مجله البيان (صفحة 2990)

دراسات تربوية

الرابطة الإيمانية

حقوقها آدابها أهدافها

عبد الحكيم بن محمد بلال

يستمد المسلم سعادته في هذه الحياة من أمرين:

أولهما: حسن الصلة بالله تعالى.

وثانيهما: حسن الصلة بعباد الله المؤمنين. الذين عقد الله بينهم رباط الأخوة

الإيمانية.

وهذه الرابطة هي الركيزة الأساس بعد الإيمان بالله عز وجل الذي هو أساسها؛ حيث أمر الله بالاجتماع على أساس الإيمان فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ

حَقَّ تُقَاتِهِ] [آل عمران: 102] ، ثم قال: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا

تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 103] ، ثم امتنّ بهذه النعمة الجليلة فقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ

اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً]

[آل عمران: 103] [1] .

فلا أخوة بلا إيمان: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ، ولا صداقة

بلا تقوى: [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ] [الزخرف: 67] ،

وإذا انعدمت الصلة الروحية الإيمانية التقت الأجساد على المصالح الذاتية، والمنافع

الشخصية.

وهذه الرابطة هي قوام المجتمع. وقد كانت الدعامة الثانية - بعد بناء المسجد- في تأسيس دولة الإسلام في المدينة بُعَيد هجرة النبي. ولقد كانت قصة المؤاخاة

بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى

الأحلام، وهي قصة وقعت في الأرض، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان.

وفي المقابل فإن انفكاك هذه الرابطة هو سبب الفشل والضياع، قال تعالى:

[وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: 46] ؛ لذا عمل الإسلام على

توثيق عرى الأخوة ببيان فضائلها ومقاصدها وثمراتها ووسائل تعميقها، ووعد

عليها أحسن الجزاء، واعتبرها وسيلة لكثير من المقاصد والغايات الشرعية العامة.

وهذه النقاط هي محور الحديث. وحتى يكون الحديث مجدياً فلا بد أن يكون وسطاً

بين المثالية المغرقة، وبين إقرار الواقع على علاته [2] .

فضائل الأخوة:

1- الأخوة أوثق عرى الإيمان، وتحقيقها عبادة من أعظم العبادات، بل هي

من كمال الإيمان. قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد

استكمل الإيمان) [3] ، وبها تُتَذوق حلاوته، قال: (من سره أن يجد طعم الإيمان

فليحب المرء، لا يحبه إلا لله عز وجل) [4] والموالاة على أساس الإيمان منهج

أولياء الله تعالى، قال عز وجل: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ

مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ

كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ] [المجادلة: 22] . فهي

طريق إلى ولاية الله عز وجل.

2- وبالأخوة تُستجلب محبة الله تعالى، كما في الحديث القدسي: (وجبت

محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ) [5] .

3- والأخوة سبيل إلى ظل عرش الله تعالى، فمن السبعة الذين يظلهم الله في

ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) [6] .

4- والأخوة سبب لعلو المكان في الآخرة، ودخول الجنة؛ فالمتحابون في الله

على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الأنبياء والشهداء [7] ، وجوههم نيّرة،

وقلوبهم آمنة، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

5- وهي عماد التعاون على البر والتقوى، وهو أمر لا يُتصور حصوله من

الفرد؛ وذلك أن الأخوة قوة إيمانية تورث الشعور بالمحبة والثقة والارتباط، الذي

بدوره يولد أصدق العواطف في اتخاذ مواقف إيجابية من التعاون والإيثار والرحمة

والعفو والتكافل، وفي اتخاذ مواقف سلبية من الابتعاد عن كل ما يضر الناس في

أنفسهم وأموالهم وأعراضهم [8] .

6- أنها تعتبر سبباً لتحصيل أجور عبادات لا تحصل إلا بها، وهي ما كان

من باب حقوق الأخوة وآدابها، ومن ذلك:

أ - المصافحة: وهي من أسباب المغفرة، لحديث النبي: (ما من مسلمين

يلتقيان فيتصافحان، إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا) [9] .

ب - عيادة المريض: ففي الحديث: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله

ناداه منادٍ: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً) [10] .

7- والأخوة أيضاً طريق للنجاة من وعيد الله تعالى الذي توعد به من آثر

الدنيا على محبة الله؛ حيث قال: [فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي

القَوْمَ الفَاسِقِينَ] [التوبة: 24] .

مقاصد الأخوة وثمراتها:

1- لا يخفى أن المقصود من الأخوة: التعاون على البر والتقوى، والتواصي

بالصبر. ورعايةً لهذا المقصود النبيل؛ فإنه يلزم اختيار الأخ والصديق على هذا

الأساس؛ بحيث يكون معيناً على طاعة الله ومرضاته، فإن أقل ما يستفيده الأخ من

أخيه: الانكفاف بسببه عن المعاصي؛ رعايةً للصحبة، وتنافساً في الخير [11] .

2- وهناك مقصود آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو: الاستعانة على نوائب

الدهر، وحاجات الزمان، وإنما يحتاج الإنسان (إخوان العُشرة لوقت العسرة) [12] ، وقال القاسم بن محمد: (قد جعل الله في الصديق البار المقبل عوضاً من ذي

الرحم العاق المدبر) [13] . وانظر كيف سأل موسى عليه السلام ربه أن يجعل معه

أخاه هارون وزيراً.

3- وحين نوسّع النظرة نرى الأخوة رباط المجتمع وعماده، وصمام أمانه،

وسرّ قوته.

ويوم أن يكون المؤمنون جسداً واحداً فإنه يستحيل لقوة بشرية - كائنة ما

كانت - اختراقهم، إلا حين يدب الداء من داخلهم. ويوم يتحقق الجسد الواحد نرى

النتائج الطيبة التي حققها الرعيل الأول حين نشروا الإسلام في أرجاء المعمورة،

وانبثقت عنهم حضارة الإسلام [14] .

وبالجملة: فإن أقل ما تستفيده من الأخ: (أن يحفظك في حضرتك ومغيبك،

وأن تنفعك محبته ودعاؤه في حياتك ومماتك، وأن يدافع عنك، وقد يعرّفك ويصلك

بمن تستفيد منهم) [15] لدنياك وآخرتك.

لأجل هذه الأمور ونحوها كان ابتعاد المسلم عن إخوانه وانقطاعه عنهم عقوبة

من أعظم العقوبات، قال الشافعي: (ضياع العالم أن يكون بلا إخوان) [16] .

وهل كانت عقوبة الثلاثة الذين خُلّفُوا رضي الله عنهم إلا بقطع صلتهم عن إخوانهم

وحجبهم عنهم؟ ولا عجب فإن المؤمن بلا إخوان كعضو بُتر من جسد؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد شبه المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وجعل

مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه

عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى [17] .

شرائط الأخوة وضوابطها:

إن من ينشد تلك الفضائل والمقاصد من علاقة يقيمها هو وفق هواه كمن ينشد

الماء في السراب؛ فإن ذلك مكسب كبير لا يتأتى إلا من علاقة خاصة تتوجها الحلل

الآتية:

1- كونها خالصة لوجه الله تعالى، مجردة من المقاصد المادية؛ ففي الحديث

أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى

عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من

نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل. قال: فإني رسول الله

إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه [18] ، وإلى هذا المعنى تشير النصوص

العامة في اشتراط الإخلاص في كل عمل، وبخاصة الواردة في المؤاخاة والمحبة.

2- اقترانها بالإيمان والتقوى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: 10] ،

وبيّن عز وجل تبدد العلاقات إلا ما كان عماده التقوى، فقال: [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ] . [الزخرف: 67]

3- التزامها منهج الإسلام وتعاليمه: وإليه يلمح قوله -صلى الله عليه وسلم-

في نعت الأخوة الموصلة إلى ظل الله تعالى: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه

وتفرقا عليه) .

4- قيامها على النصح: ولمكانة هذا الشرط استحق أن تؤخذ عليه العهود،

قال جرير بن عبد الله البجلي: (بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام

الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) [19] ، وإذا كان ذلك لعامة المسلمين

فهو لخاصة الأصحاب أوْلى بالمراعاة.

5- التعاون على البر والتقوى: وهو الهدف الأول من عقد الأخوة، واختلاله

يؤذن بزوالها وتحولها.

6- التكافل والتباذل والتضحية والتعاون على ضرورات المعيشة وحاجاتها،

وهو أمر من الجلاء بحيث لا تخفى نصوصه الآمرة به، كحديث: (لا يؤمن أحدكم

حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [20] ، وحديث: (مثل المؤمنين في توادهم

وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد

بالسهر والحمى) [21] ونحوها.

من تُصاحب؟

قديماً قيل: قلْ لي من تصاحب أقل لك من أنت. ومصداقه قول النبي:

(الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) [22] . وعليه فاختيار الصديق

مرحلة خطيرة تشبه مرحلة اختيار الزوجة من حيث أنها تشكل منعطفاً في حياة

المرء له ما بعده.

أما خصال ذلك الصاحب المراد اختياره فتُجمَل في أمور:

1- سلامة دينه من البدعة والفسق وإيثار الدنيا؛ وذلك لأن من شروط

الصحبة قيامها على الإيمان والتقوى.

2- حسن خلقه وطيب قوله.

3- دوام نصحه، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر.

4- استعداده لبذل المعروف وكف الأذى، وإيثاره على نفسه.

5- سلامة عقله، وحسن اختياره، وسداد رأيه؛ لشدة تأثيره على صاحبه في

ذلك [23] .

ومن ذلك جِدّه في حياته، وحسن استغلاله وقته، فإن من أعظم الضرر

صحبة البطالين، وهم من ليسوا في شغل نافع من أمر دينهم أو دنياهم، وإن كان

ظاهرهم الصلاح؛ فإن هؤلاء أكبر مضيع للحياة، ولقد كان للسلف تدابير وخطط

في التعامل مع هؤلاء، وتوقي ضررهم ...

أما قول وهب بن منبه: (استكثرْ من الإخوان ما استطعت، فإن استغنيت

عنهم لم يضروك، وإن احتجت إليهم نفعوك) [24] فينبغي حمله على من تصح

مؤاخاته ممن توفرت فيه شرائط المؤاخاة المتقدمة.

ومن المقرر: أن الرجال أنواع وأصناف ودرجات، ولكل منهم منزلة ومكانة؛ فالواجب إنزال الناس منازلهم، وأن تمنح من وقتك وجهدك لكل منهم ما يليق به، ويتناسب مع مستواه، ولذا كان من أعسر الأمور، إدارة العلاقات الاجتماعية،

لحاجتها إلى فهم النفسِيّات وحسن التعامل معها.

وسائل تعميق الأخوة:

لقد شرع الله عز وجل كثيراً من العبادات الجماعية التي تقوي الصلة بين

المسلمين، كصلاة الجماعة والجمعة، وصلاة العيدين والحج، وشرع أيضاً عبادات

أخرى تحقق التكافل والتعاون بينهم كالصوم والزكاة، وأوجب حقوقاً وواجبات

متبادلة بين الأرحام والجيران، وتزداد إذا كان القريب أو الجار مسلماً صالحاً. كما

شرع كثيراً من المعاملات التي تزيد روابط المجتمع وثوقاً كالقرض والحوالة،

وحرّم أخرى كالبيع على البيع، والشراء على الشراء، والخِطبة على الخِطبة،

والنجش والربا، وقرر أصولاً في التعامل: كالصدق والبيان لعيوب السلعة،

والخيار، والوزن بالقسط [25] .

وإن من أعظم ما يعمق الأخوة أمرين: القيام بحقوق الأخوة، والتزام آدابها.

وبين هذين الأمرين تشابه واشتراك وتداخل، ولكن الحقوق أوجب وألزم من الآداب. والآداب هي مكان من باب الاستحباب، وقد يقوى بعضها فيصير واجباً لما يقترن

به من القرائن.

أولاً: حقوق الأخوة:

وهي حقوق واجبة الوفاء، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام

والحج، فهي واجبة بنص الشارع على المسلمين بعضهم لبعض، وتتأكد أكثر في

حق من تربطك بهم علاقة أخرى، كالاجتماع على الخير والعلم والعبادة والدعوة،

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن تلك الحقوق: إفشاء السلام، ورده، وعيادة المريض، واتباع الجنائز،

وتشميت العاطس، ونصر المظلوم، وإجابة الدعوة، وبذل النصيحة وقبولها [26] .

ومن حقوق الأخوة: ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال

رسول الله: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع

بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم: لا يظلمه،

ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئٍ

من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله،

وعرضه) [27] .

وهذا الحديث مأخوذ من قول الله تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ]

[الحجرات: 10] فإذا كانوا إخواناً أُمروا بما يوجب الألفة، ونُهوا عما يوجب الفرقة، وهذا من ذلك. وهذا كقوله: (وكونوا عباد الله إخواناً) ، فإن فيه الأمر باكتساب ما يصير به المسلمون إخواناً على الإطلاق، ويدخل فيه أداء الحقوق لواردة في الحديث، وغيرها [28] .

ولعظم حق المسلم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب بالجملة الأخيرة

من الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) في المجامع

العظيمة: في عرفة، والنحر، واليوم الذي بعده. ورعاية لحرمة المسلم حرّم

الشارع السرقة، والغيبة، والترويع، والمزاح بأخذ متاع المسلم، والتناجي

دونه [29] وخلاصة هذه الحقوق كلها: ما ثبت في الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [30] .

أما الأخوة الخاصة وهي الصحبة في سبيل الله والعمل لدينه فإن حقوقها

أوجب وآكد، وتختص بحقوق أخرى كالسعي في قضاء الحاجات بالمال والنفس

والجاه والوقت والتضحية بالراحة [31] فكما أن لها من المنزلة أعلاها، فكذلك لها

من الحقوق الأخوية أكملها وأوجبها، من السؤال وتفقّد الأحوال، وسد الحاجات،

والوفاء للأخوة والثبات عليها، وترك التكلّف حتى لا يُشْعِر الأخ أخاه أنه غريب

فيُحوجه إلى الاعتذار عند كل هفوة [32] .

ثانياً: آداب الأخوة:

وهي كثيرة يجمعها أدب المعاشرة بحسن الخلق؛ فإن الألفة التي هي حقيقة

الأخوة إنما هي: (ثمرة حسن الخلق، والتفرّق ثمرة سوء الخلق؛ لأن حسن الخلق

يوجب التحابب والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتدابر) [33] قال:

(وخالق الناس بِخُلق حسن) [34] ، وقال: (من أحب أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل

الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن

يُؤتى إليه) وهذه قاعدة عظيمة جليلة، وأصل جامع، يبين حقيقة اجتماعية صاغها

الحسن رحمه الله في قوله: (اصحب الناس بما شئت أن تصحبهم؛ فإنهم

سيصحبونك بمثله) [35] .

ومن آداب الأخوة:

1- إعطاء كل واحد من الإخوان حقه، على اختلاف منازلهم؛ بحيث لا

يوغر صدور بعضهم على بعض.

2- الصفح عن العثرات، واحتمال الأخطاء؛ لأنها من طبيعة البشر، وستر

العيوب وتحسينها، وملازمة الحياء منهم.

3- بشاشة الوجه ولطافة اللسان، وسعة القلب، وسلامة الصدر، وقبول

النصيحة منهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه.

4- إحسان الظن بهم، وحمل كلامهم على أحسن الوجوه، وقبول أعذارهم،

ومعرفة نفسياتهم.

5- ملازمة الأخوة وعدم قطعها أو الملل منها؛ إلا بعد استنفاد الفرص

الممكنة لالتماس العذر، كما فعل الخضر مع موسى عليهما السلام، والتواضع،

وحفظ المودة القديمة، وحفظ الأسرار.

6- موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة؛ وذلك سبب عظيم

لبقاء الصحبة وتأكدها، وعسكه بعكسه [36] .

7- إخبار الأخ لأخيه أنه يحبه، ففي الحديث: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره

أنه يحبه) [37] .

8- تَبَنّي مشاريع عامة لصالح المسلمين، أو المشاركة فيها، والتفاعل معها،

من أبلغ الوسائل تعميقاً للأخوة.

ومن آداب الأخوة أيضاً: المشاورة، وقبول الرأي الصائب والإيثار، والدفاع

عن أعراض الإخوان والذب عنهم، والانتصار لهم، والحرص على خدمتهم،

ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، والوفاء لهم بعد مماتهم، والتودد إليهم بصنائع

المعروف، وزيارتهم، ومواساتهم بالمال، والصبر على جفائهم وإكرامهم، وإكرام

أهل الصاحب وأولاده.

ومنها: حسن الاستماع، والهدية، والدعاء بظهر الغيب، والانبساط في

اعتدال والصبر واحتمال الأذى. قال أصحاب طب القلوب: (إذا قصّر الأخ في

حق أخيه فالواجب الاحتمال والعفو والصفح، إلا إذا كان بحيث يؤدي استمراره إلى

القطيعة؛ فالعتاب في السر خير من القطيعة، والتعريض به خير من التصريح،

والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكَل) [38] ، - وترك الجفاء

فالأخوة لا تزيد بالصلة ولا تنقص بالانقطاع، ودوام المودة وتقارب القلوب، فـ

(ليس كل غيبة جفوة، ولا كل لقاء مودة، وإنما هو تقارب القلوب) [39] . ومنها: ... مراعاة النفسِيّات، وعدم المواجهة بالعتاب، وأن لا يكون الأخ ثقيلاً.

ومما يتأكد تركه واجتنابه: الحسد، وإخلاف الوعد، وما يؤذي، والمخالفة

في أمور الدنيا، والغضب، والمنّ بالمعروف، وقبول الوشاية والنميمة، والهجر

والتدابر والمقاطعة، والاحتجاب عن الإخوان لغير سبب، والملامة والعتاب،

والتمادي في المماراة والجدال والخصام، والانتقام والتشفي، والمبالغة في المدح

والإطراء.

آفات المؤاخاة ومفسداتها [40] :

وهي أمر ينبغي أن لا يُغفل عنه. ولا يعني ذكر الآفات التقليل من قيمة

الأخوة، وإنما المقصود صيانتها مما يمسّها. فمن تلك الآفات:

1- الإخلال بحقوق الأخوة وآدابها؛ مما يفصم عرى الأخوة، أو يضيع

مقصودها.

ومن صور الإخلال: ترك النصرة والنصيحة، وترك آداب الحديث

والمحادثة، وضعف الاحترام، وكثرة النقد والجدال والمعارضة، والاعتداد بالرأي، وضيق العطن، والنصيحة في العلن، وتصديق النمّامين والحاسدين، وإذاعة

السر، والتدخل في خصوصياته، أو عدم الاكتراث بمشاكله وظروفه، والحرص

على إظهار الذات، وتحقيق الوجاهة من خلاله، وإخلاف المواعيد والاتفاقات دون

عذر، وكثرة تحديث الأخ بما يغمه ويسوؤه.

2- طلب الكمال: لذا ينبغي أن يُعلم أن الأخوة: جهد بشري، وأن الدنيا لا

تخلو من منغصات، بدليل أن الشرع أباح الهجر دون ثلاث، وإنما يطيب العيش

في الجنة، ولا يخفى ما حصل بين خيرة الأمة.

3- الأثرة وحب النفس، وتقديم حاجاتها مطلقاً على ضرورات الأخوة

وحاجاتهم، وهو مناقض لمقصد الأخوة أصلاً.

4- دخول رابطة من روابط الجاهلية؛ كرابطة الجنس أو النسب أو العشيرة

أو الوطنية أو المصالح المشتركة، بحيث تؤثر على الرابطة الأساس التي قامت

عليها الأخوة.

5- الإفراط في المعاتبة والنظر إلى السلبيات دون الإيجابيات، وترك

الاعتذار أو التسامح. يروى عن رجاء بن حيوة أنّه قال: (من لم يؤاخِ إلا من لا

عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرضَ من صديقه إلا بالإخلاص دام سخطه، ومن

عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه) [41] .

6- تصيّد الأخطاء؛ فإن ذلك يوغر الصدر، وهو مناقض لمقصد النصيحة

وحسن الظن، ثم إن (كل ابن آدم خطاء، فخير الخطائين التوابون) [42] ، وأيضاً

فإن كل متصيد لعيب غيره، غافل عن عيوب نفسه.

7- سوء الظن: وهو جالب للهم والغم، ومتضمن ظلم المظنون فيه، فكم

ظُنّ في رجل سوءٌ، وعومل على أساسه سنوات دون علمه، ومن غير سؤاله

والاستفسار منه، ثم تبين خلاف ذلك.

8- كثرة المخالطة بحيث تُقصد لذاتها ولمجرد المؤانسة، فتصرف عن

المقصود، وتضيع الوقت، وتؤثر في القلب. ومع كثرة المخالطة تكثر الزلاّت

والعثرات، وتزول الكلفة، ويتولد من التزين والبطالة الضيق عن العفو فيكثر

العقاب والتأنيب واللوم والمحاسبة، وحينئذٍ اقرأ على الأخوة السلام؛ لأن الأخوة

النافعة هي التي تُذكّر بالآخرة، وتعين على البر والتقوى، فإن غاب هذا القصد،

حل مكانه التزين والبطالة. كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - في كتاب

الفوائد [43] .

9- ضعف الاحتكام إلى شرع الله، والإعراض عن الضوابط الشرعية التي

تحكم علاقات الناس.

10- الطمع في الدنيا، وفيما في أيدي الناس؛. ففي الحديث: (ازهد في

الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) [44] . ومن تمام أخوة

الصادقين أنهم [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ

فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] . ولذا قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه

ما يحب لنفسه) [45] .

11- التفريط في الطاعات، وعمل المخالفات. قال النبي: (ما تواد اثنان

في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يُحْدثهُ أحدهما) [46] .

12- برود العاطفة، وضعف الحنين والشوق، فتفتقد الأخوة وقودها الذي

يخفف عن النفس القيام بحقوقها؛ فإن المحبة الصادقة والعاطفة الجياشة تحمل الأخ

على الدعاء لأخيه، والقيام بحقوقه، والإحساس بقيمته وخطورة فقده. وفي الحديث: (ما تحابّ رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) [47] . ...

13- التحفظ والتكلف والإثقال على الصاحب، ومراقبته في قيامه بحقوق

الأخوة نحوك، قال ابن تيمية: (العارف لا يرى له على أحد حقاً، ولا يشهد له

على غيره فضلاً، ولذلك لا يعاقب ولا يطالب) [48] .

14- التفريط في إظهار المحبة أو ما يدل عليها وما يستجلبها ويزيدها،

كإعلامه بالمحبة. قال: (إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله، فليخبره أنه

يحبه لله) [49] ، وكالهدية والشكر والثناء بالدعاء أو غيره.

15- إهمال الدفاع عنه في غيبته؛ فإن ذلك ترك لحق النصرة، وخذلان

للأخ، وإذا سمعت ذم أخيك فافترض أحد أمرين:

أ - أن الذي قيل فيه قيل فيك وهو حاضر، فتقول ما تحب أن يقوله.

ب - أن تقدر أنه حاضر وراء جدار يتسمع إليك، وليكن الحال حال حضوره

مثله في غيبته [50] .

16- التلهي عنه بغيره، وقلة الوفاء. وقد كان -صلى الله عليه وسلم-

يحسن إلى صديقات خديجة رضي الله عنها، ويقول: (إن حسن العهد من

الإيمان) [51] .

17- الإفراط والغلو في المحبة، قال: (أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن

يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً

ما) [52] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015