ندوات ومحاضرات
ندوة عن:
(هويتنا الإسلامية)
بين التحديات والانطلاق (الحلقة الأخيرة)
إعداد: وائل عبد الغني
بعد استعراض ماهية (الهوية) وأهميتها تناول ضيوف الندوة الكرام نظرة
أعداء الأمة إلى هويتنا وأساليبهم في محو الهوية الإسلامية لاستبدال التغريب بها،
فكان من هذه الأساليب: التعليم، والإعلام، وخدعة الديمقراطية والتحرر،
والتدخل بذريعة التنمية، وحوار الأديان.. ثم طرحت على مائدة النقاش بعض
النقاط التي تمثل إطاراً للخروج من هذا المأزق.. وفي الحلقة الأخيرة هذه يستكمل
الضيوف ما تبقى من جوانب الموضوع. ... ...
... - البيان -
* كان لا بد لنا من التفصيل فيما سبق من النقاط تفسيراً يجلي خطرها وأثرها.
ولما تشعّب بنا الحديث نريد أن نخلص إلى نتائج مجملة.
نريد من والدنا الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً، أن يلخص لنا أهم النتائج
والتحديات.
د/ مصطفى:
بعد اجتياح العالم الإسلامي من قِبَلِ الاستعمار العسكري، نجد أن الغرب
الظافر لم يضيّع وقته؛ بل أسرع في اهتبال كارثة إلغاء الخلافة على يد أتاتورك
اليهودي الدونمي، وجهّز جيوش الغزو الثقافي بطريقة تفوق نجاحه في الغزو
العسكري؛ إذ استغل تفوقه العلمي والتكنولوجي، وامتلاكه لزمام السلطة بحكم
احتلاله العسكري وتجنيده لضعاف النفوس، والمنافقين، وأتباع كل ناعق؛ لكي
يسرع الخطا بالمجتمعات الإسلامية، للسير وفق فلسفته وقيمه وعاداته، وليسلبها
هويتها الخاصة التي تكمن فيها عناصر المقاومة.
كذلك استفاد من صدمة الهزيمة النفسية للأمة، فاستغلها، مستفيداً من تحليل
ابن خلدون لهذه الحالة التي أفرد لها فصلاً خاصاً بمقدمته بعنوان: (أن المغلوب
مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره، وزيّه، ونحلته، وسائر أحواله) .
وقد تعددت مسالك الغزو الثقافي وتفنن خبراء الاستعمار في تنويع أدواته،
ومن واجبنا الاعتراف بأنه نجح في قطف ثمار ما غرسه بأناة وصبر طوال
عشرات السنين؛ ونكتفي باستعراض أهم (قذائف) الغزو الثقافي:
أمسك الاستعمار بنظام التعليم لتخريج أجيال ضعيفة العقيدة ومفتونة بحضارة
الغرب وفلسفته، وهو ما أفصح عنه المستشرق الإنجليزي (جب) : (إن الهدف
الرئيسي من التعليم المدني (بعد عزل التعليم الديني) ، هو صبغ حياة المسلمين
الفكرية، والاجتماعية، والأخلاقية بصبغة مسيحية غربية) .
وعمّق الغرب الخلافات بين الأمة، بإحياء حضارات ما قبل الإسلام
(فرعونية، وآشورية، وبربرية، وفينيقية) ، مع إظهار أي دعوة إلى التمسك
بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر!
وأبعد الشريعة الإسلامية، وأجبر المجتمعات على تطبيق القوانين الوضعية
الغربية، وهي قوانين تخالف أخلاق المسلمين وأعرافهم الاجتماعية، فضلاً عن
مخالفتها لدينهم وشريعتهم.
وحارب اللغة العربية الفصحى؛ مشجعاً اللهجات العامية؛ لتفقد الأمة صلتها
بالقرآن الكريم، ويزداد تمزقها.
وكانت هناك أيضاً حروب علمية وفكرية، شنها المستشرقون على المسلمين، وتظهر على أيديهم، وأيدي تلامذتهم والمعجبين بأفكارهم المروّجين لمفترياتهم،
فضلاً عن ترويج المذاهب الفلسفية، التي ارتبطت باليهودية أمثال (الماركسية)
و (الوجودية) وآراء (فرويد) في علم النفس، وبعض آراء (دوركايم) في علم ...
الاجتماع.
وحدّث ولا حرج عن نشر الخمور، والمخدرات، ودور البغاء، والقمار،
والأفلام الجنسية الفاضحة، وكل ما من شأنه إفساد الأخلاق، وإشاعة التفسخ
والانحلال، كمعاول هدم في كيان المجتمعات الإسلامية.
وما زلنا نعاني من وسائل الإعلام التي بدأت بطريقة متواضعة باصطناع
الجرائد والمجلات التي تخدم المستعمر، وتهيئ الأذهان لقبوله والرضا بحكمه، ثم
تطورت هذا التطور المذهل الذي أصبح يغزونا في عقر دارنا، بالقنوات الفضائية
التي لا يكاد يصدّها حاجز، حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه!
قراءة مستقبلية:
* هل ستعود إلى المسلمين هويتهم التي هي مناط عزّهم ومجدهم؟
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
نعم، كما وعدنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: [هُوَ
الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
[التوبة: 33] ، وقال رسول الله: ( ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) [1] ،
وقد بيّن الله هوية الذين سيسلطهم على اليهود، إن عادوا إلى الإفساد في الأرض:
[بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَاًسٍ شَدِيدٍ] [الإسراء: 5] ، وأخبر -صلى الله عليه
وسلم- أن (الهوية الإسلامية) ستكون هي هوية الذين يقاتلون اليهود، حتى إن
الحجر والشجر ليقول: (يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله) [2]
الحديث، فالإسلام وعبادة الله وحده هو مفتاح النصر والتمكين.
أما شعارات الدجاجلة الذين بدلوا نعمة الله كفراً، والذين هم من جلدتنا
ويتكلمون بألسنتنا، فهؤلاء ستجرفهم سنة الله: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] [الرعد: 17] ، فما هؤلاء الضالون المضلون،
من دعاة التغريب والقومية والعلمانية.. إلخ سوى (فقاقيع) ، سنحت لها الفرصة
لتطفو على السطح، ثم تتلاشى كأن لم تكن، وسينتصر الإسلام رغم أنف الجميع.
إن العالم الإسلامي هو الآن الأجدر بالوصاية على المجتمع البشري، بعد
انسحاب الأديان الأخرى من معترك الحياة، وبعد انهيار الشيوعية الملحدة، وإفلاس
الغرب المادي من القيم الروحية السامية.
قصّ الأستاذ يوسف العظم؛ أن وزير الحرب اليهودي (موشي دايان) ، لقي
في إحدى جولاته شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب، في حيٍ من أحياء قرية
عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن
يصافحه، وقال له: (أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن
يوم الخلاص منكم، لا بد آتٍ بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول: (لتقاتلن اليهود،
أنتم شرقي النهر، وهم غَربِيّه) ، فابتسم (دايان) الماكر وقال: (حقاً! سيأتي يوم
نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً.. ولكن متى؟) ،
واستطرد اليهودي الخبيث قائلاً: (إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه،
ويقدر قيمه الحضارية..
وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة،
وينتهي حكم إسرائيل) .
* استعادة هوية الأمة فرض مؤكد على الأمة كلها، ولا شك أن المسؤولية
تتأكد في شأن من حمّلهم الله هذه الأمانة.
فمن هم أصحاب هذه المسؤولية؟
د/ جمال عبد الهادي:
المسؤول عن إيجاد الشخصية ذات الهوية الإسلامية والحفاظ عليها من
التيارات الهدامة هم أولياء الأمور، وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة عقدية؛ فإن
الأمة لا بد أن تُربى على الإسلام، وإليه يُدعى الناس، وأولياء الأمور هؤلاء كلٌ
بحسبه وحسب ما ولاه الله، ابتداءً من الحاكم، وانتهاءً بالأب في بيته، والمدرس
في مدرسته، وعلى ذلك فإننا بحاجة لأن نستنفر طاقات الأمة لحماية هذه الهوية.
* بعد أن تشعب بنا الحديث في جوانب عدة، نحتاج لأن نجمل التحديات في
طريق صعودنا نحو قمتنا الشماء (الهوية الإسلامية) ؟
د/ جمال:
يمكن أن نجمل أكبر التحديات التي تواجه الهوية في ثلاثة تحديات عظمى هي:
1- التحدي المنبعث من واقع المسلمين المتمثل في الانحراف العقدي
والسلوكي، والجمود الفقهي، والإفساد الفكري.
2- التحدي المنبعث من داخل المجتمع الإسلامي نتيجة الاحتلال، ويتمثل في
الشعوبية ونفوذ التبشير، ومناهج التربية والتعليم التي أخرجت الإسلام من قلب
وعقل المسلم، وفتحت أمامه طريقاً لترسخ مكانه الأوهام والأهواء، عن طريق
ربائب الغرب وصنائعه في بلادنا.
3- التحدي الخارجي، ويتمثل في الغرب ومناهجه ودعوته، ومِن ورائه
الاستشراق والتغريب ليملأ الفراغ الذي تركته مخططات الاستعمار، في تفريغ
التربية والتعليم من مضمونيهما، وتسطيح الأفكار والحقائق العلمية والتربوية في
عالمنا الإسلامي، وقد تظاهرت الحركات الاستشراقية والتبشيرية على هذا العمل.
وفي رأيي أننا لو حسمنا التحدي الأكبر وهو الأول، نكون بذلك قد حسمنا
قدراً كبيراً من المشكلة؛ لأن عداوة الغرب متحققة ومستمرة بنص القرآن: [..وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا ... ] [البقرة: 217]
واستطاعتهم مرهونة بشرط؛ هو ضعفنا نحن، ولأن سنة الله الماضية أن أعداءنا
لا يتمكنون منا إلا بضعف منا أو تقصير: [ ... وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [آل عمران: 120] .
لذا علينا أن نعالج المستوى الداخلي، ونعطيه أولوية، دون إغفال علاج باقي
التحديات.
د/مصطفى حلمي:
القضية ليست في الهوية، ولكنها في الأمة الإسلامية نفسها؛ لأن منظري
الغرب عامة، والأمريكيين على وجه الخصوص، يعلمون أن الإسلام هو (البديل
الحضاري) القوي، الذي يمكنه دون غيره أن يملأ الفراغ الذي تعانيه الحضارة
الغربية اليوم، بخلاف الأطروحة الصينية أو اليابانية، التي لا تقدم نموذجاً متكاملاً
للحضارة.
هذه الحقيقة ملموسة رغم أنها تغيب عن كثير منّا، وقد اعترف بها غير واحد
من باحثيهم، على سبيل المثال: (هانتنجتون) ، و (أرنولد توينبي) الذي توقع قدوم
الإسلام، لعمق شعوره بأزمة الحضارة الغربية؛ حيث قال: (هناك مناسبتان
تاريخيتان، أثبت الإسلام فيهما، أنه يستطيع أن يقود العالم: الأولى: على أيام
النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلافة الراشدة، والثانية: في الحروب الصليبية،
عندما قام صلاح الدين بقيادة الأمة على أساس الإسلام) ، وله نبوءة مستقبلية إذا
حدث تغيرٌ على المسرح العالمي، فيقول: (سيعود الإسلام ليؤدي دوره من جديد،
وأرجو ألا أرى ذلك اليوم) لذلك لا نعجب من إعلان حلف شمال الأطلسي: أن
الخطر القادم هو الإسلام، ومن هنا يتضح أن الأمة مستهدفة لذاتها ولدينها.
أ/جمال سلطان:
الأمة الإسلامية هي التي تمتلك البديل الحضاري المتكامل والمتميز: ذات
عقيدة صحيحة متوافقة مع الفطرة والكون.. كتاب محفوظ، وهي خصيصة لا
مثيل لها عبر الزمان والمكان، وهي بالغة الأهمية، لدينا عمق حضاري بصورة
مدهشة، والعجيب أن الأوربيين يدركون أكثر منا قدرالإمكانيات الحضارية للتراث
الإسلامي!
د/جمال عبد الهادي:
بالنسبة للحضارة فأرى أن (الحضارة الإسلامية) هي التي يمكن أن نطلق
عليها مصطلح: (الحضارة) ، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح؛ لأن الحضارة الغربية
لا تُعتبر كذلك، وإنما نطلق عليها هذا اللفظ تجوّزاً؛ لما لديها من تقدم صناعي
وتقني حديث، وإلا فإن مفهوم الحضارة يرمي إلى ما هو أبعد من التقدم التقني،
يرمي إلى القيم التي تحكم الإنسان.
وإذا ما نظرنا إلى المشروع الغربي، وما ينبني عليه من تصوره لـ (حقائق
الكون) ، و (الحياة) ، و (نظرته إلى الغير) ، بل وإلى (تعريفه لنفسه) وما يتفرع
عن هذا التصور من قيم وأخلاق، فلا يمكن بحال أن نعتبر هذا المسخ الإنساني
حضارة، وهم هناك يدركون مدى ما هم فيه من أزمة.
أ/جمال سلطان:
الجانب الحضاري له أهمية خاصة ومؤكدة في الحفاظ على الهوية؛ لأن العدو
استطاع من خلال غزوه الحضاري لبلادنا أن يوجد نخبة ذات تبعية أمكن عن
طريقها تعبيد النفوس لكل ما يقول، ابتداءً بالدين، وانتهاءً بمظهر اللباس وأسلوب
الطعام والشراب، بعد أن نجح في تأهيله نفسياً في أن يتقبل منه كل ما يقول.
ومن التجارب الواقعية البارزة في الدلالة على أهمية الجانب الحضاري
لتنشيط هويتنا والانتماء إليها، ما حدث في البوسنة والهرسك والشيشان في فترة
الحرب؛ إذ كان أفضل أسلوب يعمق الانتماء، هو إحياء الشعور بالانتماء
الحضاري لأمة الإسلام، وكان هذا مدخلاً جيداً لتصحيح العقيدة والسلوك والعبادات، لذلك فإن أهمية هذا الجانب تزداد الحاجة إليه بإلحاح في أطراف الجسد الإسلامي؛ لأنها أكثر تعرضاً للغزو.
وعليه فنقول: إذا كانت قضية مرجعية الكتاب والسنة تحظى بأولوية في
الخطاب الدعوي في بلادنا العربية الإسلامية؛ كمصر أو اليمن أو الأردن مثلاً،
فإن الجانب الحضاري لا بد أن يطرح بإلحاح على قائمة الخطاب الدعوي في
أطراف الجسد الإسلامي.
* يدعي البعض أن جميع موروثاتنا الثقافية تعد جزءاً من هويتنا، وفي هذا
الادعاء مغالطة مقصودة في بعض الأحيان، ومغبشٌ بها على البعض في أحيان
كثيرة.
نرجو بيان ذلك من جهة الثقافة والتاريخ.
أ/ جمال:
مخطئ من يقرن بين إعادة نشر تراثنا الإسلامي الأصيل، وبين إعادة نشر
الكتابات المنحرفة في التراث، من أجل إحيائها من جديد، على اعتبار أنها جزء
من تراثنا، وجزء من هويتنا.
لأن هذه الكتابات جهد بشري، والجهد البشري فيه المنحرف والقويم،
والمنحرف لا يعوّل عليه ولا يملك قداسة، بل هو مهدرٌ؛ لأنه مخالف لمرجعيتنا
ومقاييسنا الثابتة، ونحن بحمد الله نملك وحدنا ثوابتنا القياسية التي يمكن من خلالها
التفريق بين الأمور، التي تتمثل في أصول شريعتنا، والتي إن عزلناها فإن الأمور
تبدو كلها نسبية.
أما التاريخ باعتباره أيضاً من مقومات هويتنا فهو مصبوغ بالكتاب والسنة،
وكذا الثقافة والمعرفة، وهذا لا يعني عدم الاستفادة من باقي الثقافات؛ إذ يمكننا
وفق أصولنا أن نستفيد منها بما لا يتعارض مع شرعنا؛ لأننا إذا كررنا فقلنا: إن
خبرات الشعوب وتراثها هي المرجعية للهويات؛ ففي الحالة الإسلامية يمكن أن
نعتبر أن هذه الخبرات مؤسسة على الكتاب والسنة هي مرجعيتنا في الهوية.
* ويدعي البعض أيضاً أن الحضارة الإسلامية حضارة متجمدة؛ لأنها مقيدة
بالنصوص.
ولا شك أن هذه شبهة مدحوضة لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل.
أ/ جمال سلطان:
نتيجة لأن التغريب قد حوّل الثقافة العربية إلى نوع من التقليد والمحاكاة،
والترويج للتيارات الوافدة، فلا عجب أن تظهر مثل هذه الدعاوى، وأن يُسوّق لها
تسويقاً فذّاً، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك، فحضارتنا ثرة معطاء، تتميز بما
رموها به، من وجود مرجعية ثابتة متمثلة في الوحي، وهذه المرجعية تصنع
جوانب الحضارة كلها دون استثناء، وتطلق الطاقات، وتشجع على الإبداع، في
حدود صلاح الناس على الأرض، فنجد على سبيل المثال أن الفن الإسلامي قد
أبدع في الزخرفة التي تعتمد على المنحنيات وتتحاشى الأشكال المستقيمة للبعد عن
الأشكال الموحية بالصلبان، كما ابتعدت عن رسم ذوات الأرواح.
والمتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية، يرى كيف أن الشريعة أوجدت
الإبداع والإضافة والتطوير حتى قدّمت لنا بديلاً مبهراً للأوروبيين الذين يعانون من
الفراغ الشديد، والذين يصورون لنا مثلاً بعض الوثنيات الإفريقية أو الهندية على
أنها فن وحضارة، وهم يدركون جيداً أن الإسلام وأمته هما اللذان يشكلان بديلاً
حضارياً يمكن أن يجتذب ويحتوي القطاع الأوسع من البشر؛ لأنه أقرب إلى
الفطرة والعقل والإدراك، إلى جانب القوة الضخمة التي يتيحها له الميراث
الحضاري.
د/جمال عبد الهادي:
لماذا يريدون لنا أن نُقصي الدين عن كل شيء؟ إن مسألة الدين قد أصبحت
مسألة جوهرية للغاية في تشكيل وصياغة هويات الشعوب اليوم، وهذا ما يعترف
به الغرب نفسه، والقضية تاريخية قديمة، ولكن الغرب لم يدركها في وقت كما
أدركها اليوم، يقول (هنري بيرانجيه) : (إن مسألة الدين أهم ما يشغل العالم المتدين
اليوم؛ لأن مستقبل الأمم المتحضرة يتوقف على حلها) ، ولكن الواضح أن الذي
أصبح يواجه الحل الإسلامي اليوم ليسوا هم وحدهم، وإنما أناس من جلدتنا
ويتكلمون بألسنتنا؛ سواء في تركيا أو في الجزائر أو في غيرهما.
د/مصطفى حلمي:
يخشى الغرب مما يسميه الحركات الأصولية، التي تمثل بعثاً جديداً للهوية
الإسلامية؛ إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم؛ بل يعترفون أن الجماهير
العربية التي أثرت فيها الحركات الإسلامية الشائعة اليوم، كانت ناصرية أو بعثية
منذ عشرين سنة، وتخلت عن هويتها المصطنعة من التراث والحداثة بعد أن
شعرت بضعفها، وعادت إلى هويتها الأصيلة من جديد.
وهذا يمثل خيبة أمل غربية من جراء نجاح هذه الحركات في إفساد جهد
السنين من محاولات التغريب الكامل للمجتمعات المسلمة، وهذا لا يعني أننا
متملكون من الأمر، أو أننا لا نواجه أخطاراً جساماً، فالأخطار ما زالت محدقة
ذات أفنان، ونحن أقدر على تجاوزها بعون الله بشرط التمسك بهويتنا، كما قال
تعالى: [ ... وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [آل عمران: 120] .
نقاط على الطريق..
* هذا يجعلنا نعود إلى قضية البعث الإسلامي الحضاري الجديد والحديث عنه.
د/مصطفى حلمي:
من أعجب ما قرأت في قضية الحضارات وبعثها تقسيم المؤرخ (أرنولد
توينبي) الحضارات إلى حضارات (متحجرة) كاليهودية، و (نائمة) كالحضارة
الإسلامية، ويقول: (لا بد للنائم أن يستيقظ) ولعل من المبشرات قيام إسرائيل؛
لأن قيام الحضارات يخضع لفكرة (التحدي والاستجابة) لأن الحضارة تقوم عندما
توجد ظروف صعبة جداً في مجتمع ما فيتحدى تلك الظروف لتقوم الحضارة وتنجح
وتتغلب على المعوقات.
وهذا ما توصل إليه (توينبي) الذي حذر من قيام إسرائيل في وسط العالم
الإسلامي، لا لحبه الإسلام، ولكن لخوفه من وجود خطر يوقظ (المارد النائم) ،
بناءً على القانون الذي فسّر به قيام الحضارات، أي: (التحدي والاستجابة) ، أو
بتعبير الشيخ (أبي الحسن الندوي) : (حركة المد والجذر الحضاري) ، خلافاً للغرب
الذي يرى أن الحضارة تسير في خط مستقيم منطلق دون تعثر، وأن آخر مراحله
هي النظام العالمي الجديد، أو ما يعرف بالعولمة.
ولا شك أن انتشار الإسلام وتمدده داخل ديارهم، ودخول عدد من الصفوة من
أمثال (هوفمان) و (محمد أسد) ، يدل على قدرة الإسلام على الانتشار حتى في ظل
الصعاب، والمستحضر لكمّ المؤامرات والمخططات التي مورست، وتمارس ضد
المسلمين ودينهم، لا يشك لحظة بمقاييس البشر في زوال الإسلام، ولكن تلك
طبيعة العقل الغربي الملحد الذي انزعج بشدة عندما استيقظت الأمة من جديد.
* نعود لقضية التعليم والإعلام لنرسم دورها في العلاج.
د/جمال عبد الهادي:
الهدف من التعليم والإعلام في الإسلام هو: تربية الشعوب وتثقيفها على
أساس العقيدة والقيم التي تعتقدها، ونقل المعارف العلمية مجردة غير مشوبة بقيم
الآخرين وأساليب حياتهم؛ لأن الله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، لذلك فإن المهمة
الكبرى للتعليم والإعلام؛ هي (البناء) لا (الهدم) ، وتهذيب السلوك وليس إثارة
الغرائز، أو مجاراة العادات والميول الفاسدة للناس وإن كانوا أغلبية.
إن منظومة التعليم والإعلام لا بد أن تكون منظومة قوية مؤثرة، وإلا فإن
الناس سوف ينفضّون عنها؛ لأن هناك من الوسائل البديلة عنهما في الوقت
الحاضر ما لا تعجز عن ابتكاره القرائح.
وقد يدفع الفضول معظم الناس إلى متابعة الغث مما يعرض عليه، ثم لا
يلبثون أن يعودوا إلى الحق أو يثوبوا إلى رشدهم؛ لأن الحق باقٍ لا يبطله شيء.
* قضية الهدي الظاهر باعتباره معبّراً عن العقيدة ومظهراً للانتماء، تحتاج
إلى عناية خاصة من القائمين على أمر هذا الدين، والحريصين على الهوية
الإسلامية، ولا شك أن قضية التغريب والحرب على الهوية الإسلامية قد صاحبتها
دعوة إلى تقسيم الدين إلى مظهر وجوهر، بحيث يتخلى الناس عن المظهر بحجة
أن الجوهر كافٍ، ولا شك أن هذه الدعوى لها مخاطرها.
الشيخ /محمد بن إسماعيل:
هذه الدعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها العذاب، وقد انطلت على كثير من
السذج حتى صاروا يروّجون لها دون أن يدركوا أنها قناع نفاقي قبيح، وأنها من
لحن قول العلمانيين الذين يتخذونها قنطرة يمرقون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام
دون أن يُخدَش انتماؤهم إليه.
وإذا كانت القضية تتوقف عند حَسَني النية من المسلمين المخلصين عند نبذ ما
أسموه: (قشراً) للتركيز على ما دعوه: (لبّا) ، ولكنها عند المنافقين الحريصين
على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها مدخل لنبذ اللّب والقشر معاً، تماماً كما
يرفعون شعار الاهتمام بـ (روح النصوص) وعدم الجمود عند منطوقها.
ومع أن هذا كلام طيب إذا تعاطاه العلماء وطبقه الأسوياء؛ إلا أنه خطير إذا
تبناه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ إذ يكون مقصودهم
حينئذ هو إزهاق روح النص بل اطّراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بعد تحريفه
عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
إنهم يريدونه ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة الذي
يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا له بالبقاء على هامش الحياة.
ولقد لفتنا سلفنا الصالح إلى أهمية التمايز الحضاري بالمحافظة على (قشرة)
معينة تفترق بها أمتنا عن سائر الأمم، وهذه القشرة التي تحمي الهوية الإسلامية
المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله ب: (الهدي الظاهر) ، وأفاضوا في بيان
خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها.
فالقضية إذن قضية مبدأ وليست مجرد شكل ومظهر؛ فنحن كما نخاطب
الكافرين: (لكم دينكم ولنا دين) نقول لهم أيضاً: (لكم قشرتكم ولنا قشرتنا) ، ولأننا
بشر مأنوسون ولسنا أرواحاً لطيفة، فإن ذلك يقتضي أن يكون لنا مظهرٌ ماديٌ
محسوس، هذا المظهر شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز
الأمة المسلمة في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها؛ بل إن أهل كل
ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبّراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك
أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم
عن غيرهم، وتترجم عن أفكارهم، وترمز إلى عقيدتهم.
وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة بطاقيتهم،
ولحاهم، وأزيائهم التقليدية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب،
وفي السيخ والبوذيين وغيرهم.
أليس هذا كله تميزاً صادراً عن عقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بالهوية؟ !
وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان، فكيف لا نتمسك نحن بصبغة
الرحمن التي حبانا الله عز وجل [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ] [البقرة: 138] .
لماذا تقدس الحرية الدينية لكل من هب ودب، وفي نفس الوقت تشن
(الحروب الاستراتيجية) على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب، حتى إنه لتعقد
من أجلها برلمانات، وتصدر قرارات، وتثور أزمات، وتجيّش الجيوش، وترابط
القوات، هذا ونحن أصحاب الدار.
كل دارٍ أحق بالأهل إلا ... في رديء من المذاهب رجس
أحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس
أفكل هذا من أجل ما أسموه (قشوراً) لا! بل هم يدركون ما لهذه المظاهر من
دلالة حضارية عميقة، ويدركون أنها رمز يتحدى محاولات التذويب والتمييع،
ويصفع مؤامرة استلاب الهوية كمقدمة للإذلال والاستعباد.
إن من يتخلى عن (القشرة الإسلامية) سيتغطى ولا بد بقشرة دخيلة مغايرة لها، فلا بد لكل (لب) من (قشر) يصونه ويحميه، والسؤال الآن: لماذا يرفضون
(قشرة الإسلام) ويرحبون بقشرة غيره؟ فيأكلون بالشمال، ويحلقون اللحى،
ويُلبسون النساءَ أزياء من لا خلاق لهن، ويلبسون القبعة، ويدخنون (البايب)
و (السيجار) ؟ !
إن تقسيم الدين إلى قشر ولب غير مستساغ، بل هو محدَث ودخيل على الفهم
الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير في اتباعهم
واقتفاء آثارهم، فضلاً عن أنه يؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، ويورثهم
الاستخفاف بالأحكام الظاهرة التي يعتبرونها قشوراً، فتخلو قلوبهم من أضعف
الإيمان، ألا وهو: الإنكار القلبي.
* في الختام.. نرجو أن نكون قد وُفّقنا لا نقول: في معالجة القضية، ولكن
في طرحها والإشارة إلى أبرز نقاطها؛ لأن القضية ما زالت تحتاج إلى تفعيل على
كافة المستويات، من رسم أدوار.. وبذل جهود.. وفضح مؤامرات.. وتصدّ
لمكائد ومخططات.
جزى الله مشائخنا وأساتذتنا الذين شاركونا في الندوة خير الجزاء..
وأثابهم على جهدهم هذا أضعافاً مضاعفة في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،