مجله البيان (صفحة 2902)

دمعة على الإسلام (اقتباس)

ملفات

(القبور والأضرحة دراسة وتقويم)

دمعة على الإسلام

مصطفى لطفي المنفلوطي [1]

كتب إليّ أحدُ علماء الهند كتاباً يقولُ فيه إنه اطلع على مؤلف ظهر حديثاً بلغة

(التاميل) ، وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مدراس، موضوعه:

تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني، وذكرُ مناقبه وكراماته، فرأى فيه من

الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب السيد عبد القادر ولقّبه بها صفات وألقاباً

هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة، فضلاً عن مقام الولاية كقوله: (سيد

السموات والأرض) و (النفّاع الضرّار) و (المتصرّف في الأكوان) و (المطلع على

أسرار الخليقة) و (محيي الموتى) و (مبرئ الأعمى والأبرص والأكمه) و (أمره من

أمر الله) و (ماحي الذنوب) و (دافع البلاء) و (الرافع الواضع) و (صاحب الشريعة)

و (صاحب الوجود التام) إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب [2] ! ويقول

الكاتب: إنه رأى في ذلك الكتاب فصلاً يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن

يتكيّف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني يقول فيه: (أول ما يجب على

الزائر أن يتوضأ وضوءاً سابغاً، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجّه

إلى تلك الكعبة المشرفة، وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول:

(يا صاحب الثقلين، أغثني وأمدّني بقضاء حاجتي وتفريج كربتي. أغثني

يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر،

أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خوجة عبد القادر) .

(يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبد القادر الجيلاني، عبدك ومريدك

مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة) .

ويقول الكاتب أيضاً: إن في بلدة (ناقور) في الهند قبراً يسمى (شاه الحميد)

وهو أحد أولاد السيد عبد القادر كما يزعمون وأن الهنود يسجدون بين يدي ذلك

القبر سجودَهم بين يدي الله، وأن في كل بلدة من بلدان الهنود وقراها مزاراً يمثل

مزار السيد عبد القادر، فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد،

والملجأ الذي يلجأون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خدمته

وسدانته، وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض لصاروا أغنياء.

هذا ما كتبه إليّ ذلك الكاتب؛ ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى

دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أُبصرُ مما حولي شيئاً

حزناً وأسفاً على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام نكروه بعدما عرفوه، ووضعوه

بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها!

أيّ عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرةً واحدةً من الدمع، فلا تريقُها

أمام هذا المنظر المؤثر المحزن، منظر أولئك المسلمين، وهم ركّع سجّدٌ على

أعتاب قبر ربما كان بينهم من هو خيرٌ من ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك

بعد مماته!

أي قلبٍ يستطيعُ أن يستقرّ بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعاً

حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله؛

وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة، وكثرة المعبودات!

لِمَ ينقُمُ المسلمون التثليث من المسيحيين؟ لِمَ يحملون لهم في صدورهم تلك

الموجدة وذلك الضغن؟ وعلامَ يحاربونهم؟ وفيم يقاتلونهم وهم لم يبلغوا من الشرك

بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟

يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة، ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن

العقل، فيتأولون فيه، ويقولون إن الثلاثة في حكم الواحد. أما المسلمون فيدينون

بآلاف من الآلهة، أكثرها جذوع أشجار، وجثث أموات، وقطع أحجار، من حيث

لا يشعرون!

كثيراً ما يضمر الإنسان في نفسه أمراً، وهو لا يشعر به، وكثيراً ما تشتمل

نفسُه على عقيدة خفية لا يحس باشتمال نفسه عليها. ولا أرى مثلاً لذلك أقرب من

المسلمين الذين يلتجئون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور ويتضرعون إليهم

تضرعهم للإله المعبود، فإذا عتب عليهم في ذلك عاتب، قالوا: إنا لا نعبدهم،

وإنما نتوسل بهم إلى الله، كأنهم يشعرون أن العبادة ما هم فيه، وأن أكبر مظهر

لألوهية الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين خاشعين، يلتمسون إمداده

ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون.

جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم

الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رِقّ العبودية، فلا يذل

صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان

إلا بالحق والعدل. وقد ترك الإسلامُ بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في

نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغَيْرة،

يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده: قف مكانك،

ولا تغلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود، واعلم أنه لا

إله إلا الله.

هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد. أما اليوم وقد داخلَ

عقيدتَهم ما داخلَها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى، فقد ذلت رقابهم وخفقت

رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا

إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا

عليهم نفوسهم، وأموالهم، ومواطنهم، وديارهم، فأصبحوا من الخاسرين.

واللهِ، لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم

من سعادة الحياة وهناءتها، إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه، أقرب من رجوع

الإسلام إلى سالف مجده، ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين

يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: (أنت المتصرف في الكائنات، وأنت

سيد الأرضين والسموات) .

إن الله أغيرُ على نفسه من أن يسعدَ أقواماً يزدرونه، ويحتقرونه، ويتخذونه

وراءهم ظهرياً؛ فإذا نزلت بهم جائحة، أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر قبل أن

يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه.

بمن أستغيث؟ وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعوه لهذه الملمة الفادحة؟ أأدعو

علماء مصر وهم الذين يتهافتون على (يوم الكنسة) [3] تهافُتَ الذباب على الشراب؟ أم علماء الآستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني [4] فيلسوف الإسلام

ليحيوا أبا الهدى الصيّادي شيخ الطريقة الرفاعية؟ أم علماء العجم وهم الذين

يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام؟ أم علماء الهند وبينهم أمثال

مؤلف هذا الكتاب؟

يا قادة الأمة ورؤساءها! عَذَرْنا العامة في إشراكها، وفساد عقائدها، وقلنا:

إن العامي أقصر نظراً، وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة

في النصب، والتماثيل، والأضرحة والقبور؛ فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرأون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى: [قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ] [النمل: 65] . وقوله مخاطباً نبيه: [قُل لاَّ

أََمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَراً] [الأعراف: 188] . وقوله: [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ

قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إنَّ اللَّهَ

سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ] [الأنفال: 17] ؟

إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم: (كل خير في اتباع من

سلف، وكل شر في ابتداع من خلف) فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا

يجصصون قبراً، أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر

النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته، يسأله قضاء حاجة، أو تفريج هم؟

وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم

وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟

وهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما نهى عن إقامة الصور

والتماثيل، نهى عنها عبثاً ولعباً، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟

وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منها يجر إلى

الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟

واللهِ، ما جهلتم شيئاً من هذا ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة، فعاقبكم

الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون

أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015