محمد العبدة
على ضوء هذا التفسير الإسلامي للتاريخ [1] يجب أن نفهم تاريخنا، فهو في
جانب من جوانبه جزء من التاريخ العام للبشرية، ينطلق عليه ما ينطلق على الأمم
الأخرى من سنن نشوء المجتمعات وارتقائها، أو انحطاطها وتخلفها، ويخضع
للعقوبات الإلهية التي تحل بأهل المعاصي والذنوب وأهل البطر والترف.
وفي الجانب الآخر له مميزاته وخصائصه، فهو مثلاً أقرب للصحة من غيرة، وذلك لارتباط نشأته بتدوين سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته وهذا
مرتبط بدين هذه الأمة، فكانت العناية بصحة الأخبار ودقتها قد وقع فيه التشويه
والروايات وهذا التشويه من السهولة بمكان كشف زيفها، ثم إن ظروف نشأة الأمة
وعوامل تكونها، والرسالة التي تحملها وترى أن من أوجب الواجبات نشرها
وتبليغها للأمم الأخرى، كل هذا يجعل لكل أمة خلفيات معينة تساعد على فهم
تاريخها، فالدارس لتاريخ أوربا الحديث لابد أن يستحضر الحروب الصليبية
وأثرها على الغرب النصراني عندما احتك لأول مرة بالحضارة الإسلامية.
إن ذكر مميزات تاريخ أمة أو خصائص هذه الأمة لا يعني بحال النظرة
الفوقية المرضية كما وصف القرآن الكريم الأمم السابقة عندما قالوا: [نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ] [المائدة 18] [وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى]
[البقرة 111] ، ولكننا نصف واقعاً قد وجد، ونتكلم عن تاريخ أمة مسلمة مؤمنة قد
نشأت، والذي ينكر هذا، ويريد أن يبدأ من الشك والهدم أو ينظر إلى هذه الأمة من
خلال نظرياته التاريخية، أو ينظر إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- كرجل
عبقري وحدّ أمة وأقام دولة، ويسمي هذا (نظرة حيادية) إلى أمثال هؤلاء لا نملك
إلا أن نقول: [ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا] [البقرة 148] وهل تريدون باسم
الحيادية أو الموضوعية أن تهدموا تاريخنا أم تريدون أن نهضم حقوقنا! ونحن إنما
نكتب لدارس يحب الحقيقة أو لمسلم يريد التعرف على تاريخه.
بعض خصائص هذه الأمة:
أولاً: إن أولى هذه الخصائص أنها أمة انبثقت فجأة ومن خلال (كتاب) وهو
القرآن الكريم، الذي شكلها وصاغها أثناء تنزله لمدة ثلاثة وعشرين سنة، ومن
خلال القدوة محمد صلى الله عليه وسلم وجيل الصحابة الذي رباه في كنفه، هذه
الأمة لم تمر بأدوار وأحقاب متطاولة حتى استقرت على ما هي عليه وأنتجت
حضارة هي الحضارة الإسلامية وإنما نشأت في بيئة عذراء، ومن قبائل هي أقرب
للفطرة من الشعوب المجاورة ثم صاغها الوحي فخرجت زرعاً [يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ] [الفتح 29] هذه النبتة الأصيلة قد استعصت على مؤرخ ك
(توينبي) أن يجد لها حلاً أو تفسيراً فحاول متعسفاً أن يرجعها إلى ما أسماه بـ
(المجتمع السوري) أو العنصر الآرامي الذي بلغ أوجه في عهد سليمان (عليه
السلام) واعتبر أن المجتمع الإسلامي هو وليد هذا المجتمع (السوري) هذا التحليل
العجيب قد يعذر فيه توينبي لأنه لا يريد أن يفهم كيف تتكون أمة وتنشأ من خلال
(كتاب) ، بينما نرى نحن أن هذا النشوء السريع والقوي الذي تشكل بالوحي ورجل
الفطرة هو الذي يفسر لنا أسباب الصراع الطويل بين مفهوم الدين كما فهمه العربي
في الحجاز والجزيرة العربية يومها، وكما فهمه العلماء المحدّثون بعد ذلك، وبين
الذين التقطوا مخلفات الفرس واليونان حين دخلت على هيئة (علم الكلام)
و (الصوفية) و (أبهة الملك) وزاحمت بساطة الإسلام وصفائه، وهو الذي يفسر لنا
تلك المحاولات الماكرة والمستمرة من أعداء الإسلام للانحراف به يمنة أو يسرة مرة
باسم التطور والحداثة، ومرة باسم التعقل، وأخرى باسم التأويل، لأنهم يريدون أن
يتلاعبوا بالقرآن كما تلاعب النصارى بأناجيلهم ويغيظهم كثيراً أن يبقى الإسلام
حتى اليوم واضحاً كما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- كما بغيظهم أنه لا
توجد أمة من أمم الأرض اليوم تستطيع أن تكون مستقلة في عقائدها وتشريعاتها
وكل أنماط حياتها مثل الأمة الإسلامية، فهي تملك شخصية مستقلة في كل شؤون
حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا ما لا يريده الغرب والشرق
المتسلط على الشعوب، المغرور بقوته وعلمه.
هذه الحقيقة جعلت (توينبي) يذكرها مادحاً - وقلما يمدح الإسلام - يقول
ذاكراً التحدي الشيوعي الذي يواجه المجتمع الغربي:
(وبفرض انتصار الشيوعية على الرأسمالية انتصاراً عالمي الطابع، لا يعني
هذا انتصار ثقافة أجنبية، طالما أن الشيوعية - عكس الإسلام - تستمد أصولها من
مصادر غربية - باعتبارها - يقيناً - رد فعل ضد الرأسمالية الغربية التي ... تحاربها) [2] .
والذين يزعمون أنهم يملكون شخصية مستقلة مثل الهنادكة الذين يقدسون
غاندي، هم في الحقيقة أسرى الحضارة الغربية، يقول توينبي: (ومن ثم نجد
غاندي ينشئ حركة سياسية ذات برنامج غربي مداره تحويل الهند إلى دولة مستقلة
برلمانية ذات سيادة) [3] والحقيقة أن الثقافة الغربية تهيمن على أكثر شعوب
الأرض ولا ينجو منها إلا من يملك مقومات الثقافة المتكاملة والتصور الشامل
المخالف لثقافة الغرب والذي لا يتحقق وجوده إلا في الإسلام.
ثانياً: وهي أمة غير متقطعة ومستمرة بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، فهي لا تضعف في جانب إلا وتقوى في آخر ولا تهزم في ناحية إلا
وتنتصر في ناحية أخرى. واستقراء التاريخ الإسلامي يؤيد هذا، فعندما ضعفت
الدولة العباسية ظهر السلاجقة في خراسان وأنقذوا الخلافة من سيطرة الباطنيين،
وكان من آثارهم بعدئذ السلطان العادل نور الدين محمود الذي تصدى للهجمة
الصليبية على بلاد الشام، كما ظهر الغزنويون في الأفغان والهند، وكان مؤسس
الدولة محمود الغزنوي من السلاطين الذين يحبون العلم والجهاد في سبيل الله،
وعندما ضعف الإسلام في المغرب وفي مصر ظهر صلاح الدين الأيوبي
واستعصت القسطنطينية على الأمويين ولكنها استسلمت للعثمانيين الذين حققوا
بشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفتحها، وعندما أخرج المسلمون من
الأندلس كان الإسلام قد انتشر بواسطة الدعاة في وسط أفريقيا وفي جزائر إندونيسيا.
وإذا كانت قوى الشر قد تكالبت على المسلمين في العصر الحديث، وكالت
لهم ضربات شرسة، فإننا نرى كيف يظهر الإسلام ويقوى في أماكن لم يكن
أحد يتوقع أن يظهر فيها، كل هذا تحقيقاً لدعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت عنه أنه قال: «سألت الله فيها ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» [4] .
ثالثاً: وهي أمة متجددة موعودة بأن يقيض الله لها دائماً علماء أو أمراء
يجددون لها أمر دينها، يقيمون العدل وينشرون العلم ويبعثون السنن كما جاء في
الحديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها ... دينها» [5] .
وفى الحديث الآخر: «مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله» [6] وقد ظهر من العلماء والأفراد في كل عصر ما يحقق هذه البشارة كالأئمة
الأربعة، وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأبي داود وأمثالهم من أئمة الفقه والاجتهاد
في كل عصر كما ظهر فيها من الخلفاء والملوك من يجاهد في سبيل الله ويحب
العلم ويقيم العدل، ومن يراجع كتب التاريخ والتراجم فسيجد هذه النماذج دالة على
ما ذكرنا، وإذا كان العلم قد ضعف في القرون المتأخرة فقد وجد من السلاطين من
كان همه الدفاع عن العالم الإسلامي وحمايته من الأخطار الخارجية، وإن كنا ... لا نبرر تقصيرهم في نشر العلم، ومع ذلك فإن هذا الضعف العلمي تلاه في العصر الحديث نهضة علمية إسلامية طيبة، ووجد من العلماء ما يذكرنا بعصر ازدهار العلم في القرون الأولى، ومن عجائب القرآن أننا نجد في كل عصر من يستخرج منه فوائد جديدة لم تخطر علي بال السابقين، وهذا من بركة هذه الامة.
ومن هذه الزاوية فإننا نخالف الأستاذ مالك بن نبي عندما قسمّ التاريخ
الإسلامي تقسيماً حاداً وكأننا في معمل كيمياء أو في غرفة رسم هندسي، إذ قسمّ هذا
التاريخ إلى ثلاث مراحل: المرحلة الروحية وتنتهي عند معركة صفين، والمرحلة
العقلية وتنتهي في عصر دولة الموحدين في المغرب، ومرحلة الغرائز وهي ما بعد
الموحدين وحتى العصر الحديث، إن هذا التقسيم وبهذا التعميم، يلقي ظلالاً سوداء
حول الفترة التي يسميها (ما بعد الموحدين) كما يغفل عن فكرة التجديد الدائم،
فينطبع في ذهن القارئ أن فترة طويلة جداً من التاريخ الإسلامي هي فترة انحطاط
وتخلف، لا تحمل ماءاً ولا تنبت كلأ ونحن نقول إن عوامل الضعف بدأت تنخر
في الأمة الإسلامية من قبل عصر الموحدين إلى أن وصلت إلى ذروتها في نهاية
الدولة العثمانية، فالخط العام يسير نحو الضعف وإن كانت الدولة العثمانية في
مراحلها الأولى كانت دولة إدارية عسكرية من الطراز الأول، والبعث العلمي الذي
بدأ في بعض الأقطار الإسلامية وكذلك الحركات المجددة - مثل دعوة الشيخ محمد
بن عبد الوهاب - إنما ظهرا إبان ضعف الدولة العثمانية، فالخير مستمر، بإذن الله، والطائفة التي معها الحق هي في الأمة الإسلامية، وليس هناك طائفة في أمة من
الأمم اليوم تحمل ميراث الحق، ميراث النبوة غير هذه الطائفة.
رابعاً: وهي أمة منتخبة لا تجتمع على ضلالة، كما جاء عند عبد الله بن
عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لا
يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار» [7] .
أما الأمم الأخرى فقد تجتمع على ضلالة كإجماع الأمم النصرانية على
تحريف الكتاب وتبديله واختراع البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان والأمة
الإسلامية إذا وقع فيها شيء من هذا الانحراف فسنجد عشرات بل مئات من العلماء
من يتصدون له، منافحين عن نقاء الشريعة، فهي من هذا الجانب - ورغم ما وقع
فيها من الضعف والتفرق - من أعقل الأمم وأسلمها إذا ما قورنت بما تفعله الأمم
الأخرى من سخافات وضلالات في حياتهم الخاصة والعامة، والتقدم العلمي الذي
أحرزه الغربيون لم يحصنهم من الوقوع في تخبط وصراع في حياتهم الاجتماعية
والفكرية، وما تفعله الأمم الوثنية أعجب وأعجب، وإذا كان النقص قد وقع في
القرون المتأخرة فلا شك أن القرون الأولى هي من خير الأمم كما ثبت عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم
الذين يلونهم» [8] .
وهذا الفضل في الدنيا له مثيل في الآخرة فإن أجر الأمة الإسلامية ضعفا أجر
الأمم الأخرى كما جاء عند عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم على المنبر يقول: «إنما بقاؤكم فيمن
سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة
التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي
أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم
أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل
الكتابين: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً،
ونحن كنا أكثر عملاً قال الله عز وجل:» هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء « [9] .
هذه الخصائص لابد من ذكرها، حتى لا نبخس الناس أشياءهم، ففي غمرة
السرد التاريخي قد يغمط أصحاب الفضل فضلهم، وربما بدعوى عدم التحيز، أو
التظاهر بالحياد.
وإذا كانت هذه الخصائص تعطي بعض الضوء لفهم التاريخ الإسلامي ضمن
الأطر العامة، فإن المتأمل لهذا التاريخ سيجد أمامه أحداثاً هامة وظواهر خاصة هي
معالم في طريق الباحث والدارس تساعد على فهم أعمق ووضوح أكثر وهو ما يأمله
كل مسلم يبحث عن الماضي ليبني الحاضر والمستقبل، وهذا ما سنتكلم عنه في
العدد القادم إن شاء الله تعالى.
*يتبع*