تأصيلات دعوية
ذياب سعد الغامدي
أجمع أهل السنة قاطبة على الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة رضي
الله عنهم والسكوت عما حصل بينهم من قتال وحروب، وعدم البحث والتنقيب عن
أخبارهم أو نشرها بين العامة لما لها من أثر سيئ في إثارة الفتنة والضغائن وإيغار
الصدور عليهم، وسوء الظن بهم، مما يقلل الثقة بهم.
والواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام
رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وهو الإمساك عما
حصل بينهم رضي الله عنهم.
وكُتُبُ أهل السنة مملوءة ببيان عقيدتهم الصافية في حق الصحابة الكرام
رضي الله عنهم، وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم
الحسنة التي منها: سُئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي
حصل بين الصحابة، فقال: (تلك دماء طهّر الله يدي منها؛ أفلا أُطهر منها لساني؟ مَثَلُ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَثَلُ العيون؛ ودواء العيون ترك
مسها) [1] .
وسئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال:
(قتال شهده أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وغبنا، وعلموا وجهلنا،
واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا) [2] .
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي
ومعاوية؟ قال: (ما أقول فيهم إلاّ الحسنى) [3] .
وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد بيان ما يجب أن يعتقده المسلم في
أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما ينبغي أن يُذكروا به فقال: (وأن لا
يُذكر أحد من صحابة الرسول إلاّ بأحسن ذكر، والإمساك عمّا شجر بينهم، وأنهم
أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظن بهم أحسن المذاهب) [4] .
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: (ومن بعد ذلك نكفّ عما شجر بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا الناس بالفضل؛ فقد غفر الله لهم، وأمرك
بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما
سيكون منهم أنهم سيقتتلون؛ وإنما فُضلوا على سائر الخلق؛ لأن الخطأ العمد قد
وُضِعَ عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم) [5] .
وقال أبو عثمان الصابوني في صدد عقيدة السلف وأصحاب الحديث:
(ويرون الكف عمّا شجر بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطهير
الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم
والموالاة لكافتهم) [6] .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: (لا يجوز أن ينسب إلى أحد من
الصحابة خطأ مقطوع به؛ إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأراد الله عز وجل.
وهم كلهم لنا أئمة، وقد تُعبّدنا بالكف عمّا شجر بينهم، وألاّ نذكرهم إلا بأحسن
الذكر لحرمة الصحبة، ولنهي النبي -صلى الله عليه وسلم-عن سبهم [7] ، وأن
الله غفر لهم وأخبر بالرضى عنهم) [8] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة
فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم: (ويمسكون عما شجر بين الصحابة
ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد
فيه ونقص، وغُيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون
مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون) [9] .
وكذلك ما ذكره شيخنا ابن عثيمين حفظه الله حيث قال: (وهذا الذي حصل
أي بين الصحابة موقفنا نحن منه له جهتان:
الجهة الأولى: الحكم على الفاعل، والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.
أما الحكم على الفاعل فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم فهو
صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ فصاحبه معذور مغفور له.
وأما موقفنا من الفاعل فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم. ولماذا نتخذ
من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا؟ ونحن في فعلنا
هذا إما آثمون، وإما سالمون ولسنا غانمين أبداً) [10] .
فهذه طائفة من كلام أكابر علماء الإسلام من سلف هذه الأمة والمعاصرين؛
تبيّن منها الموقف الواجب على المسلم أن يقفه من الآثار المشتملة على النيل من
أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بسبب ما وقع بينهم من شجار، وخلاف، ومقاتلة؛ خاصة في حرب الجمل وصفين، وهو صيانة القلم واللسان عن ذكر ما
لا يليق بهم، وإحسان الظن بهم، والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم، واعتقاد بعضهم أنهم
مجتهدون؛ والمجتهد مغفور له خطؤه إن أخطأ، وأن الأخبار المروية في ذلك منها
ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرّف عن أصله وتشوّه. كما
تبين من هذه النقول المتقدم ذكرها أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فيما
شجر بينهم هو الإمساك [11] .
فإذا تبين لنا أن الإجماع قد وقع من علماء المسلمين على السكوت عما شجر
بين الصحابة، وعدم التنقيب أو التنقير عما حصل بينهم من حروب وقتال؛ ولو
حسنت نية المتكلم أو السامع، كان من المناسب أن نعرف معنى السكوت نحوهم.
معنى السكوت:
أما معنى السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم: فهو عدم
الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع
التفصيلات ونشرها بين العامة بطريق أو آخر [12] وقد أشار إلى ذلك الإمام
الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قائلاً: (إن كثيراً مما حدث بين الصحابة من شجار
وخلاف ينبغي طيّه وإخفاؤه بل إعدامه، وإن كتمان ذلك متعين على العامة بل آحاد
العلماء) [13] .
وأما الآثار السلبية في نشر أحاديث الفتنة وأخبار النزاع بين الصحابة رضي
الله عنهم فهي:
أنها أوقفت المسلمين على ما لا ينبغي لهم أن يقفوا عليه.
أن في بثها والحديث عنها عند عامة الناس مخالفة لما عليه السلف الصالح.
أنها تفسد على المسلمين سلامة صدورهم، وصفاء قلوبهم على الصحابة
رضي الله عنهم، ولا يخالف في ذلك إلا مكابر أو جاهل.
أنها تثير بين الناس الشبهات، وتضاعف لديهم الأوهام حول الصحابة الكرام
رضي الله عنهم؛ وتتزعزع منه الثقة بالصحابة عند كثير من الناس.
أن في نشرها بهذه الطريقة خلافاً للحكمة الدعوية، والطرق التعليمية، كما
قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكَذّبَ اللهُ
ورسولُه؟) [14] .
الإيرادات:
قبل الانتهاء والخروج مما أردت بيانه، أرى من الواجب أن أجيب عن بعض
الأسئلة التي هي في حكم الإيرادات والشبهات حول هذا الموضوع.
الإيراد الأول:
لعل قائلاً يقول: قد سلمنا لكم بما ذكرتموه وقرّرتموه آنفاً، لكنّ هذا محمول
على من أراد ذكر ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم على وجه التنقيص
والبغض، وسوء الظن بهم ونحوه مما هو مثار للفتنة عياذاً بالله.
أما من أراد ذكر ذلك على وجه المحبة للجميع، مع سلامة الصدر والترحم
عليهم وحسن الظن بهم؛ فهذا ليس محل نزاعنا! !
أقول: نحن لا نسلّم لك ما قلته لعدة مخالفات شرعية؛ منها:
1-أن هذا القول خلاف الأصل المقرر عند عامة السلف والخلف، وهو
السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، سواء كان الحديث عنهم عن
حسن ظنٍ أو سوء ظن لما في ذلك من درء للمفسدة الحاصلة وسدّ للذريعة المفضية
للشبه والفتنة كما هو معلوم من الواقع بالضرورة.
فهذا العوام بن حوشب يقرر هذا الأصل: (أدركت من صدر هذه الأمة
بعضهم يقول لبعض: (اذكروا محاسن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لتأتلف عليها القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرّشوا [15] الناس
عليهم) [16] ، وبلفظ آخر قال: (.. فتجسّروا [17] الناس عليهم) [18] .
2-وكذلك هو أيضاً خلافٌ للأصل المحقق وهو الوقوع في الفتنة؛ ولهذا لا
يجوز لك أن تخالف أصلاً محققاً رجاء سلامة صدرٍ مظنونة!
فقد قال رسول الله: (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها
كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه؛ ألا وإن لكل
ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي: القلب) [19] .
وعن الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله: (دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك) [20] .
3-أيضاً في ذكر ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم مع ادعاء أمن الفتنة
وسلامة الصدر؛ أمنٌ من مكر الله تعالى، عياذاً بالله فقد قال الله تعالى في سورة
الأعراف: [أََفَأََمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَاًمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ]
[الأعراف: 99] .
وكذلك فيه تعرّض للفتن التي طالما استعاذ منها النبي؛ فعن المقداد بن الأسود
قال: وأيم الله! لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن السعيد
لمن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن
ابتلي فصبر فواها) [21] .
4-لو سلمنا أن أحداً خاض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛ ثم
خرج من ذلك بسلامة صدر وصفاء قلب؛ لكان هذا تحصيل حاصل ونوع عبث،
ومخالفة لمنهج السلف الصالح تجاه هذه الفتنة، بل هو في الحقيقة ضرب من
الخيال، وخلاف الواقع المألوف.
5-ثم إذا كان الأمر كذلك كما ذكر المعترض فهذا يكون لآحاد العلماء خاصة
لا عامة الناس كما ذكره الإمام الذهبي رحمه الله؛ فليت شعري هل هذا هو محل
نزاعنا، أو هو فيما انتشر بين أيدي الناس كافة عالمهم وعامّيّهم وصغيرهم
وكبيرهم؟ والله المستعان!
الإيراد الثاني:
ولعل قائلاً يقول: إننا نجد كثيراً من كتب التاريخ المشهورة المرضية عند
عامة المسلمين قد ذكرت ما جرى وحصل بين الصحابة رضي الله عنهم بكل
تفصيل وتحليل؛ فلنا فيهم أسوةٌ حسنة، فيسعنا ما يسعهم! !
أقول: إن هذا القول حقّ لا شك فيه؛ فقد ذكرت كتب التاريخ بعامة ما شجر
بين الصحابة رضي الله عنهم بيد أنها لم تذكر ذلك للاستئناس، والتشوّف لأخبارهم
والتفكه بحروبهم وقتالهم، ونحو ذلك؛ فحاشاهم رحمهم الله تعالى فهم أبعد الناس
عن ذلك.
ولا ننسَ أيضاً أنه كما ثبت في كتبهم ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛
فكذلك قد ثبت تقريرهم لمعتقد السلف عن الكف والإمساك عما شجر بينهم؛ وهذا لم
يكن منهم تناقضاً كما يزعمه من ليس له أدنى علم بحالهم؛ فهؤلاء الأئمة قد ذكروا
ذلك وسطّروه في كتبهم لأمور مهمة منها:
1- إبراء للذمة؛ فكان من الأمانة العلمية أن يذكروا ذلك حفظاً للتاريخ
الإسلامي من عادية المحرفين أهل البدع والأهواء؛ كي لا يُدخَلَ فيه ما ليس منه،
أو يُخرج ما هو منه؛ لذا جعلوا من أنفسهم حراساً على تاريخ الأمة الإسلامية.
2- كان هذا منهم إتماماً للتاريخ الإسلامي، فكما بدأوا بكتب أوله فكذلك
ساروا إلى آخره دون نقص أو ثلب؛ مما قد يجعل للطاعنين علينا سبيلاً.
فهذه الأمم أجمع لا تعتز إلا بعزّ تاريخها، ولا تُذل إلا بضياع تاريخها أو
بعضه؛ فتأمل هذا يا رعاك الله.
3- كذلك أرادوا من ذكر أخبارهم رضي الله عنهم وحفظها العبرة والعظة لمن
بعدهم، كما ذكر ذلك أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن في ذكر السير
والتواريخ فوائد كثيرة؛ أهمها فائدتان:
إحداهما: أنه إن ذكرت سيرة حازم ووصفت عاقبة حاله علمت حسن التدبير
واستعمال الحزم، وإن ذكرت سيرة مفرط ووصفت عاقبته خفت من التفريط.
ويتضمن ذلك شحذ صوارم العقول، ليكون روضة للمتنزه في المنقول.
الثانية: أن يطلع بذلك على عجائب الأمور وتقلبات الزمان، وتصاريف
القدر، والنفس تجد راحة بسماع الأخبار [22] .
وبهذا نعلم أن بعض الأحكام الشرعية قد تبينت من خلال ما حصل بين
الصحابة رضي الله عنهم؛ فمن ذلك: أحكام قتال أهل البغي كما قرر ذلك علي مع
المخالفين، وهذا باب واسع ومهم، ولولا ما حصل بينهم من قتال لما علم ذلك؛
والله أعلم [23] .
4- كذلك نجدهم لم يذكروا أخبار هذه الفتنة وحوادثها سرداً بلا زمام أو خطام! بل أسندوها إبراء للذمة، في حين نراهم لم يغفلوا هذا الجانب بل لهم عناية بنقد
كثير من الروايات والأخبار مع بيان صحيحها من سقيمها، وتوجيه ما أمكن توجيهه.
5- كذلك لم يكن قصدهم من ذكر وكتابة ما شجر بين الصحابة رضي الله
عنهم نشرها وترويجها بين الخاصة والعامة من المسلمين، لا، ما هذا الذي أرادوه
بل غاية علمهم أن الذي سيقف مستفيداً من كتبهم هم العلماء خاصة دون عامة
المسلمين كما هو مألوف لدى المجتمع.
وبعد هذا: هاك أخي المسلم الكريم ما قاله الإمام المحدث أبو بكر الآجرّي
رحمه الله؛ كي تقرّ عينك ويطمئن قلبك لما سطرنا لك آنفاً؛ حيث نراه يردّ على
بعض الاعتراضات والإيرادات نحو ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم:
قال رحمه الله: (ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وفضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين أن يحبهم،
ويترحم عليهم، ويستغفر لهم، ويتوسل إلى الله لهم [24] ، ويشكر الله العظيم إذ
وفقه لهذا، ولا يذكر ما شجر بينهم، ولا ينقر عنهم، ولا يبحث.
فإذا عارَضَنا جاهل مفتون قد خطي به عن طريق الرشاد، فقال: لِمَ قاتل
فلان لفلان؟ ولِمَ قتل فلان لفلان وفلان؟ !
قيل له: ما بنا وبك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا اضطررنا إلى علمها.
فإن قال قائل: ولِمَ؟
قيل: لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا فيها على حسب ما
أراهم العلم بها، وكانوا أعلم بتأويلها من غيرهم، وكانوا أهدى سبيلاً ممن جاء
بعدهم؛ لأنهم أهل الجنة، عليهم نزل القرآن، وشاهدوا الرسول -صلى الله عليه
وسلم- وجاهدوا معه، وشهد لهم عز وجل بالرضوان، والمغفرة، والأجر العظيم،
وشهد لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنهم خير قرن، فكانوا بالله عز وجل
أعرف، وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالقرآن، وبالسنة، ومنهم يؤخذ العلم، وفي قولهم نعيش، وبأحكامهم نحكم، وبأدبهم نتأدب، ولهم نتبع، وبهذا أمرنا.
فإن قال قائل: وما الذي يضرنا من البحث عن أخبارهم ومعرفتنا لما جرى
بينهم؟
قيل له: الضرر لا شك فيه، وذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا،
وعقولنا أنقص بكثير، ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فننزل عن طريق الحق
ونتخلف عما أمرنا فيهم.
فإن قال قائل: وبِمَ أُمرنا فيهم؟
قيل: أُمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم والاتباع لهم..
فإن قال قائل: إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالماً بما جرى بينهم فأكون
على ما كانوا فيه لأني أحب [أن أعلم] ذلك ولا أجهله.
قيل له: أنت طالب فتنة؛ لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك، ولو اشتغلت
بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبّدك به من أداء فرائضه، واجتناب محارمه
كان أوْلى بك.
وقيل له: ولا سيما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء
الضالة [25] .
وقيل له: اشتغالك بمطعمك، وملبسك من أين هو؟ أوْلى بك، وتمسكك
بدرهمك من أين هو؟ وفيم تنفقه أوْلى بك.
وقيل: لا نأمن أن تكون بتنقيرك وبحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل
قلبك فتهوى ما لا يصلح لك أن تهواه، ويلعب بك الشيطان فتسب وتبغض من
أمرك الله بمحبته والاستغفار له وباتباعه، فتزل عن طريق الحق، وتسلك طريق
الباطل [26] .