الورقة الأخيرة
عبد العزيز حامد
عرفت شاباً جاء للعمرة واعتمر، ثم مكث سبع سنين دون أن يرجع إلى بلده، ومع هذا، لم يزر المدينة المنورة ولو مرة رغم تيسر ذلك فلما سألته عن السبب،
قال: وهل تُشد الرحال إلى مسجد فيه قبر؟ ! يقصد المسجد النبوي الشريف! !
وما علم المسكين أن القبر كان خارج المسجد لكن أدخلته السياسة لا الشريعة، وقد
أنكر العلماء ذلك منذ عصر سعيد بن المسيب، ولم تطل بهذا الشاب حياة بعد ذلك
إلا شهوراً حتى مات، دون أن يصلي ركعة واحدة في المسجد النبوي الشريف!
* ورأيت أفراداً يصلون طول العام مع الجماعة في المسجد، ولكنهم يجعلون
صلاتهم مع الإمام (نافلة) ، ويقومون لصلاة الفريضة فرادى قبل الصلاة أو بعدها
بدعوى عدم التأكد من صحة الصلاة خلف الإمام؛ لعدم التيقن من صحة عقيدته! !
* ورأيت من عاش عَزِباً، فعَرّض نفسه للفتن، بدعوى أن العلم يضيع بين
أحضان النساء!
* ورأيت من تزوج ولم ينجب عمداً وحرم نفسه وحرم زوجته من الذرية؛
لأنه اقتنع بقول مرجوح لبعض الأحناف بأن الإنجاب يحرم في دار الحرب!
* ورأيت من أدرك والديه الكبرُ، فكان يعقهما، ولا يحسن معاملتهما لأنهما
(غير ملتزمين) !
* وسمعت بأقوام تركوا حضور مجالس العلماء، بدعوى أن (الكتب) فيها
الكفاية والغَنَاء! ثم أقاموا لأنفسهم مجالس خاصة!
* * *
وهناك الكثير والكثير من الصور التي يمكن لأي منا أن يستحضرها لتكون
أمثلة على ذلك (الحِرْمان) أو الخذلان الذي يعاقب الله به بعض من ضل سعيهم في
الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
إن الشيطان يصرفهم عن الطاعة بدعوى الطاعة، ليلقوا ربهم بغير بضاعة،
أو ببضاعة مزجاة. نسأل الله السلامة.
إذا كانت هذه مظاهر فردية من الحرمان، فإن هناك ظواهر جماعية من ألوان
أخرى من الحرمان، فإلى جانب الشريحة المحدودة من المحرومين عن الثواب باسم
الحرص على الثواب، فإن هناك شرائح عريضة تصرفهم ملاهي الدنيا عن مساعي
الآخرة، فينضمون إلى ركب المغبونين في الصحة والفراغ في رمضان وفي غير
رمضان. نعم! فهناك من يتجاهلون أن الله تعالى جعل لبعض الأزمنة حرمة، كما
جعل لبعض الأماكن حرمة، فكما أن حرمة المكان الذي حرّمه الله لا ينبغي أن
تنتهك، فكذلك حرمة الزمان. ولرمضان حرمة، ولأيامه منزلة، وللياليه قدسية،
ومن أخل بتلك الحرمة والمنزلة والقدسية في الزمان المحرم كرمضان كان كمن أخل
بها في المكان المحرم كالمسجد الحرام. قال الرسول: (رمضان شهر الله
الحرام) [1] فلرمضان حرمة في ليله ونهاره، ولكن كثيراً من الغافلين (المحرومين) يصومون عن المباح في نهاره، ويسهرون على الحرام في لياليه!
وأبرز الأمثلة على ذلك الحرمان، من يضيعون صلاة القيام في شهر البركات، حتى لا تضيع عليهم الحلقات والمسلسلات مع الغافلين والغافلات، فلا يكتفون
بفقدان الثواب بل يفقدون معه المروءة والعدالة. تراهم يلتهون عن التشمر للشهر،
بالتسمر أمام ما يبث من أنواع الخناعة والخلاعة والعهر التي يُخص بها الشهر
الكريم إمعاناً في إيذاء الضيف. وكأن الشياطين تنتهي من حشد تلك المسلسلات قبل
أن تسلسل في رمضان، فتنصرف بعد ذلك إلى محابسها تاركة لشركائها من
شياطين الإنس أن يُضيّعوا على الناس الشهر، يضيعوا الصلاة ويضيعوا الصيام،
ويضيعوا القيام، ويضيعوا ليلة القدر، التي من حُرمها فقد حُرم الأجر، وصدق
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يُحرم خيرها إلا محروم) [2] .
إن الحرمان ألوان.. ولكن المحروم من حُرم الثواب، فاللهم رحماك ...
(اللهم أعطنا ولا تحرمنا) [3] .