ملفات
(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)
انتشار القبور والأضرحة وعوامل استمرارها
(2/2)
عاصفة الأوهام (عوامل الاستمرار)
خالد محمد حامد
لا تحمل الخرافة في ذاتها قوة الدفع اللازمة لاستمرار ترويجها لدى المصابين
بها؛ فهي لا تصمد أمام الحقائق العقلية والشرعية في حلبة صراع الأفكار، ومع
ذلك فقد استمر داء تقديس القبور والأضرحة، بل انتشر واستفحل حتى إنه يذكر
عن عدد الذين يحضرون مولد البدوي أو الدسوقي في مصر مثلاً أنهم: يقدرون
بالملايين من البشر [1] ، فما هي العوامل التي ساعدت على هذا الانتشار
والاستمرار؟
إن المتأمل في شأن القبورية يستطيع القول: إنه لم يكن السبب في هذا
الانتشار عاملاً واحداً، بل هناك عدة عوامل متشابكة عملت جميعها على ذلك
الانتشار والاستمرار، نذكر منها: العوامل الدينية، والنفسية، والاجتماعية،
والاقتصادية، والسياسية.. وإليك بيان بعض هذه العوامل:
العوامل الدينية:
فـ (فلسفة القبورية) تعد من أهم عوامل استفحال داء تقديس القبور
والأضرحة، وأعني بذلك: مع تقديم مسوّغات لهذه الممارسات، ووجود الفراغ
(التوحيدي) لدى القبوريين مع بقاء الدافع الفطري في (التأله) لدى البشر عموماً،
كما أن القبوريين توهموا سهولة الدخول تحت طقوس القبور والأضرحة مقابل
تخليهم عما عدوه صعوبة تكاليف التوحيد الخالص، فكانوا كما قال فيهم ابن قيم
الجوزية نقلاً عن أبي الوفاء بن عقيل رحمهما الله: (لما صعبت التكاليف على
الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم،
فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم ... ) [2] ، فإذا أضفنا إلى ذلك:
ترويج مشايخ القبورية لشبهات ساقطة على أنها أدلة شرعية وحقائق دينية تسمح
بهذه الطقوس لازداد تأثير هذا العامل في ترسيخ فتنة القبورية، لذلك فإننا نلمح أن
انتشار هذا الداء يتناسب عكسيّاً مع تصاعد أمرين:
الأمر الأول: محاولة القضاء على الدين عموماً والعمل على قتل فطرة
الإيمان بالغيبيات في القلوب، الأمر الذي يصرف هذه الفطرة إلى نوع آخر من
الإيمان بنوع تأليه للمادة والعقل بدلاً من الغيب والخرافة، وهذا ما ظهر واضحاً
عقب الانقلاب العلماني على الخلافة العثمانية، (ويذكر رشيد رضا لعباد القبور ما
فعله ملاحدة الأتراك عندما استلموا الحكم، فقد حارب هؤلاء البدع والخرافات
وعبادة القبور، وقاموا بنبش قبور بعض الأولياء، وعرضوا أمام الناس رميم
عظامهم وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم وعن مراقدهم، بله أن يجلبوا النفع أو
يدفعوا الضر عن الناس) [3] .
الأمر الثاني: ملء الفراغ التوحيدي الذي شغلته الخرافة عندما تألهت القلوب
للأضرحة والقبور وساكنيها، كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: (من غَمَرَ قلبه
بمحبة الله تعالى وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، أغناه ذلك عن
محبة غيره وخشيته والتوكل عليه) [4] ، لذا: رأينا أن انتشار هذا الداء تناقص
نسبياً في الأماكن والأوقات التي نمت فيها الصحوة الإسلامية المباركة، التي أخذت
على عاتقها الدعوة إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك كبيره وصغيره، والرد
على شبهات أهل الزيغ، وهنا يبرز الدور الخطير سلباً وإيجاباً الذي يمكن أن يقوم
به العلماء والدعاة، فعلى الرغم من جهود مشكورة لكثير من العلماء والدعاة الذين
بينوا للناس حقيقة التوحيد وحذروهم من الوقوع في الشرك إلا أن القبوريين خادعوا
أنفسهم ووجدوا ملاذاً لهم في بعض من ينسب إلى العلم والدين فأبوا إلا أن يُصغوا
آذانهم ويفتحوا مغاليق قلوبهم لكل من ساهم بقول أو فعل في التلبيس على الناس
وفتنتهم عن دينهم الحق.
وإليك إيضاحاً لبعض مواقف هؤلاء الداعين بأقوالهم أو أفعالهم إلى القبورية:
فحضور هؤلاء المشائخ لهذه الأماكن وعدم إنكارهم لما يحدث فيها، بل
مشاركتهم في طقوسها في أحيان كثيرة.. فتنَ كثيراً من الدهماء. فمما يذكره
الجبرتي بعد وصف المنكرات التي تحدث في أحد الموالد (مولد العفيفي) :
(.. ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء ... ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء ... فضلاً عن كونهم يفعلونه..) [5] .
ويقول محمد أحمد درنيقة: (وهذه الأمور كانت تجري في بيت الله ويراها
ويسمعها العلماء الذين لا يفعلون شيئاً للتخلص من هذه الانحرافات، لا، بل ...
ذهب بعض العلماء إلى تهنئة هذه الفئة بهذا الموسم الشريف والدعاء لهم بأن يطول
بهم العمر لإحياء مثله أعواماً عديدة. يرى رشيد رضا أن هذا السكوت من قِبَل
العلماء قد أوقع في ذهن العامة أن هذه الأعمال وأضرابها من مهمات الدين) [6] .
ومن المواقف المعاصرة العديدة في ذلك: أنه (قد زعم الخليفة الحالي للسيد
البدوي في مولد عام 1991م: (أن السيد البدوي موجود معك أينما كنت، ولو
استعنت به في شدتك وقلت: يا بدوي مدد، لأعانك وأغاثك) ! قال ذلك أمام
الجموع المحتشدة بسرادق وزارة الأوقاف في القاهرة أمام العلماء والوزراء، وقد
تناقلته الإذاعات وشاشات التلفاز) [7] .
ليس هذا فحسب، بل تؤلف الكتب في الدعوة إلى ذلك، ويتواطأ (العلماء) في
إقرارها، فقد ذكر رشيد رضا أن أحد (المنسوبين للعلم) ألّف كتاباً يدعو فيه إلى ذلك
التوجه (المنافي للحنيفية) ، (وواطأه على ضلاله وإضلاله (63) عالماً أزهرياً كما
ادعى، وذكر أسماءهم وإمضاءات أكثرهم بخطوطهم، وبنى على هذا أنه انعقد
الإجماع؛ لأن سائر علماء الأزهر يوافقونهم فيه، وأنه يجب على جميع المسلمين
اعتقاده والعمل به..) [8] ..
والأمر تجاوز التنظير والتسويغ ليصل إلى الممارسة الفعلية كما يقوم بها أي
خرافي، فهذا (أحد المشايخ الكبار في عهد إسماعيل باشا كتب شكوى ضده وأرسلها
بالبريد إلى طنطا، ومنها إلى قبر السيد البدوي، حيث تقوم محكمته داخل قبره!) [9] ، (ولما وقع صراع بين الأحناف والشوافع حول مشيخة الأزهر بسبب تعيين
أحد مشايخ الأحناف شيخاً للأزهر، هرع الشوافع بقيادة الشيخ محمد بن الجوهري
الشافعي إلى ضريح الإمام الشافعي، ولم يزالوا فيه حتى نقضوا ما أبرمه العلماء
والأمراء وردوا المشيخة إلى الشافعية!) [10] .
وانظر إلى إنكارهم.. لأي شيء وقع؟ ! : (فعندما صودر أولاد سعد الخادم
وهم سدنة ضريح السيد البدوي هاج العلماء في الأزهر وامتنعوا عن التدريس إنكاراً
لمن قام بمصادرته، ولم يعودوا إلا بعد أن طيبت خواطرهم ووعدوا بتلبية
رغبتهم) [11] .
ثم انظر إلى إقرارهم.. على أي شيء وقع؟ : (ذكر الشيخ رشيد رضا أنه
كان مرة في قبة الإمام الشافعي، وكان ثَمّ جماعة من أكابر علماء الأزهر وأشهرهم، فأذن المؤذن العصر مستدبراً القبلة، فقال لهم: لِمَ لم يستقبل هذا المؤذن القبلة كما
هي السنة؟ فقال أحدهم: إنه يستقبل ضريح الإمام! .. وذكر أيضاً أنهم لا ينكرون
على من يستقبل قبر الإمام في صلاته) [12] .
ثم هم لا يسكتون على من يقوم بواجب إنكار المنكر حقيقة، بل ينكرون على
من ينكر المنكر الشركي، (كما حدث حين اعترض الواعظ الرومي (التركي) في
سنة 1711م ... وأبدى رأيه في اعتباره زيارة الأضرحة وإيقاد الشموع والقناديل
على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم من قبيل الكفر، بل وطالب بهدم الأضرحة
والتكايا، فثار عليه مشايخ الأزهر الصوفية وأصدروا فتوى بكرامات الأولياء
وتوسطوا لدى الحاكم السياسي حتى نفاه) [13] .
فما الذي يحمل هؤلاء (العلماء) على تلك الممارسات؟
يحملهم على ذلك ما يحمل غيرهم من دهماء القبوريين:
فهم يرون أن ذلك من شعائر الدين، حتى إن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً
يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الحسين في القبر
المنسوب إليه: (إنك (جئت تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية، فإنك
تريد أن تطيّر البقية من دينهم ( [14] .
وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها الضر والنفع، تماماً مثلما يعتقد
الدهماء والعامة من القبوريين، (ويبين رشيد رضا أن الذي دفع العلماء إلى
السكوت عن هذه الأمور خوفهم من الوقوع في قضية إنكار الكرامات أو الاعتراض
على الأولياء الذي يخشى معه أن يلحقوا بهم الأذى والضرر) [15] ، وليس أدل
على ذلك من أنه (في أيام حكم السلطان المملوكي جقمق قيل لأحد العلماء أن يفتي
بإبطال مولد البدوي لما يحدث فيه من زنا وفسق ولواط وتجارة مخدرات، وما
يشيعه الصوفية من أن البدوي سيشفع لزوار مولده، فأبى هذا العالم أن يفتي، قائلاً
ما معناه: إن البدوي ذو بطش شديد) [16] ..
فإذا كان هذا هو حال شريحة من العلماء المقتدى بهم، فماذا يُنتظر من العامة
والدهماء؟ .. إن الذي يعرض منهم عن السماع للعلماء الربانيين ويتخذ مثل هؤلاء
قدوة وأسوة فلا بد أن يتخبط من مس الخرافة والأوهام.
العوامل النفسية:
يرتبط بما سبق بعض الأسباب النفسية التي تعمل على انتشار تقديس القبور
والأضرحة واستمراره، حيث يمثل (الخوف) منها الذي نتج عن الاعتقاد فيها
حاجزاً لمنع هدم الأسطورة التي قامت عليها، وكذلك تمثل (المسرة والحبور)
الناتجين عن الاعتقاد فيها أيضاً أحد المرغبات في استمرار هذا الكيان.
وهذا ما يذكره الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربته القبورية.. (شيء آخر
أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء.. أن الدكتور [الذي يدعوه إلى الكفر
بهذه الطقوس الوثنية] يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء، والخطباء على المنابر صباح مساء يعلنونها صريحة: إن الذي يؤذي ولياً فهو في
حرب مع الله سبحانه وتعالى.. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور
والأضرحة؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه جل جلاله) [17] .
وعن أحد أسباب عشقهم يقول: ( ... لأني أحب أشعارهم، وأحب موسيقاهم
وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمة متنوعة ... أو
ناي مصري حزين ينفرد بالأنين مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب
بمحبوبه ... وكل حجتي التي أبسطها في معارضة (الدكتور) أنه وأمثاله من الذين
يدعون إلى (التوحيد) لا يريدون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال!) [18] .. ولعل ذلك الخيال الذي كان يريد للدين أن يسبح فيه هو ما عبّر عنه بقوله:
(أحياناً أخترع لهم كرامات، أو أتصورها، أو أتخيلها..) [19] .
وهنا تلعب الإشاعات ونسج الأكاذيب دوراً مهماً في بناء العامل النفسي؛
فالصوفية دأبوا على تحذير الناس من غضب (الأولياء) ، (وقد صاغوا هذه الأفكار
المخيفة في صورة حكايات مرعبة حول رجال لهم سمعتهم العلمية ومكانتهم الفقهية
اعترضوا على الصوفية فأذاقهم طواغيتهم من العذاب الأليم ألواناً) [20] .. وليس
هذا الإرهاب النفسي مع العلماء والفقهاء فقط، (فمع أن الحكام من المماليك كانوا
يسيرون في ترهات أباطيل الصوفية ويقيمون لهم الخوانق والرباطات والزوايا، فلم
تخل قصص التخويف من تخويفهم، وأطلقوا على البدوي لقب: العطاب) [21] ..
فإذا كان هذا الحال هو ما يشاع بين العلماء والحكام فما بالنا بما يروج بين دهماء
الناس ويؤثر على نفسيتهم المستسلمة لهذا الداء؟ .. لننظر إلى بعض الصور:
فأهالي الإسكندرية بمصر يتحدثون بكثرة عن الكرامات التي تحدث لضريح أبي
الدرداء، (ويذكرون على سبيل المثال ما حدث عندما أرادت بلدية الإسكندرية سنة
1947م نقل الضريح إلى مكان آخر ... وبدأت فعلاً في تنفيذ المشروع، ولكن
واحداً من العمال الذين يعملون في نقل الضريح توقفت يداه وأصيب بالشلل! ،
فامتنع باقي العمال عن العمل ... واضطرت البلدية أن ترضخ لاعتقاد العامة وأبقت
الضريح كما هو [22] ) .
ومما رصده الشيخ رشيد رضا بخصوص هذه الظاهرة أنه (شاع لدى العامة
أن من تعوّد على حضور هذه الموالد أو على إنفاق شيء فيها، ثم امتنع عن قيامه
بعادته تلك: لا بد أن يصاب بنكبة أو مصيبة..) [23] .
فماذا لو تم بالفعل إبطال أحد الموالد؟ ! .. (حدث أن السلطان جقمق أبطل
مولد البدوي لما فيه من الوثنيات الموبقات والفواحش بين الرجال والنساء، وحدث
لبعض المقيمين بإبطال هذا المولد ابتلاء لهم ... فمنهم من عزل من منصبه، ومنهم
من أمر السلطان بنفيه، ومنهم من وضع في السجن، فأشاع الصوفية أن كل ذلك
من عمل البدوي؛ لأنه غضبان عليهم) [24] فآلة الحرب النفسية الصوفية تعمل
على كل حال.
وهناك بعد آخر في العامل النفسي، وهو أن أضرحة الأولياء تمثل للعامة
تعويضاً وهميّاً لانتصارها أوقات الاستبداد والتسلط السياسي؛ (فالإنسان المقهور
يكون بحاجة إلى قوة تحميه تجسدت في الأولياء، فهم المحامون والملاذ؛ ويتضح
هذا جليّاً في كرامات الأولياء؛ فهي تشكل النقيض تماماً لوضعية الإنسان المقهور،
وحيث ترسم صورة الإنسان المتفوق ضد الإنسان المهان واقعيّاً، وتجسد أماني
المغلوبين في الخلاص من خلال وجود نموذج الولي صاحب الخوارق الذي يفلت
من قيود الزمان والمكان، ولذا: نرى أن الجماهير المقهورة تتجمع حول أضرحة
الأولياء كما يتجمع أعضاء حزب معين حول شخص زعيمهم) [25] .
النساء والعامل النفسي في استفحال داء القبور والأضرحة:
لوحظ من خلال متابعة الواقع وتتبع الوقائع أن للنساء دوراً ملحوظاً في
ترويج تقديس القبور والأضرحة والمزارات، نشأةً وارتياداً:
فأم الخليفة العباسي المنتصر هي أول من أنشأ قبة في الإسلام كما مر ذكره
في حلقة سابقة، ويذكر أن الخيزرانة أم هارون الرشيد هي أول من كسا الحجرة
النبوية الشريفة، وصارت من بعدها سنة الملوك والسلاطين [26] ، ويذكر أيضاً
أنها أول من حوّل البيت الذي ولد فيه الرسول إلى مسجد [27] ، كما قامت والدة
السلطان العثماني عبد العزيز بترميم قبب مسجد الزبير بن العوام بالبصرة
وتكبيره [28] .
ويسجل الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام
الرباني ومجدد الألف الثاني ظاهرة كثرة ارتياد النساء للقبور والأضرحة في الهند
فيقول: (وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع عنه بواسطة كمال الجهل
فيهن، يطلبن دفع البلية من هذه الأسماء الخالية عن المسميات، ومفتونات بأداء
مراسم الشرك وأهل الشرك، خصوصاً وقت عروض مرض الجدري ... بحيث لا
تكاد توجد امرأة خالية من دقائق هذا الشرك.. إلا من عصمها الله تعالى..) [29] .
كما لوحظ أيضاً تخصيص بعض الأضرحة والمزارات بالنساء، كمزار
(بنات العين) بالأردن الذي يعرف بـ (المستشفى النسائي) ، وضريح الشيخة مريم
التي (اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم) ، وضريح الشيخة صباح بطنطا التي
اشتهرت بالبركة ذاتها! [30] ... إلى غير ذلك من الأضرحة والمزارات الخاصة
بالنساء، بينما لم يبلغ علمنا اهتمام الرجال بتخصيص أضرحة تقتصر عليهم
وحدهم أو يزعمون أن لها ميزات تخصهم دون غيرهم.
ولعل ذلك راجع إلى طبيعة نفسية النساء التي تغلب عليها العاطفة والانبهار
بالمظاهر، كما يتعاظم فيهن الإحساس الفطري بالضعف البشري وحاجتهن إلى قوة
خفية تجبر هذا الضعف، ولعل لهذا السبب أيضاً جاء في السنة النبوية تخصيص
النساء بالزجر الشديد عن أن يكن زوارات للقبور، فعن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (لعن زوارات القبور) [31] ، وورد فيهن كذلك أنهن أكثر
أتباع الدجال ( ... فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى
حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه) [32] .
العوامل الاجتماعية:
حيث تمثل المسايرة الاجتماعية والمجاملات دوراً مهماً في انتشار هذا الداء
وعدم الانخلاع عنه، وهذا ما يسجله الأستاذ عبد المنعم الجداوي في تجربته أثناء
خروجه من الاعتقادات القبورية، وذلك عندما وجد نفسه في صراع بين ما اعتقده
من خطأ هذه الاعتقادات الباطلة وما يمليه عليه الواجب الاجتماعي من ضرورة
مجاملة ابنة خالته وأسرتها، بمشاركته لهم في الوفاء بنذر تقديم (القربان) إلى السيد
البدوي؛ حتى يعيش ابنهم الوحيد كما يعتقدون [33] .
ويدخل في هذه العوامل أيضاً: صفة الهيبة والوجاهة الاجتماعية التي يخلعها
تقديس القبور والأضرحة على سدنتها وخدمها والقائمين عليها، مما يصعب معه إلا
على من رحم الله الاعتراف بخطأ الاعتقادات والممارسات التي تقام وتنسج حول
هذه الأضرحة؛ الأمر الذي يعني تخليهم عن هذه المكانة التي أكسبتها لهم الأضرحة
والقبور، فلقد (كان سادن الضريح سيداً مطاعاً وشخصاً مهاباً، يستمد طاعته
وهيبته من الضريح الذي يقوم على سدانته ... وكانت سدانة الأضرحة وظيفة
متوارثة يرثها الأبناء عن الآباء، وتنتقل في عقبهم وذراريهم، ولا ينزعها منهم إلا
ظالم كما يزعمون، ولم تكن لتنزع من أسرة إلا ليعهد بها إلى أسرة أخرى) [34] .
ويدخل في هذه العوامل كذلك: التفاخر بين أهل القرى والمدن والمحلات بهذه
القبور والأضرحة؛ حيث يعتبر المعتقدون فيها أن وجود ضريح وخاصة إذا كان
من ذوي الشهرة والمكانة من دواعي فخرهم بين أهل البلاد الأخرى، يقول الغزي
بعد أن ذكر الخلاف في دفين الجامع الأموي بحلب: (وعلى كل حال فليس يخلو
الجامع من أثر شريف نبوي جدير أن تفتخر حلب بوجوده) [35] .. ومن هذا
الوجه أيضاً: الاهتمام بالأضرحة باعتبارها آثاراً وتراثاً تاريخياً ينبغي عدم تضييعه، فالدكتورة سعاد ماهر ترثي وتأسف لحال ضريح (ذي النون المصري) ، حيث
تقول: (والضريح في مكان مهجور خرب وبحالة سيئة للغاية، ومكانه بجوار
مسجد سيدي عقبة بن عامر بجبانة الإمام الليث، وإني أناشد وزارة الأوقاف أن
تعيد بناء ضريح أول صوفي في مصر الإسلامية، بل ومن أبرز متصوفي الرعيل
الأول في العالم الإسلامي كله) [36] .
فكيف بعد هذا كله يستمعون لمن يقول لهم: إن بقاء هذا الكيان عار على
عقيدتهم ودينهم وعقولهم؟
العوامل الاقتصادية:
ونستطيع أن نطلق عليها: المنافع المادية، وهذه المنافع ظهرت مصاحبة لهذا
الداء، فمنذ القدم استعمل الشيعة القبور والأضرحة والعتبات المقدسة وسيلة للتكسب
والعيش، مثل الفاتحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد والقبور [37] ،
وعندما راجت هذه التجارة وازدهرت ظهر من يبتكر للناس أصنافاً من هذه
الأضرحة لزيادة دخله، وهذا ما يذكره ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: (..
حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، وكان أحدهما قد اتخذ قبراً
تجبى إليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال، فعمد الآخر إلى قبر، وزعم
أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف، وجعل فيه من أنواع الطيب ما
ظهرت له رائحة عظيمة) [38] ، واستمرت هذه البضاعة رائجة عند أهل الوهم
والدجل حتى أضحى استمرار تقديس القبور والأضرحة ضماناً لاستمرار تدفق مورد
رزق مهم لكثير من فئات المنتفعين بترويج هذا الداء.
ويقف على رأس هؤلاء المنتفعين: سدنة الأضرحة وخدمها والقائمون عليها،
فقد مثّلت هذه الأضرحة مراكز حضرية جذابة، مما دعا الأهالي إلى (بناء مساكن
حول الأضرحة، وأصبحت الأضرحة بذلك وسط المدن والقرى توحي للسكان
باستمرار هذه العادات.
ومن أهم العادات التي تبعت هذه العادة: تقديم النذور والصدقات، وهو أمر
أثّر في مزيد من الإقبال على العمل في هذه الأضرحة.. [39] ، فصناديق النذور
شكّلت وعاءً استثمارياً مهماً لمروجي الخرافة، و (مما يوضح أهمية هذا المورد
بالنسبة للمجلس الصوفي وكافة الطرق التابعة له أيضا: الموقف الشديد الذي وقفوه
ضد المفتي حين أصدر فتوى شرعية ببطلان النذور شرعاً، واعتبار الباب الثالث
من لائحة الطرق الصوفية الذي يقر ويبيح هذه النذور مخالفاً للشرع والدين ...
وهذا الأمر يدعو البعض لتفسيره بأنه دفاع عن مصالح طبقية أكثر من كونه دفاعاً
عن مبادئ شرعية. ومن الموارد المهمة أيضاً: الصدقات التي كان يمنحها
أصحاب الجاه والقادرون سواء أكان عطاؤها سراً أم جهراً، وسواء أكانت عينية أم
نقدية..) [40] .
ليس ذلك فحسب، بل يضاف إلى ذلك: الموارد الرسمية كالأوقاف التي
كانت توقف على هذه الأضرحة وخدامها وسدنتها، والإعانات المالية والعينية التي
تصرف لهم من وزارتي الأوقاف والشؤون الاجتماعية [41] ، وهكذا صار لهذه
الأضرحة (ألوف من السدنة يعيشون في رغد وثراء من ورائها، وكانوا يتوارثون
هذه الوظائف ... ويكفي أن تعلم أن ما كان يصل إلى ضريح الجيلاني في السنة من
أموال الزائرين، يفوق ما كانت تنفقه الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين في
السنة الواحدة أضعافاً مضاعفة) [42] .
والأمر لا يقتصر فقط على الأوقاف والصدقات والنذور التي يدفعها المعتقدون
في الأضرحة لدفع الضرر عن أنفسهم أو لشكر نعمة، والتي تمثل المصدر الرئيس
لهذا الدخل، بل يتعداه إلى كل الطرق الموصلة إلى المال بما فيها الاحتيال على
السذج المعتقدين في هذه الأضرحة، فعند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي
يمزقون الكسوة والعمامة القديمتين إلى قصاصات صغيرة، وهنا (تظهر العملية
التجارية غير الرسمية التي يقوم بها خدم المسجد، فيبيعون هذه القصاصات نظير
مبالغ كبيرة) [43] ، وبالطبع يتم ذلك وسط تهافت هؤلاء المعتقدين في الأضرحة
للحصول على أي بركة من (ريحة) الولي.. وربما لأجل مثل هذه النشاطات
وغيرها ذكر الجبرتي عن سدنة الأضرحة أنهم أغنى الناس! [44] .
ويتحدث الدكتور زكريا سليمان بيومي عن أهمية فئة خدام الأضرحة
باعتبارها مركز ثقل دعائي واقتصادي للطرق الصوفية فيقول: ( ... فئة خدام
الأضرحة، التي تشكل أكبر فئة من حيث العدد والأهمية الاجتماعية والاقتصادية
بالنسبة للطرق الصوفية، فهم بمثابة مراكز متناثرة في كل مصر لنثر أساليب هذه
الطرق والدعوة لها، ويروجون للاعتقاد في الأولياء بكل مراتبهم، ويكثرون من
ذكر كراماتهم وخوارقهم، مدفوعين إلى ذلك بدافع الانتماء للطرق من خلال عملهم، وبدافع أساسي وهو أن هذه الأضرحة تمثل مصدر معيشتهم ... وكانت هذه
الأضرحة تستوعب عدداً كبيراً من الخدم، فمن الممكن أن نجد أسرة كاملة تخدم في
ضريح واحد، ولم تكن هذه الوظيفة مقصورة على الفقراء والمحتاجين، بل كانت
لما تدره من دخل كبير مغرية لفئات متعددة؛ فنجد مشايخ طرق كبيرة يسعون لهذه
الوظيفة، بل ويفضلونها أحياناً على مشيخة الطرق..) [45] .
فكيف يهدمون بأيديهم الكيان الذي يغلون من وراء إقامته مصدر دخلهم ورغد
عيشهم؟ لا بد أنهم سينافحون بكل ما يملكون لاستمرار هذا الكيان، إلا من رحمه
الله ولفظ من قلبه حب الدنيا وشهواتها.
ومن المنتفعين باستمرار وجود كيان الأضرحة والقبور: (آلاف من الفقراء
الذين يتعيشون بجوار الأضرحة ويستفيدون من الموالد، وهذا أمر واضح عياناً
بياناً، لاحظه الباحث في كل الأضرحة التي زارها، وخاصة الحسين والسيدة
زينب..) [46] ، ولقد كان الفلاحون يحرصون على المشاركة في الولائم التي
تقام حول الضريح، حيث (يقصدون بها استجلاب البركة) [47] .. كما أن هناك
مئات الأسر التي تتعيش على استمرار الأضرحة من خلال المقاهي والمطاعم
والفنادق وغيرها من الخدمات المنتشرة حول كل ضريح، إضافة إلى السيارات
ووسائل المواصلات التي تغدو وتروح على حساب الزوار [48] .
ومن الموارد المهمة التي ارتبطت بتقديس القبور والأضرحة: ما يجري في
الاحتفالات والموالد التي تقام لهذه الأضرحة التي (اعتبرها رجال الصوفية مواسم
للإرشاد وتعليم الآداب الاجتماعية والدينية، وكمدارس شعبية للوعظ والإرشاد
الديني..) [49] ، ولكنها تحولت إلى بؤر متحركة لنشر المفاسد والانحرافات،
وقد تعددت هذه الموالد وكثرت حتى إنها لم تكن تقام أحياناً (بمناسبة تاريخ وفاة
صاحب الضريح أو مولده، وكان يصادف أحياناً أن تقام في مواسم الحصاد ...
ونادراً ما كان يحدث مولد لشيخين في ليلة واحدة إلا إذا كانت المسافة بينهما بعيدة
حيث كان مشايخ الطرق يحرصون على ترتيب هذه الموالد بحيث يتمكنون من
الانتقال بينها..) [50] ، وقد كانت ليالي الموالد تصل في بعض الأحيان إلى
شهرين ونصف [51] ، يصاحبها نشاط وافر لفئام من المنشدين والمداحين
والمشببين الذين يحيون هذه الموالد بشتى أنواع الاحتفالات، ومنها ما يطلقون عليه: (الذكر) ، (وقد اعتاد من يحضر (الذكر) أو يمارسه أو يشاهده خصوصاً في
السرادقات المقامة أمام المسجد من أن يقوم بدفع (النقوط) ، وهي المبالغ التي تدفع
للمنشد لتشجيعه على حسن الأداء، وهي في هذه المناسبة تعتبر تحية لولي الله نفسه، حيث يعتقد بأن هذه النقوط هدية ترد إلى مقدمها من جانب الولي صاحب المولد،
سوف يردها في شكل آخر، فينعم عليه بكثير من الهبات التي تتمثل في زيادة
الدخل ووفرة المحصول وسداد الديون ... ) [52] ، أما النشاطات الأخرى: فـ
(يبدو الجامع كتلة من الأنوار المبهرة، وتنتشر السرادقات حوله في ساحته وفي
المنطقة المحيطة به، وتظل المطاعم والمقاهي تستقبل روادها طوال (?) ساعة،
ومع غروب الشمس ليس هناك موطئ لقدم، ضجيج الميكروفونات يتصاعد من
جميع السرادقات ... روائح البخور والعطارة والشواء تتضوع في الأجواء، شوادر
الحمص والحلوى بأنواعهتا تشارك بالإعلان عن بضاعتها في الضجيج العام، باعة
الشاي على الأرصفة، وباعة المسابح والطراطير الملونة ولعب الأطفال..) [53] .. فهي أنشطة حياتية متكاملة، وهذا ما أكده علي مبارك باشا، فيقول:
(وفي هذه الموالد ما لا يخفى على أحد من المزايا والمنافع، كمنفعة من يكترى منهم
الدواب أو المراكب أو سكة الحديد للمضي إليه والانصراف عنه، ومنفعة من يكون
فيه من الفراشين والطباخين وغيرهم من أرباب الحرف والصناع وأصحاب الدور
التي تكترى والأشياء التي تشترى، ثم ما يكون فيه من سعة التجارة، فإنا نرى
كثيراً من التجار في طنطا وغيرها من سائر مدن مصر يعلقون أداء ديونهم وقضاء
بعض شؤونهم على هذا المولد..) [54] .
وبالطبع: فخلف كل نشاط جمهور من المنتفعين الذين يحرصون على
استمرار هذه الموالد التي تقام حول الأضرحة ضماناً لتدفق مورد رزقهم.
وأخيراً: فإن من العوامل الاقتصادية لاستمرار تقديس القبور والأضرحة:
اهتمام بعض الدول بهذه الأضرحة باعتبار ما تدره الأنشطة المرتبطة بها وحصيلة
صناديق نذورها والأوقاف التي توقف عليها ... أحد الموارد الاقتصادية للدولة التي
بها مثل هذه الأضرحة.