المسلمون والعالم
سلامات هاشم
كانت المنطقة التي أصبحت معروفة بجنوب الفلبين في الوقت الحاضر منطقة
إسلامية، ولم تكن تابعة للفلبين بصورتها الحالية. وقد دخل الإسلام فيها قبل أن
تتكون الفلبين بمئات السنين. وأثبتت الأبحاث والدراسات وجود عناصر مسلمة في
المنطقة منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ومن الثابت تاريخياً أن الإسلام قد انتشر
فيها في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي، وتأسست فيها إمارات
إسلامية مستقلة ذات سيادة في القرن الخامس عشر الميلادي، وقد ازدهر الإسلام
في المنطقة زهاء مائة سنة ابتداء من النصف الثاني للقرن الخامس عشر الميلادي
إلى أوائل النصف الثاني للقرن السادس عشر الميلادي حين بدأت الغزوات
الاستعمارية على البلاد.
الغزو الأسباني والأمريكي:
بعد تسعة وعشرين سنة من سقوط آخر دويلة إسلامية، قام الأسبان بغزو
الجزر التي سموها الفلبين فيما بعد، كان ذلك خلال النصف الثاني من القرن
السادس عشر الميلادي، واستولوا على مجموعة جزر (لوزون وفياياس) المعروفة
حالياً بجزر الفلبين الشمالية والوسطى، وسموها الفلبين نسبة إلى الملك فيليب ملك
أسبانيا، وأجبروا سكان الجزر على اعتناق النصرانية بالحديد والنار كما فعلوا في
الأندلس. واعتنق الناس عقيدة التثليث كرهاً وخوفاً من بطش الأسبان، وتحول
سكان الجزر الوثنيون إلى نصارى وأصبحوا رعايا للتاج الأسباني وجنوداً لغزو
الإمارات الإسلامية المستقلة المجاورة في الجنوب ومحاربة المسلمين فيها.
أراد الأسبان أن يوسعوا مستعمراتهم التي أسسوها وأن يبسطوا نفوذهم إلى
الإمارات الإسلامية المستقلة في الجنوب فقاموا بغزوها، وجندوا الفلبينيين
النصارى لغزو المسلمين، وأعلنت الإمارات الإسلامية في بلاد مورو الجهاد للدفاع
عن عقيدة التوحيد وإعلاء كلمة الحق سبحانه وتعالى ونشبت الحرب بين الجانبين
سجالاً واستمرت أكثر من ثلاثة قرون تخللتها فترات راحة قصيرة لكي يتمكن كل
فريق من جمع رجال جدد وإنشاء قوات جديدة استعداداً لجولة أخرى من المعركة،
وتعرف هذه الحروب في التاريخ بـ (حروب مورو) وهي أطول حروب في
التاريخ كما قاله المؤرخ الأمريكي فيك هارلي. ثم أبرمت اتفاقية باريس في 10
ديسمبر 1898م بين أمريكا وأسبانيا، وبموجبها تنازلت أسبانيا عن الفلبين لصالح
أمريكا مقابل مبلغ تدفعه الأخيرة للأولى، وقدره (20) مليون دولار أمريكي، وجاء
الأمريكيون إلى المنطقة ليحلوا محل الأسبان وأرادوا أن يبسطوا نفوذهم إلى
الإمارات الإسلامية المستقلة في الجنوب التي لم تخضع لأسبانيا، وأعلن المسلمون
الجهاد ضد أمريكا دفاعاً عن العقيدة ولإعلاء كلمة التوحيد ودارت الحرب بين
الجانبين واستمرت أربعين عاماً تقريباً.
وما إن اندلعت الحرب العالمية الثانية حتى ازدادت مشكلة مسلمي مورو تعقيداً؛ لأن الهجوم الياباني على الفلبين حيث المستعمرة الأمريكية وقواعدها العسكرية
شمل بلاد مورو في الجنوب.
وانتهت الحرب بهزيمة اليابان وظلت أمريكا تحتفظ بمستعمرتها الفلبين،
وأصبحت لها يد عليا في المجال العسكري في المنطقة بما فيها بلاد مورو.
ضم بلاد مورو إلى الفلبين:
في عام 1946م منحت أمريكا الفلبين استقلالها، ودبرت الفلبين ضم بلاد
مورو إليها، وتم لها ذلك بمساعدة أمريكا. وبعد ضمها ظلماً وعدواناً بدافع الجشع
الاستعماري سموها غدراً (جنوب الفلبين) .
وقد عارض مسلمو مورو ضم بلادهم معارضة شديدة، ولكن لم يحدث صراع
دموي بينهم وبين الحكومة الفلبينية فوراً؛ لأن الجانبين كانا يعانيان من متاعب
الحرب العالمية الثانية التي تركت البلاد في دمار وفقر شديد، وانشغل الناس في
البحث عن القوت والملبس والمأوى.
مخططات الفلبين لاغتصاب أرض مورو:
لم يكن هناك نصارى في بلاد مورو قبل إلحاقها بالفلبين سوى جماعة قليلة
جداً، وقد عمدت الحكومة الفلبينية إلى إنشاء مستوطنات نصرانية في بلاد المسلمين
وقامت بتهجير النصارى إليها.
كما وضعت خطة لاحتكار ثروات مناطق المسلمين دون أن تعود أي فائدة
منها إلى أصحابها، كما عملت على انتزاع السلطات المحلية من أيدي المسلمين،
وحاولت القضاء على الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية.
وبطبيعة الحال لم يرض المسلمون بهذه العمليات، وعارضوها بشدة،
وطالبوا الحكومة الفلبينية بوقف الهجرات النصرانية وعملية الاستيطان في بلادهم،
ووقف توجيه البلاد لصالح المستوطنين النصارى، ووقف انتزاع سلطات المسلمين. وكان رد الحكومة الفلبينية على هذه المطالب استخدام القوة والعنف والإرهاب
لإخضاع المسلمين لما تريد.
المقاومة الإسلامية:
انتشر الظلم والفساد والطغيان وتفشت الجرائم ضد مسلمي مورو، وقامت
العناصر النصرانية المدعمة من قبل الحكومة باعتداءات متواصلة ومتكررة على
القرى الإسلامية، وأحرقوا بيوت المسلمين ومساجدهم ومدارسهم، وتشرد المسلمون
فأدركوا أن الخطر الحقيقي محيط بهم فعلاً، وأن حياتهم مهددة، وأن الأمر ليس
مجرد استيطان واحتكار ثروات البلاد وانتزاع السلطات المحلية من أيدي المسلمين؛ وإنما هي خطة مدبرة لإبادتهم أو طردهم من أرضهم. ولم يجد المسلمون ملجأ
سوى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وأرضهم.
ومن هنا قامت الحرب بينهم وبين الحكومة الفلبينية التي أنشأها الاستعمار
وساعدها في ضم بلاد المسلمين، وكانت بداية الحرب عام 1970م ولا زالت
مستمرة حتى الآن. أي إن الحرب بين مسلمي مورو والحكومة الفلبينية قد مضى
عليها الآن ثمانية وعشرون عاماً.
ثم شهد المسلمون خلال تلك السنوات الطويلة ألواناً من العنف والإرهاب
والاضطهاد والمكر والخداع؛ فبعد أن أخفقت محاولات الفلبين في القضاء على
المسلمين أو إخماد حركتهم المسلحة بالإرهاب أو تخويف ضعاف النفوس لجأت إلى
المكر والخداع، ومنح الأموال والمناصب لشراء ضعاف الإيمان.
إخفاق سياسات العنف الحكومي:
لم تحقق الفلبين هدفها عن طريق العنف والإرهاب، ولا عن طريق المكر
والخداع؛ فلجأت إلى الحرب الباردة، والمفاوضات السياسية، وهي تحمل وراءها
المكر والخداع أيضاً ولكن بشكل آخر. ورؤية نتائج المفاوضات تختلف؛
فالسطحيون من جانب الحكومة يرون أنها لصالحهم، والذين ينظرون إلى القضية
في عمقها يعلمون أن نتائج المفاوضات ليست لصالح الحكومة.
والسطحيون من المسلمين داخل البلاد وخارجها يعتقدون أن نتائج المفاوضات
لصالح المسلمين وقضيتهم المصيرية، وأما المسلمون الذين يفهمون الوضع
ويدركون عمق المسألة فيعلمون أن المفاوضات ونتائجها لعبة سياسية استهدفت
مصالح شخصية قبل المصالح الوطنية.
أهم أحداث الحرب الباردة:
فيما يلي عرض موجز لأهم الأحداث والتطورات منذ بداية الحرب الباردة
وحتى الآن:
أولاً: التوقيع على اتفاقية طرابلس المعروفة، في ديسمبر عام 1976م، بين
الحكومة الفلبينية وجبهة تحرير مورو الوطنية بقيادة نور مسواري، ولم تنفذ
الاتفاقية حتى الآن وبقيت حبراً على ورق.
ثانياً: انقسام الحركة المسلحة إلى جبهتين الوطنية والإسلامية؛ وقوات جبهة
تحرير مورو الوطنية بقيادة مسواري، وظهرت جبهة تحرير مورو الإسلامية بقيادة
سلامات هاشم.
جذور انقسام المجاهدين:
زعم الأعداء أن الانقسام كان بسبب التنافس على القيادة فضلاً عن الخلاف
القبلي والإقليمي، ووافق على هذا المسلمون السطحيون والمشغولون بشؤونهم
الخاصة، والذين ليس لديهم وقت لتقصي الحقائق، واكتفوا بأخذ رأي الأعداء؛
وهذا شأن كثير من المسلمين وللأسف؛ إذ يأخذون بدعايات الأعداء المكتوبة
والمسموعة والمرئية، وإن كان هدف هذه الدعايات ضرب الإسلام وتضليل
المسلمين.
وأما المسلمون الذين فهموا حقيقة الأمر فهم قليلون جداً، ومغلوبون على
أمرهم، لا حول لهم ولا قوة، ولكنهم مؤمنون صادقون في إيمانهم؛ وبسبب هذا
الإيمان الصادق يعلمون حقيقة الصراع بين الحق والباطل وبين الإسلاميين
والعلمانيين.
وبعد صبر طويل ومعاناة شديدة تبين الحق وأدرك المسلمون جدوى قيام جبهة
تحرير مورو الإسلامية التي تتمسك بعقيدة السلف الصالح وهي عقيدة النبي -صلى
الله عليه وسلم-وأصحابه رضي الله عنهم، وتتجه اتجاهاً إسلامياً مستقيماً لا يميل
إلى اليمين ولا إلى اليسار، وتقود الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وهي
خير للمسلمين، وحتى الإخوة في جبهة تحرير مورو الوطنية يعترفون بأن قيام
جبهة تحرير مورو الإسلامية خير للقضية ولشعبنا المسلم المظلوم، وبدأ التنسيق
معهم على مستوى الأفراد، وسوف يتم قريباً جداً إن شاء الله التنسيق على مستوى
التنظيم.
ثالثاً: إنشاء ما يسمى بالحكم الذاتي الإقليمي في منطقة منداناو المسلمة.
أُنشِئ هذا الجهاز خلال إدارة أكينو، ولم يصدق أحد أن هذا هو الحل
الصحيح للمشكلة، ولم يهتم به أحد سوى السياسيين الفاسدين الذين لا همّ لهم سوى
إشباع جشعهم واستخدامه لسرقة أموال الدولة والشعب واحتكار ثروات البلاد.
رابعاً: إنشاء ما يسمى (مجلس جنوب الفلبين للسلام والتنمية) :
لم يرَ أحد منذ البداية أن إنشاء هذا المجلس هو الحل، ولم يحقق المجلس
شيئاً منذ إنشائه في ديسمبر عام 1996م، واعترف الإخوة في جبهة مورو الوطنية
بأنهم وقعوا في فخ، علماً بأن تشكيل المجلس هو ما اتّفِق عليه في المفاوضات بين
الحكومة الفلبينية وجبهة مسواري الوطنية. والمجلس يفتقد الأجهزة الحكومية الثلاثة: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن ثم فهو ليس حكومة، وهو خال من السلطة
العسكرية والأمنية؛ فلا حول له ولا قوة.
خامساً: تولى الأخ نور مسواري منصب محافظ لما يسمى بـ (الحكم الذاتي
الإقليمي لمنطقة مندناو المسلمة) ، ولا نريد أن نعلق على هذا الأمر، ولكن نذكر
قول بعض المراقبين السياسيين الذين شبهوا الأخ مسواري براكب سيارة لا محرك
لها.
سادساً: برزت جبهة تحرير مورو الإسلامية ممثلة أكبرَ قوة معارضة
للحكومة كما تقول الصحف والمجلات والإذاعات المسموعة والمرئية الفلبينية إضافة
إلى ظهور الجهاد وحدوث مواجهات مسلحة بين القوات المسلحة الفلبينية
والمجاهدين التي اشتدت وتصاعدت في أواسط التسعينيات وهي مستمرة حتى الآن، ولم تشهد المنطقة حرباً مثلها إلا أثناء الحرب العالمية الثانية، وأسفرت
المواجهات عن تحرير بعض من أراضي المسلمين التي اغتصبتها الحكومة الفلبينية.
سابعاً: تحقق وجود مناطق محررة يطبق فيها حكم الله؛ إذ لم يتمكن
المسلمون من تحرير أراضيهم التي ضُمت إلى الفلبين في عام 1949م إلا في هذه
السنوات، وفي التسعينيات بالذات، فقد استطاع المجاهدون بعون الله وفضله أن
يحرروا بعض المناطق الإسلامية التي اغتصبتها حكومة الفلبين، وأقامت الجبهة
فيها دولة مورو الإسلامية، وتتوافر فيها العناصر التي تتكون منها الدولة طبقاً
لتعريف الدولة في الاصطلاح القانوني، ولا ينقصها إلا الاعتراف الدولي، ولا
نطالب بهذا إلا بعد تحرير كافة بلاد مورو التي كانت مستقلة وذات سيادة قبل أن
تغتصبها الفلبين ظلماً وغدراً وخيانة.
ثامناً: المفاوضات بين جبهة مورو الإسلامية والحكومة الفلبينية:
دعت الحكومة الفلبينية جبهة تحرير مورو الإسلامية إلى المفاوضات
فاستجابت لذلك وبدأت المفاوضات بين الجانبين في 7/1/ 1997م ومثل كلا
الفريقين لجنة فنية مكونة من الخبراء في شؤون المفاوضات.
وكانت الحكومة الفلبينية تطالب جبهة تحرير مورو الإسلامية بأن تكون
المفاوضات في إطار الدستور الفلبيني، ورفضنا ذلك رفضاً باتاً وأعلنا أن جبهة
تحرير مورو الإسلامية لا تعترف بالدستور الفلبيني، وسكتت الحكومة واستمرت
المفاوضات، ومضى عليها أكثر من واحد وعشرين شهراً، وما زالت المباحثات
تدور حول نظام وقف إطلاق النار.
استمرار المواجهات:
بلغ عدد المعارك والمواجهات العسكرية بين المجاهدين والقوات المسلحة
الفلبينية خلال المفاوضات التي استمرت أكثر من واحد وعشرين شهراً واحداً
وخمسين مواجهة على الحدود المتاخمة للمناطق الإسلامية المحررة بين محافظتي
لاناو الجنوبية وماجنداناو، وما يقرب إلى عشرين معركة ومواجهة مسلحة في
أماكن مختلفة في محافظة كوتباتو الجنوبية، وبلدية شريف أجواك، ومحافظتي
زامبوانجا الشمالية والجنوبية، وجزيرة سيلان، وغيرها. وقتل خلالها مئات من
الجنود الصليبيين، ودمرت عشرات من دباباتهم ومصفحاتهم، كما استشهد عدد من
المجاهدين، وكانت المعارك المتكررة شديدة وعنيفة.
وعلى أي حال فقد اتفق الجانبان على استمرار المفاوضات، وشهد على هذا
الاتفاق عدد من المسؤولين من الجانبين، كما شهد عليه بعض السفراء المسلمين.
وستستأنف المفاوضات في الخامس عشر من شهر اكتوبر (1998م) لمناقشة طلب
جبهة مورو الإسلامية بأن تعترف الحكومة بالمناطق الإسلامية المحررة التي تديرها
الجبهة الإسلامية، وتعتبرها دولة إسلامية، والكلمة الأخيرة في شأن المفاوضات أن
مطلب جبهة تحرير مورو الإسلامية هو الاستقلال الكامل للمناطق الإسلامية التي
ضمتها الفلبين، وهذا الموقف لا يقبل المساومات والتنازلات إن شاء الله والحكومة
الفلبينية تعلم هذا.
تاسعاً: دور المساجد في نشر العقيدة الإسلامية والتعاليم الإسلامية الأصيلة:
في أوائل السبعينيات وفي السنوات الأولى للحرب بين المسلمين والحكومة
الفلبينية كان من ضمن أهداف الجنود الصليبيين تدمير المساجد أو حرقها وتم لهم
حرق المئات منها، ولم يبق إلا القليل.
وبعد أن تمكن مجاهدو جبهة مورو الإسلامية، بعون الله وفضله من الوقوف
بوجه الحملة الصليبية الشرسة، ومن وقف الزحف الصليبي إلى أعماق بلاد
المسلمين، وبعد أن استطاع المجاهدون بفضل الله وإرادته أن يحرروا بعض
المناطق الإسلامية؛ تحسن الوضع؛ حيث شعر الصليبيون أن المسلمين امتلكوا قوة
عسكرية لا يستهان بها؛ فتوقفوا عن أعمالهم الوحشية، ونشاطاتهم البربرية. وفي
الوقت نفسه اهتمت الدول العربية والإسلامية بإقامة مساجد ومدارس في البلاد
الإسلامية النائية؛ فكثرت المساجد والمدارس في منطقة مورو، ولعبت هذه
المساجد دوراً كبيراً في نشر العقيدة الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف؛ حيث أصبحت
مراكز لحلقات الدروس الدينية والعلمية.
ولا يخفى دور المساجد في تقوية روح الجهاد والصبر والقوة النفسية، وفي
تثبيت معنى الأخوة الإسلامية والعقيدة الصحيحة وتوضيح معالم الدين الحنيف.