قضايا ثقافية
عبد العزيز التميمي
منذ بدأ رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية) يترنح، تحت مطارق
المواجهة الحضارية مع الغرب، برز السؤال الإشكالي الملحّ: لماذا تأخر المسلمون
وتقدم غيرهم..؟ !
يحتوي السؤال على شطرين كلاهما بالغ الأهمية: تخلف الذات، ونهضة
الآخر..! وبغضّ النظر عن مفهوم النهضة والتخلف الذي سبق لنا معالجته معالجة
مختصرة في عدد سابق من هذه المجلة فإن هذا السؤال الإشكالي ينطوي على
اعتراف صادق وحقيقي بأن (واقع المسلمين) متخلف.. ولا تزيده الأيام إلا شدة في
التخلف ... ... ... ... ... ... ... ...
... - البيان-
وقبل الولوج في معالجة ما لهذا الموضوع الحيوي من بالغ الأهمية، فإنني
أطرح سؤالاً أعتقد أنه لا يزال عند بعض (الإسلاميين) على الأقل محلّ ريبة وشك.. وهو: هل يَعِدُ الإسلاميون مجتمعاتهم بالرفاه والحياة الطيبة في الدنيا، في حال
استقامتهم على الدين؛ أم أن المكافأة الموعودة إنما يستكملونها في الدار الآخرة ... ؟!
الجواب بلا تردد: نعم! إن جزاء الاستقامة على دين الله تبارك وتعالى هو
الرفاه الدنيوي والسعادة الأخروية ... [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
فَإمَّا يَاًتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى] [طه: 123] [وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه: 124] ،
وقال نوح عليه السلام لقومه: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ
أَنْهَاراً] [نوح: 10 12] وقال تعالى في سورة الجن: [وَأَمَّا القَاسِطُونَ] أي
الحائدون على الطريقة [فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً] [الجن: 15، 16] وقال الله تبارك وتعالى: [وَعَدَ اللَّهُ
الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: 55] .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بشر هذه الأمة بالنصر والتمكين في
الأرض ... ) [1] .
هذه وغيرها كثير نصوص ظاهرة متواترة تؤكد بلا ريب ولا شك بأن منهج
الله تبارك وتعالى وشريعته ضمان لا بل هي الضمان الوحيد في الحقيقة للسعادة في
الدارين: دار الدنيا ودار الآخرة، وأن الإعراض عن الذكر، والتملص من
الشريعة والخروج عليها سبب في الهلاك العاجل والآجل: [وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ
قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] .
ومشاهد التاريخ لا تخفى على من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد..
ومع ذلك تتضخم في نفوس بعض الناس نصوص الزهد في الدنيا وهوانها
على الله تعالى وهي كذلك، كما تتضخم نصوص البلاء والفتنة حتى ليخيل إليهم أن
عباد الله المتقين لا بد أن يكونوا في بلاء وعنت ما بقوا على ظهر هذه البسيطة؛
لأن الله تبارك وتعالى اختار لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس ... ! . والذين
يفكرون بهذه الطريقة يخلطون بين المطلوب الفردي: الزهد والتقشف والإيثار،
والمطلب الجماعي: النهضة والتقدم والرفاه، الذي هو في الحقيقة نتيجة وأثر
اجتماعي للتجرد الفردي. ولسنا نعالج في هذه العجالة هذا المفهوم، ولذلك نكتفي
بما ذكرناه هاهنا؛ كي نعود إلى سؤالنا في مطلع المقال، وندارس الدعاة في
الإجابة عليه؛ فقد تعددت نظراتهم، وتفاوتت طرائقهم إلى درجة التناقض والتضاد؛ وهي درجة مرفوضة، ووضع غير مقبول، أعني: التناقض والتضاد ...
* فمن الدعاة من اختار المدخل العلمي المعرفي مفتاحاً للنهضة: وذلك بسبب
أحد ملحظين في هذا الصدد:
الملحظ الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسائر الأنبياء من قبله،
اختاروا مدخل التصحيح العقدي باباً لبناء المجتمع المسلم [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] [النحل: 36] . [فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى ... ] [البقرة: 256] وعلى هذا طوائف
الدعاة إلى منهج السلف وتصفية العقيدة والحديث مما داخلها، وتقريب السنة بين
يدي الأمة ...
والملحظ الثاني: أن الغرب الحديث إنما خرج من ظلمات القرون الوسطى
تحت مطارق الإصلاحيين من رجال الدين أمثال: مارتن لوثر، وكالفن، والرواد
من الفلاسفة أمثال: ديكارت، وكانت، ورجال العلم الشجعان أمثال: جاليليو،
وكوبرنيكس، ونيوتن ... الذين واجهوا جمود رجال الكنيسة وتسلطهم وعجز
العقلية الأوروبية وتكاسلها، وعلى هذا دعاة التقدم التقني، والمدخل المعرفي
والاجتماعي للنهضة الذين أسسوا بعض المعاهد الفكرية في أمريكا والجامعات في
بعض دول الشرق الآسيوي، وأصدروا الدوريات والمطبوعات، وعقدوا الندوات
لتعميق هذا الاتجاه.
* ومن الدعاة من اختار المدخل السياسي للنهضة: وخصوصاً أولئك الذين
تعرضت بلدانهم للاحتلال الأجنبي والخيانات المحلية.. حيث قالوا بأن دور الدولة
قد تضخم في العصر الحديث، كما لم يحدث في التاريخ، وتغولت إمكاناتها حتى
أصبحت بشريط مغناطيسي صغير على ظهر بطاقة بلاستيكية تستطيع أن
تستعرض حياة الشخص المعني وأهم أعماله الحيوية طوال حياته ... فهي بذلك
قادرة على إجهاض كل مشروع لا توافق عليه أو لا يخدم توجهاتها، والعكس
بالعكس ... فهي قادرة إذا رغبت أن تحقق في فترة وجيزة ما يستغرق من الدعاة
سنين عديدة من جوانب الإصلاح والإغاثة وغيرها ... وهم يقولون أيضاً: إنه
يمكن لنا أن نستشف من بعض النصوص ما يدل على هذا المعنى الحيوي من مثل
قوله سبحانه:
[الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] فكأنهم فهموا أن إقامة الصلاة
وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن تتحقق على الوجه
التام إلا بهذا الشرط شرط التمكين في الأرض وبذلك فإن كل جهد يبذل في غير هذا
الاتجاه من وجهة نظرهم فهو إن لم يكن معوقاً للمسيرة فلن يحقق الغاية بلا ريب!
وممن يرى هذا الرأي الأحزاب والمنظمات الإسلامية التي تطلق عليها وسائل
الإعلام: جماعات الإسلام السياسي!
* ومن الدعاة من اختار المدخل التربوي للنهضة: باعتبار أن الأمة لا
ينقصها (المعرفة) والأبحاث الأكاديمية.. فنحن أكثر الناس كلاماً، حتى إن بعض
الشانئين وصفنا بأننا (ظاهرة صوتية) كما لا ينقصنا الأحزاب والمنظمات، بل إن
حصاد هذه الأحزاب والمنظمات كان ولا يزال مراً.. فهي لم تزدنا إلا هزيمة
وتفرقاً وتشرذماً.. والأزمة في جذرها العميق كما يرى هؤلاء أزمة خُلُق وسلوك
وفعل، قبل أن تكون أزمة قول ونظرية ومنهج وتنظيم.. فمَنْ من المسلمين يجهل
عظم قدر الصلاة، أو خطورة الربا أو حرمة الرشوة أو غير ذلك من الممارسات
المنحرفة التي لا تزال تزداد اتساعاً وانتشاراً؟ المشكلة ليست في أننا لا نعلم أو لا
نقول، بل في أننا نقول ولا نعمل [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (?)
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] [الصف: 2، 3] . الفريضة الغائبة
ليست العلم أو المعرفة أو الوعي السياسي كما يرى هؤلاء وإنما هي فريضة الخلق
والسلوك والعمل، ولذلك كانت أوّل الفرائض العملية على النبي -صلى الله عليه
وسلم- والمسلمين الأولين؛ فريضة قيام الليل: [قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (?) نِّصْفَهُ أَوِ
انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (?) ] [المزمل: 2، 3] لماذا؟ ! لأن القول المنزّل من عند الله
تبارك وتعالى قول ثقيل يحتاج لأولي العزم من الرجال كي يحملوه.. [إنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] [المزمل: 5، 6] .
الرجال الذين قاموا مع محمد في صدر الإسلام نصف الليل أو أكثر أو أقلّ
قليلاً.. هم الرجال الذين تغير بهم التاريخ.. وهم الذين لا نزال نحتاج إليهم دائماً
وأبداً، وبدونهم كل جهد هباء.. آمن بهذه المقولة طوائف من الدعاة ممن جعلوا
تبليغ دين الله والسياحة في الأرض غاية جهدهم ونهاية قصدهم.
* ومن الدعاة من يرى المدخل الجهادي للنهضة: فالجهاد من وجهة نظر
هؤلاء هو الفريضة الغائبة التي تسلط الأعداء بسبب غيابها على المسلمين وآذوهم
واستنزفوا ثرواتهم، وهيمنوا على قرارهم المستقل.. المسلمون لا ينقصهم العدد
ولا الثروة، ولا الموقع الجغرافي، ولا الدافع العقدي ولا الخبرة التقنية.. كل ما
يحتاجونه كما يرى هؤلاء هو أن يستجيبوا لله وللرسول في النفير العام: [قَاتِلُوا
الَذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] [التوبة: 123] [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] [الحج: 78] سبب
الذل المهيمن اليوم على المسلمين مع كثرتهم العددية الكاثرة هو ترك الجهاد كما قال
النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، ورضيتم
بالزرع، وأخذتم أذناب البقر سلّط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى
دينكم) [2] وقال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما
تتداعى الأكلة إلى قصعتها.. قالوا: أوَمِن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل
أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم لكم،
وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا
وكراهية الموت..) [3] .
هذه النصوص وغيرها كثير تبين المكانة المركزية للجهاد في الإسلام، كيف
لا وهو ذروة سنام الإسلام وبه قيام الدين وكسر شوكة المشركين ...
[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُّؤْمِنِينَ] [التوبة: 14]
وشواهد التاريخ الماضي والواقع الحي كما يقول هؤلاء تدل على أنه لا يردع
قوى الكفر والظلم والفساد في الأرض مثل دم يهراق في سبيل الله تبارك وتعالى.
والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى كثير من الاستعداد والتخطيط
والتنظير كما يرى هؤلاء إنما هو كتيبة تصدق مع الله تعالى وتمضي في سبيل
إعزاز دينه، فإذا علم الله تبارك وتعالى منها صدق النية، ومضاء العزيمة،
وخلوص القصد، فإنه يصرف إليهم قلوب عباده المؤمنين ويجمعهم عليهم ويمكن
لهم في الأرض..
ولذلك فقد كلف الله نبيه محمداً بالجهاد وحده وإن لم يتبعه أحد ثم ينصره الله
تعالى: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن
يَكُفَّ بَاًسَ الَذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَاًساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] [النساء: 84] .
آمن بهذه المقولة جماعات من الشباب المسلم، الذين كانت بداياتهم في مقارعة
اليهود في فلسطين والشيوعيين في بلاد الأفغان.. ثم لما أوصدت في وجوههم
الأبواب وسدت أمامهم المسالك، رجعوا إلى بلدانهم في حرب طاحنة غير واضحة
الهدف في كثير من الأحيان ... والكثير من هؤلاء تعوزه الحكمة العميقة، والعلم
الشرعي الراسخ، والتربية الإيمانية الزاكية؛ ذلك أنهم في خضم الصراعات التي
يخوضونها مع خصومهم وأحياناً فيما بينهم لا يجدون وقتاً لكل ذلك..
وبعدُ: فأيّ هذه المسالك هو الأصح؟ وأيها الأسلم والأحكم؟ ذلك ما سوف
ندرسه في حلقة قادمة بإذن الله تعالى ...