مجله البيان (صفحة 2959)

دراسات في الشريعة والعقيدة

عبودية الشهوات

(?)

مكمن الداء

عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،

نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

وبعد: فإن التعلق بالله عز وجل وقصده وإرادته هو أساس التوحيد ومعنى

شهادة أن لا إله إلا الله، والله سبحانه وتعالى هو المستحق وحده أن يكون المقصود

والمدعو والمطلوب.

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن الإله هو المقصود والمعتمد

عليه، وهذا أمر هيّن عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من يعرفه) [1] .

ومن لم يكن مقصوده وغايته الله عز وجل؛ فلا بد أن يكون له مقصود ومراد

آخر يستعبده، كما وضّح ذلك ابن تيمية بقوله: (الاستقراء يدل على أنه كلما كان

الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله؛ كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن

عبادة الله تعالى ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود.

فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته؛ فمن لم يكن الله

معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك؛ فلا بد أن له مراداً محبوباً

يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما

الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله) [2] .

والناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعاً من التعلق بالشهوات والافتتان بها،

فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات

والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي.

وهذه المقالة تتحدث عن جملة من تلك الشهوات التي استحكمت بأفئدة كثير

من الناس وعقولهم.

ولعل من المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات

إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.

إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط بين مسلك أهل الفجور والفواحش،

ومسلك أصحاب الرهبانية والتشدد؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله عز وجل يراعي

أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف

بها، لكنه يضبطها ويهذبها.

يقول ابن القيم مقرراً هذه الوسطية: (لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام

حياً فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن

المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن

والسلامة؛ مثاله أن الله سبحانه وتعالى لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء

ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً

فاستحالت صباً) [3] .

واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير

القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن المتبعين

لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه

حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب.

فما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر

قلبه على الامتناع منه؛ فيبقى مستغرقاً في تلك الصورة.. والقلب يغرق فيما

يستولي عليه: إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه

والصور؛ والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقاً كما يغرق الغريق في

الماء) [4] .

وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: (من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء

الدنيا) [5] .

وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال عز وجل:

[فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياً]

[مريم: 59] ؛ فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في

عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: (اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة

من غير فكر في عاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلاً، وإن كانت سبباً للألم

والأذى في العاجل، ومنع لذّات في الآجل) .

فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا

القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.

وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالباً، وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى

حاكم العقل؛ فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة، ويأمره عند وقوع

الشبهة باستعمال الأحوط في كف الهوى، إلى أن يتيقن السلامة من الشر في

العاقبة) [6] .

وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان

أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: (الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب

ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة

وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه

خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب

نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم

يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة،

وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً،

وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛

فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق) [7] .

شهوة النساء:

وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس عموماً فإن المتأمل في

أحوال المسلمين فضلاً عمن دونهم يرى سُعاراً تجاه هذه الشهوات، وولوغاً في

مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية

وشبكات (الإنترنت) ، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر

الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة،

والله المستعان.

لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف

المسلمين وأخلاقهم، قال سبحانه: [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَذِينَ يَتَّبِعُونَ

الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً] . [النساء: 27]

ومما يجدر ذكره أن من أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له

ولا انقضاء، وإذا كان الشخص المولع بالدنيا لا يشبع من المال كما في الحديث:

(لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا

التراب) [8] ، فكذلك الشخص المولع بشهوة الجنس بدون ضابط أو رادع لا يقف ولا يرعوي.

يقول الشيخ علي الطنطاوي: (لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل،

وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل وكل نوع من أنواع

الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا، أكتبها بالقلم

العريض، ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم

وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً) [9] .

وجاء في الأدب الكبير، لابن المقفع: (اعلم أن من أوقع الأمور في الدين،

وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في

ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه

يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى

تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح،

وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه) .

إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، كما قال النبي -صلى الله عليه

وسلم-: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) [10] .

قال الإمام طاووس عند قوله: [وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً] [النساء: 28] ،

(إذا نظر إلى النساء لم يصبر) [11] .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما (لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء،

وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء) [12] .

وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق

النساء.

فأما الحكاية الأولى:

فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: (بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى

المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها،

فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل

ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني

على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من

الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم

تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب،

فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى

السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في

ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة،

فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة) [13] .

أما الحكاية الثانية:

ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:

(وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي

كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون

يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن،

فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ،

فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك

غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك

المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل

صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله

إلا قوله: [رُّبَمَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (?) ذَرْهُمْ يَاًكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا

وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] [الحجر: 2، 3] وقد صار لي فيهم مال

وولد) [14] .

إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها:

سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.

وقال يزيد بن الوليد: (يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء،

ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا) [15] .

قال ابن القيم: (ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على

الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان) ؛ وهذا لأن المرأة

سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين:

من جهة الصوت، ومن جهة معناه؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-

لأنجشة حاديه: (يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير) [16] يعني النساء.

(أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر،

فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.

فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبداً

للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من معافى

تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا) [17] .

ومن أشد الوسائل فتكاً: النظر المحرم، فكم من نظرة إلى صورة جميلة في

السوق أو في شاشة أو مجلة أعقبت فواحش وآلاماً وحسرات. قال الإمام أحمد

رحمه الله: (إذا خاف الفتنة لا ينظر، كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها

البلابل) [18] .

يقول ابن الجوزي محذراً من إطلاق البصر: (اعلم وفقك الله أن البصر

صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها فيجول فيها

الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر

سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال

الله تعالى: [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ] [النور: 30] . [وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ

يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ] [النور: 31] . ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه

على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله: [وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ] [النور: 30] ،

[وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ] [النور: 31] ) [19] .

وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن النظر المحرم وما يؤول إليه

من الوقوع في الفواحش.. بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله تعالى فكان مما

قاله: (وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصر على

النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل

الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة

أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن

لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة.

بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: [وَمِنَ

النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أََندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ] [البقرة: 165] ، ولهذا لا

يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره

في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين) [20] .

وقال ابن القيم رحمه الله: (وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غضّ

العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته) .

إلى أن قال والنظرة إذا أثّرت في القلب، فإن عجل الحازم وحسم المادة من

أولها سهُل علاجه، وإن كرر النظر ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب

فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي

الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر

به، فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن) [21] .

ومن أشد الوسائل ضرراً وشراً: اختلاط النساء بالرجال؛ فإن هذا الاختلاط

أنكى وسيلة في الانغماس في الفواحش والقاذورات، وقد كثر في هذا الزمان من

يطالب بهذا الاختلاط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع

المجالات والأعمال، زاعمين أنهم يريدون الخير والإصلاح لمجتمعاتهم، ألا أنهم

هم المفسدون ولكن لا يشعرون.

قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: (ولا ريب أن تمكين النساء من

اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات

العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت

العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام وفشت فيهم

الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة

في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من

اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات) [22] .

وها هنا أمر مهم بنبغي التنبيه عليه، وهو أن الولع والانكباب على الشهوات

سببه ضعف التوحيد، فإن القلب كلما كان أضعف توحيداً وأقل إخلاصاً لله تعالى

كان أكثر فاحشة وشهوة [23] .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة: (وهذا [أي العشق والشهوات]

إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا

فأهل الإخلاص، كما قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ

عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] [يوسف: 24] فامرأة العزيز كانت

مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع

عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه له، تحقيقاً لقوله: [لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ

المُخْلَصِينَ] [ص: 82، 83] ، قال تعالى: [إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ

إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ] [الحجر: 42] والغي هو اتباع الهوى [24] .

إن الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من العقوبات والمفاسد في الدنيا

والآخرة.

وأشار ابن الجوزي إلى تنوع هذه العقوبات فقال: (اعلم أن العقوبة تختلف:

فتارة تتعجل، وتارة تتأخر، وتارة يظهر أثرها، وتارة يخفى. وأطرف العقوبات

ما لا يحس بها المعاقَب، وأشدها العقوبة بسلب الإيمان والمعرفة، ودون ذلك موت

القلب ومحو لذة المناجاة منه، وقوة الحرص على الذنب ونسيان القرآن، وإهمال

الاستغفار، ونحو ذلك مما ضرره في الدين. وربما دبّت العقوبة في الباطن دبيب

الظلمة، إلى أن يمتلئ أفق القلب، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعاً

بالبدن في الدنيا، وربما كانت عقوبة النظر في البصر. فمن عرف لنفسه من

الذنوب ما يوجب العقاب فليبادر نزول العقوبة بالتوبة الصادقة عساه يرُدّ ما

يَرِد) [25] .

وتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة، فكان مما قاله:

(فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يَدان

فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه

متعلقاً بها، مستعبَداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب

العباد. ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة

الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب) [26] .

وقال أيضاً: (ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب؛ فإن الشهوة

توجب السّكْر، كما قال تعالى عن قوم لوط: [إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ]

[الحجر: 72] ، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العينان تزنيان وزناهما النظر) الحديث إلى آخره. فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث كالنظر والاستماع والمخاطبة، ومنهم من يرتقي إلى اللمس والمباشرة، ومنهم من يقبّل وينظر، وكل ذلك حرام، وقد نهانا الله عز وجل أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟

بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنا المذكورة في هذا الحديث المتقدم وغيره) [27] .

وتحدّ ابن القيم في غير موضع عن مفاسد الزنا وما يحويه من أنواع

الشرور ... فكان مما قاله رحمه الله: (والزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين

وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء

بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله.. ...

ومن موجباته: غضب الرب بإفساد حرمة عياله، ومنها: سواد الوجه

وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره ... ومنها أنه

يذهب حرمة فاعله، ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها أن يسلبه أحسن

الأسماء ويعطيه أضدادها. ومنها ضيق الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضدّ

قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده؛

فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط) [28] .

وقال في موضع آخر: (واعلم أن الجزاء من جنس العمل والقلب المعلّق

بالحرام، كلما همّ أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه، ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ

وفي الآخرة هكذا ...

وفي بعض طرق حديث سَمُرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما، فإذا بيت مبني على مثل بناء التنور أعلاه ضيّق وأسفله واسع، يوقد تحته نار،

فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا

أخمدت رجعوا فيها، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هم الزناة) . فتأمل مطابقة هذا

الحديث لحال قلوبهم في الدنيا؛ فإنهم كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور

الشهوة إلى فضاء التوبة أُركِسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يخرجون) [29] .

وقال في موضع ثالث: (وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة

لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة

العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بهما عشر

معشار من يفعله نادراً في الأحيان) [30] .

ومما ذكره الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله في مفاسد البغاء: (في البغاء

فساد كبير، وشر مستطير: يفتك بالفضيلة، يدنس الأعراض، يعكر صفو الأمن،

يفصم رابطة الوفاق، يبعث الأمراض القاتلة في الأجسام، وأي حياة لجماعة تضيع

أخلاقها وتتسخ أعراضها، ويختل أمنها، وتدب البغضاء في نفوسها، وتنهك العلل

أجسامها؟) [31] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015