تأملات دعوية
عبد الله المسلم
إن النفوس تصيبها القسوة والغفلة، وتبتعد القلوب عن الله وتتعلق بالدنيا وما
فيها، ويلابس الناس الذنب والمعصية، فيحتاجون للتذكير والوعظ.
ومن يتأمل سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى أنه كان يُعنى بالموعظة،
وكان كثيراً ما يذكّر أصحابه ويرقق قلوبهم، ولم تكن الموعظة خاصة بحديثي العهد
بالإسلام والتوبة، ولا بالمقصرين المخلطين، إنما كانت هدياً راتباً له يتخوّل بها
أصحابه.
عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا) [1] .
ويصف حنظلة الأسيدي: وكان من كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يصف مجالسه فيقول: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت:
نافق حنظلة. قال: سبحان الله: ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رَاًيَ عين، فإذا خرجنا من
عند رسول الله عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر:
فوالله إنّا لنلقَى مثل هذا ... ) [2] .
وحين دَفَنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدَ أصحابه جلس على القبر وهو
لم يُلحد بعد، فوعظ أصحابه موعظة بليغة، وذكر لهم ما يلقاه العبد بعد موته من
أحوال البرزخ وأهواله [3] .
وفي خطبه الجمعة كان يُعنى بهذا الأمر؛ فعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان
قالت: ما حفظت (ق) إلا مِن فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بها كل
جمعة، قالت: وكان تنورنا وتنور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحداً [4] .
وقد أخبر تبارك وتعالى عن عباده المتقين وأنهم بحاجة إلى تعاهد النفوس
ورعايتها، فقال: [وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] [آل عمران: 133-135] .
بل أخبر عن نفسه فقال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم
مائة مرة) [5] .
فإذا كانت هكذا نفوس المتقين الذين بلغوا الرتب العالية والمنازل الرفيعة،
فكيف بمن هم دون ذلك بكثير؟ كيف بنا اليوم ونحن نعيش عالماً مليئاً بالفساد
والمنكرات، ونلابس ونواقع كثيراً منها صباح مساء، ناهيك عن الاستغراق في
فضول المباحات والوقوع في المشتبهات، وهذه دائرة ربما لم نفكر فيها لأنّا لم
نتجاوز ما قبلها.
فلئن كان الرعيل الأول وخير القرون يتعاهدهم نبيهم بالوعظ والتذكير،
ويتخوّلهم بها، ويسمعون منه كل جمعة ذلك، فكيف بجيلنا نحن؟
بل وكيف نتصور بعد ذلك أن المواعظ إنما هي لفئات خاصة من حديثي العهد
بالاستقامة والتوبة، في حين نظن أن الدعاة ومن قطعوا شوطاً في الطريق، في
غنى عن ذلك كله، وهم بحاجة للحديث عن القضايا الفكرية والدعوية والمسائل
الساخنة؟ !