المسلمون والعالم
طالبان.. وقدر أفغانستان
(2/3)
عبد العزيز كامل
بانتهاء الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب في أوائل التسعينيات،
خفت حدة التدخلات المباشرة لتوسيع مناطق النفوذ في العالم الثالث؛ حيث لم تعد
هناك حاجة لتلك المنافسة بعد تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالجلوس على كرسي
القطبية الواحدة. وترتب على هذا تعاظم دور القوى الإقليمية، وحلت تلك القوى
محل القطبين الدوليين أو أحدهما في التنافس والصراع، وعلى هذا فإن هناك
قضايا عديدة بردت دولياَ بانتهاء الحرب الباردة، وانحلت تلقائياً بزوال المنافسة بين
القطبين كما حدث في كمبوديا ونيكاراجوا وموزمبيق وأنجولا وجنوب إفريقياً بينما
حلت السخونة إقليمياً في أماكن أخرى للسبب نفسه وهو انتهاء الحرب الباردة؛
حيث تفجر بانهيار المعسكر الشرقي الشيوعي الصراع بين روسيا الاتحادية وريثة
الاتحاد السوفييتي وبين أقاليم عديدة مثلما حدث في الشيشان وتتارستان وغيرهما،
وتفجر صراع آخر بعد انهيار الاتحاد اليوغسلافي، فاشتعلت بسبب ذلك منطقة
البلقان بالأزمات والأحداث في البوسنة وألبانيا وكوسوفا والجبل الأسود.
ويدخل ضمن التنافس على الزعامة الإقليمية بعد غياب المنافسة القطبية ذلك
التسارع المحموم للأحداث في جنوب آسيا، وخاصة بين الهند وباكستان، وكذلك
بين دول جنوب شرق آسيا والصين من جهة، وبين كل من الهند وإيران وباكستان
من جهة أخرى على مناطق آسيا الوسطى؛ حيث الجمهوريات الإسلامية التي ولدت
مرة أخرى بموت الاتحاد السوفييتي، تلك الجمهوريات التي تتطلع الأطماع إلى
حقولها الغنية بالبترول والغاز وإلى أسواقها القابلة للزيادة والنمو.
أما عن موقع أفغانستان من كل هذا، فهي أحد المعابر التي تمر من فوقها تلك
المطامع، ولا يمكن لأي طرف من المتنافسين أن يتجاهل أهمية أفغانستان في
الوصول لما يريد.
وعلى الرغم من أن الصراع يبدو إقليمياً بحتاً بين باكستان من جهة والهند
وإيران من جهة أخرى فوق أرض أفغانستان إلا أن أطرافاً دولية تقف أيضاً خلف
هذا التنافس.
فللولايات المتحدة تطلعاتها وأطماعها في آسيا الوسطى، وروسيا تحاول الحد
من تفرد الولايات المتحدة بتركة الاتحاد السوفييتي السابق.. وجاء موقع أفغانستان
في وسط حلبة المصارعة الدولية الجديدة، ليجدد مرة أخرى نزاعاً سياسياً
واقتصادياً بين أطراف خارجية على أرضها، وهو نزاع قد تراه الأعين للوهلة
الأولى نزاعاً داخلياً فقط.
لعل ما تقدم ذكره يفسر بعض الخلفيات التي تدفع الأطراف الدولية والإقليمية
للتدخل في الشأن الأفغاني، ولعل الأمر يتضح أكثر عندما نستعرض مواقف تلك
الأطراف من أحداث السنوات الأخيرة، وبالذات منذ برزت حركة طالبان وتمكنت
من إتمام السيطرة شبه الكاملة على ربوع أفغانستان.
أولاً: باكستان:
بدا دور باكستان غامضاً في إنشاء ودعم حركة (الطالبان) ولا يزال هذا
الموقف يكتنفه بعض الغموض، ولكن هناك حقائق يمكن أن تجلّي الكثير من
غموض الموقف الباكستاني في علاقته بأفغانستان بوجه عام وحركة الطلاب بوجه
خاص، ومن تلك الحقائق ما يلي:
1- لإسلام أباد مطلب ملحّ في إحلال سلام واستقرار في أفغانستان، تعلم أنه
سينعكس إيجاباً على الاستقرار في باكستان؛ فأفغانستان بلد مجاور لها، وكل دولة
تتطلع إلى الاستقرار على حدودها، والسياسيون في إسلام أباد لا يخفون أنهم
يحملون همّاً كبيراً لما دار ويدور في أفغانستان بعد انتهاء الحرب مع الشيوعية،
تلك الحرب التي حولتها إلى ترسانة ضخمة للأسلحة من كل نوع، بدءاً من
المسدسات وانتهاء بالطائرات والصواريخ؛ وهي أسلحة ظلت منتشرة في أنحاء
أفغانستان في أيدي أطراف مختلفة، بدأت تتصارع فيما بينها كما هو معروف، ولم
يكن بمقدور أحد تلك الأطراف السيطرة على الآخرين، ومن ثم السيطرة على
السلاح المنتشر في طول البلاد وعرضها، ومعلوم ما يمكن أن يثيره هذا الوضع
من توترات وتقلبات ومشاكل أمنية وسياسية وعسكرية لباكستان المجاورة وقد عبر
وزير الداخلية الباكستاني السابق عن هذه الهموم الباكستانية بقوله: (تعرفون أننا
نتعامل مع آثار الحرب الأفغانية الطويلة، إن في أفغانستان أسلحة بقيمة 30 مليار
دولار، بينها عشرة مليارات دفعها الغرب، والآن يجب تنظيف البلد من كل هذا)
(الوطن الكويتية 9/3/1995م)
إذن فباكستان تحمل هماً له ما يسوّغه، وبقدر عِظم هذا الهم، كانت همة
باكستان متوافرة على الوقوف مع أي جهة يمكن أن تضع حداً للفوضى في
أفغانستان، وكان بروز حركة طالبان أملاً ولو كان بعيداً للوصول إلى حل لتلك
المشكلة، ولكن هذا الأمل ظل يتعاظم مع الإيقاع المتسارع للانتصارات التي ظلت
(طالبان) تحرزها بلا توقف على أطراف النزاع الداخلي، وزاد من التفاؤل
الباكستاني، نجاح طالبان الكبير في نزع السلاح من القبائل والعصابات
والميليشيات المسلحة في كل منطقة تقع تحت أيديها دون مشاكل كبيرة.
2- يحدو باكستان الأمل في أنه إذا ما ساد السلام في أفغانستان، فسوف
يمكنها ذلك من الاستفادة من مد خطوط أنابيب الغاز من الحقول الضخمة فيما بين
تركمانستان والمحيط الهندي، وهذه الخطوط لا بد أن تمر عبر أفغانستان. وتحلم
باكستان أيضاً بفتح طريق للتجارة يصل بين باكستان وأسواق آسيا الوسطى، وهذا
الطريق لا بد أن يمر أيضاً بأفغانستان، ولا شك أن استمرار الحرب الأهلية في
كابول وما حولها، سيحبط تلك الآمال ويعرقل الجهود المبذولة لتحقيقها.
ومع اقتناع باكستان بالأهمية القصوى لمثل تلك المشاريع بالنسبة لها
ولأفغانستان أيضاً، إلا أنها وجدت من يتحدى آمالها ويتوعدها بالإخفاق، وعلى
رأس هؤلاء أحمد شاه مسعود الذي أقسم في تصريح علني بأن مشروع خط الأنابيب
الذي تتطلع إليه باكستان لن يرى النور!
3- من المعروف أن باكستان دولة تحكمها دائماً المؤسسة العسكرية، وأن
جهاز الاستخبارات الباكستاني هو الجهاز المتحكم في تحديد وتوجيه السياسة
الخارجية للدولة، وما مناصب الوزراء ورؤساء الوزارات إلا أدوات تنفيذية فقط.
ويتردد أنه كان هناك التقاء في المصالح بين هذا الجهاز الذي بلغ قوته في عهد
ضياء الحق، وبين جماعة (علماء الإسلام) ويُلحظ أن هذه الجماعة كان لها إشراف
مباشر على تعليم الطلاب الأفغان في معاهدها العلمية الباكستانية وهي التي دفعت
بالكثير منهم منذ أيام الجهاد لتلقي التدريب العسكري، وقد كانت السياسة الباكستانية
عبر العهود تتوافق بشكل تقليدي وتتلاقى مع الأغلبية (البشتونية) في أفغانستان،
وحركة طالبان هي في أغلبيتها بشتونية، ولهذا فإن الحكومة الباكستانية التي كانت
تدعم الحزب الإسلامي (البشتوني) بزعامة حكمتيار، لم تعد ترى فيه ما يحقق
سياستها، فسحبت تأييدها له، وأعطته لحركة الطالبان، ولكن ليس معنى ذلك أن
يقال: إن طالبان صنيعة باكستانية؛ فالتحالفات لا تعني التبعية في كل حال، وإلا
لكانت الأحزاب الأفغانية السابقة كلها بل باكستان نفسها صنيعة أمريكية غربية؛
لأنها تلقت دعماً غير محدود من الأمريكان والغرب طوال سنوات الجهاد ضد
الشيوعيين! ومن العجيب أن البعض يحلو له أن يردد أن حركة طالبان أنشأتها
(بنازير بوتو) ! ! وأنها أرادت بذلك أن تضرب الأحزاب المجاهدة، وهؤلاء
يتجاهلون الموقف الباكستاني الداعم دائماً للبشتون قبل أن تجيء بوتو للحكم؛ هذا
من جهة؛ ومن جهة أخرى يتجاهلون موقف بنازير المعلن في ازدرائها لحركة
طالبان! فكيف لبنازير ذات الأصول الشيعية ثم التوجهات العلمانية، أن تدعم
تمكين حركة سنية للوصول إلى الحكم في بلد مجاور؟ لقد كانت تلك المرأة تُظهر
دائماً وعلناً كراهيتها لحركة طلاب الشريعة، وقد سئلت وهي لا تزال في السلطة
عما يشاع عن دعم حكومتها لحركة طالبان فقالت: (طالبان تبقي النساء وراء أربعة
أبواب مقفلة؛ فكيف يمكن لزعيمة مثلي أن تساعدهم في الاستيلاء على السلطة؟)
(المشاهد السياسي 8/4/1995م) وقد قال متحدث باسمها للصحفيين: (لنتحدث
بصراحة: إن أسوأ نتيجة لنا هنا في باكستان هي أن تحقق حركة طالبان انتصاراً
في كابول وأضاف: ليس هناك باكستاني عصري يمكن أن يرحب بحكومة في
كابول تسجن النساء وتمنع الفتيات من الذهاب إلى المدرسة، وتنفذ عمليات إعدام
عامة ينقلها التليفزيون) ولعل هذا كان من بين أسباب تفاقم الخلاف بين بنازير وبين
مؤسسة الرئاسة، حتى انتهى الأمر إلى إقصائها.
فالحاصل هنا، أن باكستان يمكن أن تكون قد قدمت دعماً قوياً لطالبان، لكننا
على قناعة بأنها لم تصنعها؛ فلطالبان تحالفاتها، ولكن أيضاً لها خصوصيتها.
ثانياً: الولايات المتحدة الأمريكية:
التقت مصلحة الولايات الأمريكية مع مصلحة باكستان في ضرورة وجود
سلطة موحدة في أفغانستان تنشد الاستقرار، ولو كانت هذه السلطة هي حركة
طالبان؛ فالحكومة الموحدة يمكن التعامل معها ورسم السياسات بناء على مواقفها،
بخلاف المواقف المتعارضة لأحزاب متصارعة.
والولايات المتحدة أصبح لها مصالح في أفغانستان لا يمكن الوصول إليها إلا
بعد استقرار الأوضاع فيها. فمن المعلوم أن لأمريكا سياسة معلنه تجاه إيران،
تقضي بعزلها عن الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ولهذا أقلقها أن يكون لإيران نفوذ
في أفغانستان؛ لأن هذا النفوذ سوف يكون مدخلاً لنفوذ أعمق في جمهوريات آسيا
الوسطى. وازداد قلق الولايات المتحدة من التقارب الإيراني الروسي الذي أصبح
يهدد كل خططها في آسيا الوسطى؛ وقد تحول هذا القلق إلى خطر حقيقي عندما
اختارت الحكومة السابقة لبرهان الدين رباني الميل لجهة التعاون مع كل من إيران
وروسيا ضد باكستان؛ ولكل هذا قررت أمريكا أن تعود إلى أفغانستان لقطع
الخطوط على روسيا وإيران، ولم يكن أمامها لتحقيق هذا الهدف إلا باكستان، ولم
يكن أمام باكستان إلا طالبان، وهكذا تتلاقى المصالح وتتوافق الأهداف، وتتم سنة
دفع الناس بعضهم ببعض.
ولكن كلاً من باكستان وأمريكا، وجدتا في طالبان شريكاً مشاكساً، لا يُسلس
قياده بسهولة، فقلة التجربة التي يأخذها الكثيرون على قيادات طالبان تجعلهم يقفون
بصلابة مع قناعات ومبادئ ربما تسبب إحراجاً لمن يريد التحالف معهم. فطالبان
على ما يبدو تجاري الدولتين، وتريد أن تستفيد منهما دون أن تعطيهما كل ما أرادتا، وخاصة مع الولايات المتحدة، ومما يدل على إخفاق واشنطن في احتواء (طالبان)
أنها بذلت مساعي مبكرة ومطولة لإقناع قادتها بقبول عودة الملك السابق (ظاهر شاه)
إلا أن هؤلاء القادة رفضوا ذلك في النهاية بصراحة وشدة.
وقد أظهرت أحداث الغارتين الأمريكيتين على أفغانستان والسودان، أن النظام
الجديد في أفغانستان لم يكن تحت السيطرة الأمريكية، ولكن الأمريكيين الذين
يتخذون من (المصالح) دينآً وديدناً، يغلّبون في النهاية حكم المصلحة على حكم
المبادئ أياً كانت، ولن تقف دعاوى دعم الإرهاب أو انتهاك حقوق الإنسان حائلاً
دون توصل الأمريكيين إلى ما يريدون من المصالح.
لقد صارت أفغانستان حلقة بالغة الأهمية في الاستراتيجية الأمريكية للتغلغل
في آسيا الوسطى التي يعتبرها الأمريكان أرضاً بكراً غنية بالثروات، وخاصة
النفط والغاز، ولا يخفى أن الولايات المتحدة تسعى لإيجاد بدائل أو على الأقل
مصادر إضافية للطاقة المستمدة من الخليج، وقد شرعت أمريكا بالفعل في اتخاذ
خطوات عملية للسبق إلى هناك، وأبرمت شركة (أنوكال) الأمريكية اتفاقاً مع
حكومة تركمانستان (رابع منتج للغاز الطبيعي في العالم) لبناء خط أنابيب لنقل الغاز
من تركمانستان إلى الساحل الباكستاني على المحيط الهندي، باستثمارات تزيد على
3 مليارات دولار، وتنافس شركة (برايوس) الأرجنتينية شركة (أنوكال) الأمريكية
على هذا المشروع، ويقول القائمون على الشركة الأرجنتينية: إن إقامة خط
الأنابيب يمكن أن يعود على أفغانستان بما يقرب من 300 مليون دولار. وقال
مسؤول في الحكومة الأمريكية: (أوضحنا للأفغان بأن خط الأنابيب يمكن أن يدر
على الشعب الأفغاني دخلاً يعينه على إعادة إعمار بلاده) (الرأي العام 16/12/ 1997م) .
ويمر الخط المزمع إنشاؤه عبر مناطق خاضعة تماماً لسيطرة طالبان في غرب
أفغانستان؛ وجنوبها، ويفترض أن يكون ذلك الخط هو الأول في سلسلة من
خطوط أنابيب نقل الغاز والبترول من حقول آسيا الوسطى عبر طرق بعيدة عن
روسيا؛ وهو توجه يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتحقيقه بكل السبل، لفك أي
ارتباط لدول آسيا الوسطى بروسيا ورابطة الكومنولث عموماً، وكذلك حرمان إيران
من مجرد التفكير في إمكانية نقل بترول وغاز آسيا الوسطى عبرها إلى الأسواق
العالمية، وهذا يمكن أن يفسر لنا الموقف الأمريكي الحازم من إيران عندما حشدت
قواتها على حدود أفغانستان، فقد حذرتها تحذيراً شديد اللهجة من أي نوايا عسكرية
لغزو أفغانستان، هذا بالرغم من أن الغارة الأمريكية على أفغانستان لم يكن بينها
وبين ذلك التحذير الأمريكي إلا نحو أسبوعين فقط، مما يدل على أن الولايات
المتحدة تريد أن تفرض وصاية من نوعٍ ما على أفغانستان.
على أي حال، فإنه إضافة إلى المصالح الاقتصادية لأمريكا في أفغانستان،
فيمكن رصد أهداف ثلاثة أخرى تقف وراء التمرير الأمريكي لتمكين حركة طالبان
في أفغانستان، وهذه الأهداف هي:
1- الإمساك بورقة ضغط دائمة ومستقبلية ضد روسيا، وإيجاد مصدر إزعاج
لها على حدودها الجنوبية؛ فروسيا التي أركعها يلتسين لأمريكا والغرب، لا تزال
تمثل هاجساً للغربيين، فلا أحد يضمن استمرارها في حالة الخضوع والخنوع هذه،
خاصة وأن هناك تيارات سياسية قوية تدعو إلى العودة إلى الشيوعية.
2- استخدام الحكومة الأفغانية الجديدة لإثارة إزعاج آخر لإيران، استغلالاً
للتناقضات والاختلافات المذهبية والمصلحية والعرقية بين أفغانستان وإيران،
وإبقاءً على قنابل موقوتة على الحدود قابلة للانفجار في أي لحظة يريدها المستعمر
العالمي الجديد المتربع على قمة النظام الدولي الجديد.
3- استغلال (طالبان) في إبراز النموذج الإسلامي السياسي إعلامياً على وجه
مشوّه، وتقديمه على أنه الوجه الآخر للمشروع التغييري الإسلامي الذي يمثل السّنّة، في مقابل المشروع الإيراني الذي يمثل الشيعة.
ولهذا فإن أمريكا تريد أن تستغل طالبان دون أن تمكنها من أي نجاح، ولو
كان هذا النجاح هو الاعتراف بها كحكومة نجحت في توحيد البلاد حسبما تريد
أمريكا. قال (كارل أندرفورت) مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب
آسيا في حديث لصحيفة الحياة (17/1/1998م) : (إن واشنطن لن تعترف بحكومة
طالبان، حتى لو بسطت سيطرتها على كامل أفغانستان) ! ! ولا ندري.. ما هي
الصيغة التي تريد أن تتعامل بها أمريكا مع الحكم الجديد في أفغانستان وهي محتاجة
إليه ... هل تريد أن تتعامل معه على أنه مجرد (عصابة) تتفاوض معها وتتقاسم
معها الصفقات.. هل تريد أن تستنفد منها أغراضها ثم تقلب لها الطاولة على
طريقة الكاوبُوي الأمريكي؟ !
الظاهر أن الأمريكيين قد بلغوا في بغضهم للإسلام حداً جعلهم يحارون في
الاختيار بين الفعل ونقيضه؛ فهم يؤيدون الطالبان لمصالحهم، ولكنهم لا يطيقون
أفغانستان تُحكم بالإسلام، لقد بدت تلك البغضاء من أفواههم على لسان (مادلين
أولبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية في تصريح أدلت به في منتصف نوفمبر
1997م فقالت: (حركة طالبان موضع للازدراء، بسبب ممارساتها في مجال
حقوق الإنسان ومعاملة المرأة) !
ثالثاً: روسيا:
القلق الروسي من سيطرة طالبان على أفغانستان ليس له حدود، ويرجع هذا
القلق إلى تخوّف روسيا من محاولة الحكومة الأفغانية الجديدة مدّ نفوذها إلى
طاجيكستان التي يحكمها نظام موال لموسكو، والتي يقوم الجنود الروس بدوريات
مستمرة لحماية حدودها مع أفغانستان، وكان مستشار الأمن القومي الروسي السابق
الجنرال (ألكسندر ليبيد) قد أعلن أن بلاده ستظل تساند حكومة رباني المخلوعة،
وبعد استيلاء طالبان على كابول دعا الرئيس الروسي (يلتسن) إلى عقد قمة طارئة
لرؤساء جمهوريات آسيا الوسطى، وبالفعل عقدت القمة في (ألما آتا) عاصمة
قزخستان السابقة، وطرح رئيسها (نور سلطان باييف) مبادرة لإعادة الاستقرار إلى
أفغانستان عن طريق دعم الفئات المتنازعة المعارضة لطالبان! لكن تظل روسيا
من أكثر البلاد قلقاً من انتصارات طالبان في أفغانستان؛ فهي تعتبر تلك
الانتصارات مداً (أصولياً) على حدودها الجنوبية، خاصة وأن هناك في
الجمهوريات المحيطة بروسيا حالات من الحماس الديني المشابه لحماس (طالبان)
وتخشى أن يتحول يوماً إلى جهاد، بل إن يلتسن عبر عن مخاوفه من أن يكون ما
يحدث في أفغانستان دافعاً لتحركات (أصولية) داخل الحدود الروسية نفسها، وذكر
أن الجبهة الطاجيكية تمثل الحدود الوطنية لروسيا بسبب استمرار التهديدات من قبل
المقاتلين الإسلاميين.
(التايمز 8/10/1996م)
وتصل التوجسات الروسية من التغيرات في أفغانستان إلى حد الندم على ترك
النظام الشيوعي السابق وحده ليواجه مصيره المحتوم، وقد عبر عن ذلك (أرتيوم
بورفيك) الذي كان من أشهر المراسلين الروس في حرب أفغانستان بقوله: (لقد
ارتكبنا خطأ كبيراً لانسحابنا من أفغانستان، وها نحن الآن نواجه بعدد من الدول
ذات النهج الأصولي على مقربة من حدودنا، وأصبحت تشكل خطورة على روسيا
نفسها.
(التايمز: 8/10/1996م)
رابعاً: إيران:
لم يحدث في تاريخ ثورة الروافض أن فضحت نواياهم الباطنية الحاقدة بمثل
ما حدث في الآونة الأخيرة، عندما صعّدت إيران وتيرة العداء لحكومة أفغانستان
الجديدة؛ فإيران تحب أن تكون الحكومة في أفغانستان على الدوام حكومة ضعيفة
يمكن السيطرة عليها، أو النفاذ من خلالها إلى خدمة مآربها ومخططاتها. لقد
استنفدت إيران جهودها لفرض الوصاية على الجهاد الأفغاني أيام الحرب مع
الشيوعيين، ولما لم تفلح في هذا أرادت أن تضمن لعملائها وجوداً بارزاً في
حكومات ما بعد الحرب، فلما لم تفلح أرادت أن تبقي لها مراكز قوية تعمل لحسابها
داخل أفغانستان، فلما رأت من حركة طالبان صداً لتسللها ورداً لأطماعها..
جاهرت بالعداء، وأمدت أعداء الحركة الناشئة بكل الأسباب المعينة على مواجهتها
وإسقاطها، وقد ضاعف من ثوران أحقاد إيران أن حركة طالبان أفسدت عليها كل
مخططاتها التآمرية في أفغانستان؛ سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو مذهبية، مما
دعاها إلى تبني كل جهد معارض لهذا العدو الجديد (طالبان) . لقد لعبت إيران الدور
الأخطر في إقامة التحالف المناهض لحكومة طالبان، وهي التي شجعت كلاً من
دوستم وأحمد شاه مسعود على توحيد صفوفهما لتشكيل مجموعة (الدفاع) عن
أفغانستان (ضد من؟) ولم تكتف حكومة (الثورة الإسلامية) في طهران بذلك، بل
نسقت جهودها مع الهند وروسيا وأوزبكستان لإجهاض المشروع الهادف إلى توحيد
أفغانستان، زاعمة أن قيام حكومة طالبان في أفغانستان ستمثل نموذجاً يشوه صورة
الإسلام في العالم! ! وكأن الناس في هذا العالم قد تلقوا بالقبول نموذجها
(الحضاري) القائم على بث الفتن هنا وهناك. ولكن إيران المتواطئة مع الهندوس
والروس ضد جيران مسلمين، لم يشف غليلها كل هذا، فاستغلت أحداث (مزار
الشريف) لتتخذ منها ذريعة للكشف عن أنياب البغي والعدوان، فإيران التي ظلت
تندد بالتدخل الباكستاني في أفغانستان، كان لها في مزار الشريف وجود ظاهر
مفضوح، طالما ظلت تخفيه وتنكره، وجاء فتح مزار الشريف ضربة عنيفة لإيران، حيث كانت تدفع بالمساعدات لمعارضي طالبان عن طريق مطار مزار شريف،
ثم جاءت الضربة الأعنف بفتح (باميان) معقل حزب الوحدة الشيعي في أفغانستان،
لقد استغلت طهران واقعة قتل تسعة إيرانيين في مزار الشريف [1] فقامت بأكبر
تظاهرة عسكرية على حدودها الشرقية منذ قيام الثورة عام 1979م بل قبل قيام تلك
الثورة، فبعد مناورة استعراضية للإرهاب، حشدت إيران نحو مئتي ألف من
جنودها على الحدود الأفغانية، وهو إجراء لا يتناسب مطلقاً مع مشكلة لها ألف حل
وحل بالطرق الدبلوماسية، التي يمكن أن تكون إيران استفادتها من قضية احتجاز
الرهائن الدبلوماسيين الأمريكيين لمدة 444 يوماً إبان قيام ثورتها.
إن كل هذا الثوران والفوران الإيراني، لم نره، ولم نر عشر معشاره، أيام
كانت أفغانستان خاضعة لحكومة إلحادية تحارب الإسلام علناً؛ فإيران (الثورة) لم
تثر على الوجود الشيوعي، ولم تنظر إلى الاتحاد السوفييتي أو الاتحاد الروسي من
بعده على أنه شيطان أكبر ولا أصغر، ولكن ثورة (المستضعفين) تستأسد اليوم على
(إمارة) ناشئة لا يزال العالم يضن عليها بوصف (حكومة) بل لا زالت تسمى حركة!
إن إيران قد تُدفع تحت وطأة غشم القوة وغبش الرؤية إلى التورط في
أفغانستان إما بالتدخل المباشر وإما بالقصف الجوي على الطريقة الأمريكية، ولكن
هذا إن حدث، فسوف يكون نوعاً من الانتحار؛ وقد تدق الثورة (الشيعية) في
نعشها مسماراً كذاك الذي دقته الثورة (الشيوعية) ليضم رفاتهما معاً في إحدى
جبانات التاريخ. ومن يدري؟ ألم يكن سقوط الدولة (الصفوية) الشيعية عام 1148هـ /1735م على أيدي الأفغان؟ وربما تخدم إيران حركة الطالبان من حيث تريد
الإضرار بها، فإن شدة التحديات غالباً ما تقوي عود الحركات، وتجمع حولها
الشعوب، حتى لو لم يكن لها ذلك القبول الشعبي الواسع. والثورة الإيرانية نفسها
هي مثال بارز على ذلك، فقد عركتها وقوّتها تحديات ومغامرات صدام حسين
عندما بادرها بالحرب بعد قيامها.
إن المرء وهو يطالع التحديات الجسيمة التي تواجه تلك الحركة الإسلامية
الجديدة في أفغانستان، يضع يده على قلبه خوفاً من توريطها في مواجهات أكبر من
حجمها، فيتكرر بذلك إخفاق آخر لا قدر الله في مسيرة التطلع إلى الخلاص، ولا
يسع المراقب المسلم وهو يرى شجاعة يخالطها صدق ودين لدى شباب (طالبان) إلا
أن يدعو الله تعالى أن يقيلهم عثرات الطريق، ويقيهم وعثاءه وعناءه؛ فإن ما
قطعته طالبان من شوط لتوحيد أراضي أفغانستان، لا يزال وراءه أشواط وأشواط
لتوحيد صفوف الأفغان بمختلف أعراقهم ومذاهبهم تحت راية التوحيد الخالص،
وعليهم أن يستفيدوا من أخطاء الأحزاب السابقة التي لم تعط لسلامة العقيدة وبنائها
وتصحيحها حظاً وافياً من جهودها في الداخل وتحالفاتها في الخارج، وعلى طالبان
أيضاً أن تحذر من تجذر الصراع على أسس قبلية، مما يطيل أمد النزاع دون طائل، خاصة في ظل التدخلات الخارجية، ويُطلب من طالبان ألا تستدرج إلى صِدام
مدمر مع إيران؛ فالضرورة تحتم عليها أن تتعامل مع الوجود الشيعي في أفغانستان
بحكمة، حرصاً على حقن الدماء في غير ما قضية، فمن حق الشعب الأفغاني الذي
جاهد طويلاً أن يذوق طعم الاستقرار، وينعم بثمرة الانتصار.. ولن يكون هذا إلا
بإقامة الدين الذي جاهد الشعب الأفغاني من أجله، بعيداً عن الأهواء القبلية،
والمذاهب البدعية: [الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: 41] .
وإلى بقية في لقاء قادم إن شاء الله،،،