الافتتاحية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الخلق
وسيد المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمن تمام نعمة الله تعالى وفضله على هذه الأمّة أنه شرع الشرائع والأحكام
لغايات حكيمة ومقاصد عظيمة، ترمي إلى تحقيق مصالح الناس في العاجل والآجل؛ بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم، قال الله تعالى: [إنَّ اللَّهَ
يَاًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] [النحل: 90] ولا تخلو أحكام الشريعة من أحد أمرين: إما تحقيق
مصالح الناس أو دفع المفاسد عنهم؛ (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم
ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح
كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى
ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة
وإن أدخلت فيها بالتأويل) [1] .
وتقدير المصالح والمفاسد ليس أمراً هيناً، بل هو في غاية الدقة؛ لأنه
منضبط بضوابط الشرع ونصوصه وقواعده، وليس مجالاً لخوض الخائضين أو
عبث العابثين أو تخرّص المتخرصين، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، الذين عرفوا نصوص الكتاب والسنة، ودرسوا مقاصد التشريع الإسلامي،
وميّزوا بين أولويات الأحكام، وعرفوا خير الخيرين وشرّ الشرين، حتى يُقَدّموا
عند التزاحم خير الخيرين ويدفعوا شرّ الشرّين.
وليس كل ما توهمه الناس مصلحة يكون كذلك؛ فليس من المصلحة في شيء
على الإطلاق ما خالف دليلاً من الكتاب والسنة، أو عارض قاعدة محكمة من قواعد
الشريعة. ولا يصح على الإطلاق أن يكون المعيار في تحديد المصالح موافقتها
لأهواء الناس وشهواتهم، أو مراعاتها لعاداتهم وأعرافهم إذا كانت تخالف شرع الله. كما لا يصح أن يستقل العقل البشري بتحديد المصلحة والمفسدة. ومراعاة مصالح
العباد تكون بميزان دقيق متجرّد تُراعى فيه نصوص الشرع وقواعده وأصوله، قال
الله تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ] [المائدة: 49] .
وبسبب الجهل بأحكام الشريعة ومقاصدها، والقصور في فهم القواعد
الأصولية المتعلقة بها؛ فَهِمَ بعض الناس من قاعدة: (مراعاة الشريعة للمصالح
ودرؤها للمفاسد) فهوماً منحرفة تحيد بها عن سبيلها المستقيم، فحُمّلت هذه القاعدة
من المعاني والأحكام ما لا تحتمل، وفُتح باب عريض من التساهل في تطبيق
الأحكام، وأصبح الهوى من العوامل الخفية التي تؤثر تأثيراً بالغاً في تحديد
المصالح والمفاسد..! !
ومع زيادة الانحراف الفكري والاجتماعي، واتساع دائرة التغريب والعلمنة
الذي تشهده أكثر المجتمعات الإسلامية، ومع كثرة الهجرة إلى بلاد الغرب الكافرة؛
اندرست أكثر معالم الدين، وهُجرت سّنة سيد المرسلين، وأصبح الحق غريباً،
وصار التمسك بكثير من التعاليم الإسلامية يشكل صعوبة لدى أكثر العامة، بل حتى
على بعض الخاصة، وراح قوم يتتبعون الرخص ويبحثون عن المخارج، ووجد
آخرون وقد يكون منهم فقهاء ودعاة أنفسهم أمام ضغط اجتماعي وفكري كبير،
فدعوا بلسان الحال والمقال إلى مجاراة العامة في أهوائهم وعجزهم في تحمل أعباء
هذا الدين الحنيف. وقد يُتذرع ببعض القواعد الفقهية العامة كقاعدة: (المصالح
والمفاسد) ، وقاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ، فيتوسع في تطبيقها والتفريع عليها
توسعاً غير منضبط؛ حتى شاع عند بعضهم مصطلح: (فقه المرونة.. أو فقه
المصلحة) . وربما قاده هذا الفقه إلى التفلّت من عزائم الأحكام الشرعية؛ هرباً إلى
الرخص، وقد يضطره أحياناً إلى تأويل النصوص المحكمة، والتعسف في تفسيرها
وتنزيلها على الأحداث الجارية، بل قد يتجرأ بعضهم في ردّ النصوص الثابتة
المحكمة، ويجعلها وراءه ظهرياً؛ ولكي يسلم من التبعة أمام الآخرين تراه يصف
غيره من الفقهاء والدعاة المخالفين له بالتشدد، والتنطع، والتكلف، والغلو،
وأحسنهم حالاً مَنْ وصفهم بالجهل في الواقع وعدم تصور الحال..! ونحسب أن
كثيراً من هذا الفقه العصري شبيه بما سمّاه بعض المتقدمين من علمائنا ب (فقه
الحِيَل) الذي يرمي إلى التحايل في فعل بعض المنهيات، أو إسقاط بعض
المأمورات.
ومن جانب آخر وأمام هجمات اليساريين والعلمانيين والليبراليين على شعائر
الإسلام تزداد المعضلة تعقيداً؛ حيث ينبري بعض الفقهاء والمفكرين ليدافع
بإخلاص وغيرة عن الإسلام نحسبهم كذلك والله حسيبهم؛ ولكنهم ينطلقون بمنطق
الضعفاء العجزة الذين يتمسكون بالقشة لكي يسلموا من التهمة، فلا الإسلام نصروا
ولا لأعدائه كسروا، حتى ساد على فكر هؤلاء ما يمكن أن نسميه بـ (فقه التسويغ! !) ، الذي بُنيَ على مسخ بعض أحكام الشريعة، والعدول بها عن مواضعها
ومقاصدها.
إنّ من أبرز صفات الفقيه المسلم بالإضافة إلى الرسوخ في الفقه والفهم،
ومعرفة دلائل النصوص الشرعية ومراميها: الثقة في المنهج، واليقين بعلوّ هذا
الدين ورفعته، والاعتزاز بأحكامه وآدابه. وهذا سوف يقوده بإذن الله تعالى إلى
الجهر بالحق، والوضوح في بيان الأحكام، والدقة في الاجتهاد، ومراعاته لمصالح
العباد الشرعية، بعيداً عن الأهواء والمؤثرات الفكرية والمألوفات الاجتماعية.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من مضلات الأهواء والفتن، وأن يرينا الحق حقاً
ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.