قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي..
كيف تكون مبدعاً؟
(3/3)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مقدمات عامة حول ماهية التفكير،
وآليته، وخصائصه، ومنهج التفكير العلمي الذي أفرد فيه حالات محدودة للتفكير
مثل: حل مشكلة معينة، والتفكير في مشروع معين ...
ويواصل في هذه الحلقة إيضاح جوانب أخرى للموضوع..
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-
ماهية التفكير الإبداعي:
الإبداع في اللغة يعني الإنشاء على غير مثال سابق، والبديع هو المبدَع
والمبدِع، قال تعالى في محكم التنزيل: [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ]
[البقرة: 117] ، واستبدعه: عده بديعاً [1] .
أما من الناحية العلمية، فلعلي أقفز كما سبق في مقال سابق إلى التعريف الذي
ارتأيته؛ متجاوزاً بذلك إشكالية التعريف التي لا تهم القارئ كثيراً، وهذا التعريف
هو:
(عملية ذهنية مصحوبة بتوتر وانفعال صادق ينظم بها العقل خبرات الإنسان
ومعلوماته بطريقة خلاقة تمكنه من الوصول إلى جديد مفيد) [2] .
أهمية التفكير الإبداعي:
ها هي البشرية جمعاء ترفل بصور من النعم، وأشكال من الترفيه، وألوان
من التيسير، تَفَضّل بها المولى عز وجل وقضى بحكمته البالغة بجعل الإبداع
وسيلة فاعلة يمتطيها المبدعون ليسهموا في بلورة أفكارهم نظرياً، وفي إنجازها
واقعياً.
ومن هنا تنبثق أهمية التفكير الإبداعي من كونه بعد توفيق الله تعالى:
* قناة أكيدة إلى جزر الاكتشافات الجديدة. * ومعبراً مضيئاً إلى النجاح
والتفوق.
* ومنفذاً قاصداً إلى تحقيق أهدافنا بكفاءة وسرعة.
* وسبيلاً ذكياً إلى التجديد الذي يزهق روح الملل ويريق دم السآمة! !
جوهر الإبداع:
على الرغم من أن هناك اعترافاً بين علماء الإبداع على أنه نوع من أنواع
النشاط العقلي، إلا أنهم اختلفوا في طرق معالجته وتحديده وقياسه، بمعنى أنهم
اختلفوا في الإجابة عن السؤال: متى نحكم لعمل أو لشخص بالإبداع؟ كما أنهم
اختلفوا في جوهر الإبداع على النحو الآتي:
أ - منهم من تناول الإبداع على أنه مجموعة من الخطوات تبدأ بتلمس
المشكلة وتنتهي بإشراق الحل والتحقق منه، فمن طبق تلك الخطوات فقد مارس
عملاً إبداعياً! ! (منهم: والاس، ماسلو، عبد الغفار) .
ب - ومنهم من جعل محور الإبداع هو الناتج الإبداعي وحدد مجموعة من
الصفات كالجِدّة وعدم الشيوع والقيمة الاجتماعية، وجعل توافرها دليلاً على الإبداع
بغضّ النظر عن شخصية القائم بالعمل! ! (منهم: روقيرس، ستن) .
ج - وبعضهم ركز على مجموعة من الخصائص العقلية وغير العقلية وجعل
تلبّس البعض بها دليلاً على إبداعه، سواءٌ أبدع واقعاً أم لم يبدع! ! (منهم:
جيلفورد، تورانس) [3] .
إذاً فالأول يعتني بالخطوات الإبداعية، والثاني بالناتج الإبداعي، والثالث
بالشخصية الإبداعية. ومن هنا فلعله من الواضح أن كل رأي منها يعجز عن تفسير
ظاهرة الإبداع، ذلك أنه يعالج ضلعاً واحداً من أضلاع المثلث الإبداعي، ومن ثم
فالرأي السديد في نظري يتمثل في الأخذ بهذه الآراء مجتمعة على نحو ما سيجري
تفصيله.
منهج التفكير الإبداعي:
كاد أن يقتتل الناس من أجل إخراج (طائر الكروان) الذي احتبس في حفرة
رأسية في جدار سميك.. فأحضر أحدهم عوداً وبدأ بإدخاله وتحريكه داخل الحفرة
حتى كاد باجتهاده أن يقتله! ، والآخر بإخلاصه حاول أن يدخل يده الطويلة لعله
يمسك به، ولكن بلا جدوى، وبعضهم اقترح تخويفه بالأصوات المزعجة عله أن
ينهض! كل ذلك وطفل في الرابعة عشرة من عمره كان يرقب الموقف وتبدو عليه
آثار توتر التفكير وانفعال البحث.. وفجأة يصرخ وجدتها! ما رأيكم لو بدأنا بسكب
كمية من الرمل في الحفرة بصورة تدريجية.. إنه الإبداع، أليس كذلك؟ !
قد تبدو لك هذه القصة بسيطة، وبالفعل هي كذلك، غير أني أريد أن تفهم أن
المقصود منها فقط هو تسهيل عرض منهج التفكير الإبداعي الذي أراه بعد أن تم
استيعاب نظريات الإبداع، واستقراء آراء الباحثين.
ما الخطوات التي يجب اتباعها لنكون مبدعين؟ !
التفكير الإبداعي ينتظم نفس الخطوات التي يمر بها التفكير العلمي ولكن على
نحو فذ؛ فذلك الطفل حدد المشكلة بدقة وتعرف على أسبابها، وعرف على وجه
الدقة ما يريد، وفكر في مجموعة من البدائل، وخلص أخيراً إلى البديل الإبداعي،
بيد أن المبدع دائماً ما يتفاعل بإخلاص مع ما يفكر به لدرجة يكون معها:
* معايشاً لأجزاء الفكرة ومفرداتها، مستظلاً تحت شجرتها وأغصانها،
ومتأملاً ثمارها وأشواكها. ومن ثم فإنه يصل إلى درجة من النضج التفكيري يصبح
معها:
** قادراً على المرور بهذه الخطوات بكل سرعة وكفاءة. ** مرناً في
تطبيقها.
** متوثباً صوب الفكرة الإبداعية (الجديدة) إلى حد تطّرد معه الأفكار
الأخرى إذا ما لاحت في أفق تفكيره، بمعنى أن ما يعايشه المبدع من توتر وانفعال
إزاء الفكرة يجعله يدمج الخطوتين الثالثة والرابعة (تحديد البدائل الممكنة، واختيار
أفضلها) في خطوة واحدة؛ فهو يفكر بطريقة خلاّقة في بدائل كثيرة، غير أن
إبداعه يمكّنه من القضاء على الأفكار الهزيلة ليسير على جثثها صوب البديل
الإبداعي.
** محتضناً البديل الإبداعي في (رحم فكري) ، متعاهداً إياه بكل ما ينميه
ويغذيه.
** فاحصاً للفكرة المنبثقة من ذلك الرحم، ليحدد أخيراً مدى صحتها نظرياً
وجدواها عملياً [4] .
أسئلة تعينك على الإبداع:
ثمة أسئلة تعين على الإبداع، يمكن لكل واحد منا توجيهها لنفسه ومن ثم
محاولة تلمس إجابة لها، وليس هناك أسئلة نمطية تصلح في كل الأحوال، وإنما
يجب اختيار الأسئلة التي تناسب المشكلة محل التفكير. فعلى سبيل المثال يمكنك
في مرحلة توليد الأفكار توجيه الأسئلة الآتية:
* ماذا لو فعلت أو لم أفعل كذا.......... .؟ * لِمَ لا أفعل كذا...........؟
* هل أغير زاوية التفكير (أفكر رأساً على عقب) ؟ * ما هي الافتراضات
التي يمكن تجاوزها؟
وعند تقييم الأفكار يمكنك توجيه الأسئلة التالية:
* هل هذه فكرة جيدة؟ * هل نستطيع تنفيذها؟
* هل الوقت مناسب لتنفيذها؟ * من يستطيع مساعدتنا؟
* ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب في حالة إخفاقها؟
إن كثيراً من المبدعين لم يصلوا إلى درجة الإبداع إلا بعد أن تخطوا عقبة
الأسئلة (التقليدية) ، ذلك أن الإجابة التي تتبلور في أذهاننا إنما تتشكل بحسب
السؤال؟ [5] .
من هو المبدع وما خصائصه؟
إن المبدع إنسان كغيره ... غير أنه وعاء مملوء بانفعالات صادقة، تأتيه من
كل صوب، من قراءاته، تأملاته، ملاحظاته، احتكاكاته، اهتماماته، ومعاناته..
فينفذ ما قرأه وما سمعه وما شاهده وما وعاه، ليتخفف من وطأة الانفعالات، ومن
ازدحام عقله بالرؤى [6] .
ثمة خصائص كثيرة يذكرها باحثو الإبداع، غير أن من أهمها في نظري ما
يلي:
1 - الخصائص العقلية:
أ - الحساسية في تلمس المشكلات: يمتاز المبدع بأنه يدرك المشكلات في
المواقف المختلفة أكثر من غيره، فقد يتلمس أكثر من مشكلة تلح على بحث عن
حل لها، في حين يرى الآخرون أن (كل شيء على ما يرام) ! ! ، أو يتلمسون
مشكلة دون الأخريات.
ب - الطلاقة: وتتمثل في القدرة على استدعاء أكبر عدد ممكن من الأفكار
في فترة زمنية قصيرة نسبياً. وبازدياد تلك القدرة يزداد الإبداع وتنمو شجرته.
وهذه الطلاقة تنتظم:
** الطلاقة الفكرية: سرعة إنتاج وبلورة عدد كبير من الأفكار.
** طلاقة الكلمات: سرعة إنتاج الكلمات والوحدات التعبيرية واستحضارها
بصورة تدعم التفكير.
** طلاقة التعبير: سهولة التعبير عن الأفكار وصياغتها في قالب مفهوم.
ج - المرونة: وتعني القدرة على تغيير زوايا التفكير (من الأعلى إلى الأسفل
والعكس، ومن اليمين إلى اليسار والعكس، ومن الداخل إلى الخارج والعكس،
وهكذا) من أجل توليد الأفكار، عبر التخلص من (القيود الذهنية المتوهمة) (المرونة
التلقائية) ، أو من خلال إعادة بناء أجزاء المشكلة (المرونة التَكيّفية) .
فمثلاً باستنطاق قصة الكروان، نجد أن أكثر الناس كانوا يفكرون:
من أعلى إلى أسفل