف بها

والقيام بها خير قيام [1] ليخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعزم الأنصار

على مبايعته في الموسم، وكان مصعب -رضي الله عنه- هو المنسّق بين الطرفين.

أقبل في هذا الموسم عدد كبير من مسلمي المدينة ضمن حجاج كثيرين من

مشركي المدينة، وكان زعيمهم جميعاً البراء بن معرور. وبلغ عدد المسلمين في

هذا الوفد سبعين رجلاً وامرأتين، منهم اثنا عشر نقيباً: تسعة من الخزرج، وثلاثة

من الأوس. وجرت بينهم وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- اتصالات سرية

أدت إلى الاتفاق على تحديد زمان ومكان اللقاء؛ لإبرام اتفاق من أعظم وأهم

الاتفاقيات في تاريخ الإسلام [2] .

2- سرعة الاجتماع العجيبة في تحقيق الهدف الذي عُقد من أجله؛ فإذا علمنا

أنه بعد أقل من شهر واحد فقط من عقد هذا الاجتماع بدأت وفود الصحابة بالهجرة

العامة من مكة إلى المدينة؛ لأن المصلحة باتت متحققة في الهجرة إليها، والمفسدة

متحققة في المكوث تحت أذى المشركين.. مع أن الهجرة أصلاً لم تكن محض

اجتهاد؛ بل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- دار هجرته في المنام بصفة تجمع

بين المدينة وغيرها، ثم أُرِيَ الصفة المختصة بالمدينة فتعينت؛ فإذا علمنا كل ذلك

تبين لنا مدى النجاح الذي حققه هذا الاجتماع.

3- الإعداد الأوّلي للاجتماع كان ناجحاً لتركيزه على ثلاثة أركان رئيسة هي:

أولاً: جودة اختيار المكان.

ثانياً: الدقة في تحديد زمان اللقاء.

ثالثاً: ضبط العدد [3] .

أحداث البيعة كما يرويها كعب بن مالك رضي الله عنه:

قال كعب بن مالك: خرجنا في حُجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقُهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة

قال البراء لنا: يا هؤلاء! إني قد رأيت رأياً فوالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟

فقلنا: وما ذاك؟ قال: رأيت ألاّ أدع هذه البَنِيّة مني بظَهر يعني الكعبة وأن أصلي

إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلاّ إلى الشام،

وما نريد أن نخالفه. فقال: إني لمصلّ إليها.

فقلنا له: لكنا لا نفعل. فكنّا إذا حضرت الصلاة صلّينا إلى الشام وصلّى إلى

الكعبة، حتى قدمنا مكة وقد كنا عِبْنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما

قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

حتى نسأله عما صنعتُ في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما

رأيت من خلافكم إياي فيه.

قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنا لا نعرفه

ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-، فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. قال: فهل تعرفان العباس بن

عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.

فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس

معه، فسلّمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: هل

تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه،

وهذا كعب بن مالك؛ فوالله ما أنسى قول رسول الله: الشاعر؟ قلت: نعم. فقال

له البراء ابن معرور: يا نبي الله! إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله

للإسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البَنِيّة مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني

أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟

قال: قد كنتَ على قبلةٍ لو صبرت عليها.

قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصلّى معنا

إلى الشام.

ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقبة من

أوسط أيام التشريق.

فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا،

وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلّمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا

نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً.

ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيانا

العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيباً.

فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من

رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى

اجتمعنا في الشّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من

نسائنا: نُسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي.

قال: فاجتمعنا في الشّعب ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى

جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلاّ أنه أحب

أنه يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول متكلم العباس بن

عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها إن محمداً منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّ من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعةٍ من قومه وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب

في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم!

فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعنك

مما نمنع من أُزُرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر!

فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أبو الهيثم

بن التّيَهان، فقال: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها يعني

اليهود فهل عَسَيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: بل الدم الدم، والهَدْم الهَدْم، أنا

منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أخْرِجوا إليّ منكم اثني

عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم) ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعة من

الخزرج، وثلاثة من الأوس.

وكان أول من ضرب على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البراء بن

معرور، ثم بايع بعدُ القوم.

فلما بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرخ الشيطان من رأس العقبة

بأنفذ صوت سمعته قطّ: (يا أهل الجباجب، هل لكم من مذمّم والصّباةُ معه، قد

اجتمعوا على حربكم) ؟ فقال رسول الله: (هذا أزبّ العقبة، هذا ابن أزْيَب) !

ثم قال رسول الله: انفَضّوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عُبادة بن نَضْلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلَنّ على أهل منى غداً بأسيافنا! فقال رسول

الله: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم) .

فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا

جِلّةُ قريش، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا

تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من

العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم!

فانبعث مَن هناك مِن مشركي قومنا يحلفون بالله: ما كان من هذا شيء، وما

علمناه! وقد صدقوا، لم يعلموه. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض.

ونفر الناس من منى، فتَنطّس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في

طلب القوم، فأدركوا سعد بن عُبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيباً.

فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنَسْع رحله،

ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه، ويجذبونه بِجُمّتِه، -صلى الله عليه وسلم-

وكان ذا شعر كثير.

قال سعد: فو الله إني لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفر من قريش، فيهم رجل

وضيء أبيض، شعشاع حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من

القوم خير فعند هذا. فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي:

والله ما عندهم بعد هذا من خير! فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني؛ إذ أوى لي

رجل ممن كان معهم فقال: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟

قلت: بلى، والله، لقد كنت أُجير لجُبَير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف

تُجّارَهُ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي؛ وللحارث بن حرب بن أمية بن

عبد شمس بن عبد مناف. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما.

قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة،

فقال لهما: إن رجلاً من الخزرج الآن يُضرب بالأبطح ويهتف بكما، ويذكر أن

بينه وبينكما جواراً. قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة. قالا: صدق والله، إن

كان ليُجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يُظلموا ببلده!

قال: فخلّصا سعداً من أيديهم، فانطلق [4] .

من هذا السرد الحي لأحداث الاجتماع تتضح لنا عناصر مهمة من عوامل

النجاح فيه؛ فاللقاء إذن كان له طابع خاص لا يتناسب وطبيعة منى المكتظة

بالحجاج من مشركي العرب ومشركي مكة الذين يتابعون تحركات النبي -صلى الله

عليه وسلم- يسيرون معه حيثما سار، ويردون على قوله أمام الوفود التي يدعوها

للإسلام. كما أن الهدف بحد ذاته يتطلب قدراً من السرية لئلا يعلم به أولئك

المشركون الذين يملأون السهل والجبل.

وخلاصة الأمر أن هذا النجاح يمكن أن يعود برمته بعد رعاية الله إلى القيادة

الفذة التي رتبت مثل هذا اللقاء وأسهمت في إنجاحه، ثم إلى المعايير الخاصة للّقاء

من حيث طبيعته وزمانه ومكانه، ثم إلى الأفراد المشاركين من مسلمي المدينة؛

الذين تقيدوا بالحضور والانصراف حسب الموعد المحدد للقاء، وضبطوا العدد لئلا

يدخل فيه من ليس من أهله؛ بسرّية عجيبة تذهل العقول. وفيما يلي أتناول هذه

الجوانب المهمة من الاجتماع التي أدت إلى نجاحه:

أولاً: المهارة القيادية الفذة:

الناظر في أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- طيلة هذا اللقاء تتحدد له

سمات القائد الناجح الذي يعوّل عليه في مهمة عقد الاجتماعات الدعوية والقيام بها.

ومن هذه السمات البارزة ما يلي:

1- متابعته لتطورات الأحداث في المدينة بعد اللقاء الأول في العام الحادي

عشر من البعثة.

2- توليه المباشر لمهمة التنسيق لهذا الاجتماع مع مصعب بن عمير -رضي

الله عنه- قبيل موسم الحج بوقتٍ كافٍ.

3- تحديد الهدف المطلوب ووضوحه قبل عقد الاجتماع.

4- حكمته الفذة -صلى الله عليه وسلم- في ترتيب لقاءاته الدعوية وتقديم

الأهم فالأهم.. سواء أكان ذلك في الطرح والدعوة، أو في تهيئة جو اللقاء من

حيث الزمان والمكان المناسبين.

5- توقيت حضوره -صلى الله عليه وسلم- للقاء ينطوي على حنكة لا تخفى

على الخبراء في هذا المجال؛ فلم يكن هو أول الحضور، بل تأخر عنهم حتى

يكتمل عدّهم، ويتوافى عددهم. فكانوا يقدمون فرداً تلو الآخر، كما قال جابر:

(فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين.. إلخ) . حتى إذا اكتمل

عددهم أقبل عليهم -صلى الله عليه وسلم- وفيه ما فيه من ترقب النفوس الظامئة

لِلُقْياه والأنس به -صلى الله عليه وسلم-، وفيه ما فيه كذلك من إحلال الهيبة

والهدوء في المكان الذي اكتظ بثلاثة وسبعين فرداً، كما أن الحالة الأمنية تفرض

تأخره إلى ذلك الوقت لانتشار عيون قريش هنا وهناك. فلو أن عيناً من هذه العيون

اطّلع في أول الأمر لم يَرُعْهُ كونهم حجاج يثرب يتسامرون أو يقضون أمراً خاصاً

بهم في هذه الليالي المقمرة!

6- سياق القصة يُظهر انتظار الجميع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا

بعضهم، أي أن العدد اكتمل حضوره تماماً، كما قال كعب: (فاجتمعنا ننتظر

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب..

إلخ) . ولذا كان تحديد بدء فعاليات الاجتماع منطقياً؛ لاكتمال العدد وحضور القائد؛

بخلاف ما لو تأخر البعض عن الموعد المحدد أو حضروا بعد مجيء القائد وأحدثوا

خلخلة في الجدول المعد للاجتماع؛ بكثرة الكلام واللغط والبحث عن مكان مناسب

للقعود.. وغيرها من منغّصات اللقاء.

7- ظل -صلى الله عليه وسلم- بعد حضوره صامتاً يسمع ويعي كل ما

يحدث في المكان؛ فلم يبدأ هو بالحديث؛ وإنما تحدث بلسانه عمه العباس، وبيّن

لهم مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قومه. وهو صامت تعلوه الهيبة والوقار

والسكينة.

8- ينبغي على القائد تحيّن الفرص المناسبة للحديث؛ ويتحقق ذلك عندما

يكون الحاضرون في أشد الشوق إلى سماع القائد وانتظار توجيهاته. ولقد كان

اختياره -صلى الله عليه وسلم- للحديث صائباً وسديداً؛ حيث كان أشد ما كان

الأنصار شوقاً إليه، ولو تقدّم عن تلك اللحظة لم يكن ليقع ذلك الموقع العظيم في

نفوسهم؛ حتى إنهم من شدة حماسهم وتشوّقهم لسماع رسول الله كما في رواية كعب

قالوا: (فقلنا له أي العباس: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله! فخذ لنفسك

ولربك ما أحببت) .

9- لم يدفعه -صلى الله عليه وسلم- هذا الحماس منهم المتمثل في طلبهم منه

الحديث وأخذ ما شاء منهم إلى نسيان الثوابت التي يدعو إليها دائماً، ولم يجره

أسلوب الكلام الذي تأدبوا به؛ وإنما بدأ بمقدمة مهمة كان يبدأ بها دائماً، وكرر ما

كان يدعو إليه. قال جابر: (فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله

وأثنى عليه، وتلا شيئاً من القرآن، ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام..) ثوابت

أساسية لا تزول مهما كان العدد ومهما بلغت العدة والنصرة. والدعاة في هذه الأيام

أحوج ما يكونون لمثل هذه البدايات ولمثل هذا الأدب مع الله تعالى في الدعوة.

ثم بعد هذه المقدمة قال -صلى الله عليه وسلم- باختصار شديد: (أبايعكم على

أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم) . وهذا هو ما يسمى بتحديد الهدف

من الاجتماع. وهو هنا واضح للجميع وضوح الشمس. وبمقدرة القائد الفذ -صلى

الله عليه وسلم- أن يحكم بجدوى هذا الاجتماع من عدمه من جرّاء الوفاء بهذا

الشرط وتحقيق هذا الهدف. وكل الروايات التي سردت أحداث البيعة تحوم حول

هذه العبارة؛ وقد لا تزيد أكثر الروايات صحة عن أسطر قليلة من مطالبه وشروطه- صلى الله عليه وسلم- فوق هذا الشرط.

10- لم يكن حديثه -صلى الله عليه وسلم- كثيراً بعد هذا الكلام، وما كانت

مواقفه بعدها إلا أن تبسمَ رضىً مما يسمع من كلام الأنصار بعضهم لبعض، أو رداً

على سؤال كما حدث من سؤال أبي الهيثم بن التيهان -صلى الله عليه وسلم- فرد

عليه بألفاظ تعبّر عن المعنى بأوجز الكلام وأبلغه.

واقتصر الحديث بعد ذلك على ما كان توجيهاً وإرشاداً للأصلح في اللقاء

وتسهيلاً لبلوغ الهدف المنشود بأقصر الوسائل وأحسن الطرق، كما فعل من طلب

إخراج النقباء بعد أن حدد عددهم ومهمتهم بقوله: (أخرجوا إليّ منكم اثني عشر

نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم) . وهذا التحديد منه قطعٌ لسؤال وارد حتماً عن

العدد إن لم يذكر، وعن المهمة إن لم تُحدد.. والموعد المحدد للقاء لا يحتمل كثيراً

من الأخذ والرد.

11- وكما لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا اللقاء ليبدأ من قِبَل

الأفراد أنفسهم وتحكّم هو في مبدئه عندما حضر مع عمه العباس. وكان الحديث

خلال الاجتماع كله يدور تحت سمعه وبصره: يقر ويعلّق ويوجه.. كان هو

المتحكم كذلك بموعد الانتهاء ولم يتركه للظروف أو لموافقة الحال؛ ولذا تجده -

صلى الله عليه وسلم- يقرر موعد الانتهاء بصرامة واضحة: (انفضّوا إلى رحالكم) ؛ لأن مصلحة العودة في الوقت المناسب تفوق المصلحة المترتبة من جراء الحديث

الودي الذي كان يدور في المجلس؛ بل إن المفسدة متحققة إذا طلع الفجر ولم ينفضّ

المجلس. ولذا فإنه لما أراد بعضهم أن يطيل أمد الجلوس ويأنس بالحديث مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ويستمتع بطول هذا اللقاء وهو العباس بن عبادة بن نضلة

بقوله -: (والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا)

وهذا الطلب منه كان بعد الأمر بالانصراف حتماً، فما كان رده -صلى الله عليه

وسلم- إلا مقتضباً ومُكرّراً التأكيد على ضرورة الانصراف: (لم نُؤمر بذلك ولكن

ارجعوا إلى رحالكم) . وهذا فن عظيم من فنون القيادة فيه الضبط والحنكة والحزم.

12- تشبّع هذا اللقاء بجرعات كبيرة من الطاقة والحماس في نفوس

المجتمعين له.. ويعبر عن ذلك ألفاظهم من أول اللقاء إلى منتهاه. ففيه المنعة،

والنصرة، والقوة، والحرب، والحلقة، وتقطيع الحبال. وفيه: الدم، والهدم،

والحرب، والسلم، وفيه: الميل للعدو، والقتل، والإخراج من البلد، ومفارقة

العرب، وقتل الخيار، وعض السيوف. ولا شك أن القائد بحاجة في هذا الموقف

إلى ضبط هذا الحماس للخروج بنتائج إيجابية وأكثر واقعية من اللقاء؛ وعدم

الاسترسال في هذا الحماس الذي ربما وصل إلى مرحلة يفقد فيها القائد زمام

المبادرة حين يسقط الأمر من يده. لقد عالج -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك معالجة

سريعة ناجحة؛ فهو في آخر اللقاء يقول: (لم نؤمر بهذا) وكأنه يريد أن يذكّرهم

بأنه لا يفعل هذا الأمر من قِبَل نفسه، وإنما ينتظر ما يأمره به ربه؛ فحري بهم أن

يكونوا كذلك: أي لا يحدثون حدثاً حتى يؤمروا به، ولا يتصرفون من قِبَل أنفسهم

حتى يُؤذن لهم. وفيه إقرار لشجاعتهم؛ لأنه لم يردها ولم يوجه اللوم عليها. وفي

هذا ما فيه من الحفاظ على المشاعر وإبقاء جذوة الحماس وتهذيبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015