المسلمون والعالم
د. يوسف الصغير
كثير من السياسيين لديهم القدرة على تغيير جلودهم؛ فهم قادرون على لبس
جلود الحملان واستبدالها بسرعة بجلود الثعالب أو الذئاب، فمثلاً السياسي الأمريكي
حمل وديع في ما يسمّى؛ (إسرائيل) وثعلب في سوريا، وذئب في العراق، وقل
مثل هذا في مواطن كثيرة؛ فإن الدول الغربية التي تدعي الحرية وحماية حقوق
الإنسان ترفع شعار تحرير المرأة ومحاربة الرق بينما شعوب كثيرة في العالم
وخاصة الإسلامية استُعبدت نتيجة مؤتمر لم تحضره، أو رسالة شخصية لم تطلع
عليها؛ فالحمل الوديع (بلفور) ينظر هو وصاحبة جلالته بعين العطف لإقامة وطن
قومي لليهود في ويلز! لا آسف بل في بلاد بعيدة اسمها: (فلسطين) ولتنفيذ هذه
الجريمة كان الإنجليز يضطرون إلى لبس الجلود الثلاثة كلها لمدة ثلاثين سنة
متصلة؛ فالذين يساعدون في بناء مجتمع يهودي في فلسطين من العدم هم الذين
ينكّلون بالفلسطينيين وهم ايضاً الذين يقنعون العرب بحرصهم على حل القضية
بصورة عادلة!
هذه المسرحية تتكرر كلما كان هناك طرف مسلم، ومأساة الألبان المتجددة
مثال جديد شاهد على ذلك.
الألبان في التاريخ:
كانت القبائل الإيليرية هم أول من سكن مناطق البلقان، وقبل حوالي ألفي
سنة احتل الرومان هذه المنطقة، وفي القرن الثاني الميلادي أخذت النصرانية
تنتشر في أرض الإيليريه، وفي غضون القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)
أخذت قبائل صقلبية (السلوفان والصرب والكروات والبشناق) تغزو مناطق إيليريه
حتى قضت على الإيليريين إلا في المناطق الجنوبية الغربية؛ حيث ينحدر منهم
اليوم الألبان.
إن كلمة (ألبان) مشتقة من كلمة (ألبانو) وهو اسم لقبيلة من قبائل الإيليريه
القديمة غلب اسمها على جميع القبائل الإيليرية، وأول من أطلق على الإيلير اسم
الألبان هم البيزنطيون قرابة عام 1018م. واللغة الألبانية قديمة وتختلف عن لغة
الشعوب الأوربية المجاورة، ونتيجة لوقوع الألبان بين الكنيستين الشرقية
(الأرثوذكسية) والغربية (الكاثوليكية) فقد انقسم الألبان المعتنقون للمسيحية إلى:
كاثوليك، وأرثوذكس وهم الأغلب.
كانت بلاد الألبان قبل وصول العثمانيين واقعة في منطقة الصراع بين
البيزنطيين والصرب والبلغار؛ مما أدى إلى احتلال الصرب للمناطق الشمالية،
وانقسمت البلاد إلى إمارات كثيرة. لقد بدأ العثمانيون في دخول الجانب الأوربي
من مضيق الدردنيل حوالي عام 1350م واستمرت الفتوح العثمانية حتى تحالف
الأوربيون بقيادة الصرب للوقوف في وجههم، ووقعت معركة كوسوفا المشهورة
عام 1389م التي قتل فيها السلطان مراد الأول رحمه الله وملك الصرب وبعد هذه
المعركة تم على مراحل فتح مناطق البلقان؛ وبانتصار العثمانيين في كوسوفا بدأ
الإسلام ينتشر بسرعة بين الألبان حتى أصبح دين غالبيتهم.
لقد دخل الألبان في نسيج الدولة العثماني ووصلو إلى أعلى المراتب في
السياسة والجيش؛ فمثلاً كان هناك أكثر من 40 من الصدور العظام (رئيس
الوزراء) من أصل ألباني، أما وجودهم في الجيش العثماني فقد كان بارزاً وكان
يطلق عليهم الأرناؤوط.
لقد انقسمت مناطق الفتح العثماني إلى قسمين أساسين: مناطق انتشر فيها
الإسلام ولكن لم يغلب على السكان مثل صربيا واليونان وبلغاريا، وأخرى غلب
الإسلام على أهلها مثل بلاد البشناق (البوسنة) وألبانيا. وطوال قرون عديدة كان
الصراع في هذه المناطق على أشده فقد كانت الممالك الأوربية تقوم بغزو هذه
المناطق وإثارة أهلها النصارى، بينما المناطق التي أسلمت كان لها دور كبير في
صد هذه الهجمات وإخماد الثورات. لكن مع ضعف الدولة العثمانية استقلت صربيا
عام 1830م، واحتلت النمسا البوسنة والهرسك عام 1878م، وبقيت المناطق
الألبانية تابعة للدولة العثمانية حتى عام 1912م؛ حيث انسحبت منها بعد حرب
البلقان.
وحتى نتصور مدى التأثير الإسلامي في المنطقة فإن من المهم أن نعرف أن
الحكم العثماني تراوح بين 40 سنة في كرواتيا وفديفودينا، وحوالي 380 سنة في
صربيا (كانت عاصمتها بلغراد يقطنها مئة الف نسمة عام 1600م ثلاثة أرباعهم
مسلمون، وبها 270 مسجداً لم يبق منها اليوم إلا مسجد واحد) و450 سنة في بلاد
البوسنة في كوسوفا و 547 سنة في مقدونيا. وكان لتسامح العثمانيين مع النصارى
دور كبير في استمرار وجودهم في هذه المناطق؛ بينما كانت سياسة التصفية هي
المعتمدة من قِبَلِ النصارى عند سيطرتهم على أي منطقة مما أدى إلى تضاؤل عدد
المسلمين في بعض المناطق وانعدامهم في البعض الآخر، ولم يبق لهم وجود قوي
إلا في المناطق التي اعتنقت الإسلام بشكل جماعي ومنها مناطق الألبان.
السلخ والتقسيم:
لقد كانت الثورات النصرانية التي تنجح ضد الدولة العثمانية تنتهي بالتسليم
الأوربي لهذه الشعوب المكافحة بالحق في تقرير مصيرها وإنشاء كياناتها المستقلة
بل والإشادة بصبرها وصمودها ضد الطغيان، وأما الشعوب العربية والإسلامية فإذا
قامت بثورة فإنها يُلبس لها ابتداءً جلد الثعلب: تشجع على التمرد بقصد إضعاف
الدولة وتفتيتها، ولكن في النهاية تسرق منها حقوقها بل ويصبح وجودها مجتمعة
مشكلة يجب حلها؛ ففي الثورة المسماة: (العربية الكبرى) تم إغراء الشريف حسين
بالثورة من أجل إقامة دولة العرب المستقلة، وفي النهاية مات الشريف حسين
حسيراً في المنفى بعد تقاسم ما كان يحلم أنه سيكون دولته؛ بل وإقامة دولة اليهود
على جزء منها.
أما الألبان فكذلك أسهموا في التخلص من الحكم الذاتي تحت سلطة الدولة
العثمانية ثم فوجئوا بتقسيم بلادهم بين الدول النصرانية، وما بقي لهم هو جزء
صغير يدين بوجوده لاختلاف الأسياد ليس إلا.
لقد بدأ الألبان التمرد على الدولة منذ 1910م وكانت صربيا تتحين الفرصة
لالتهام كوسوفا لأهميتها المعنوية والاقتصادية؛ فعلى الرغم من أن وجودهم السابق
فيها كان بوصفهم محتلين حيث إن الغالبية العظمى من السكان هم من الألبان؛ فإن
حصول معركة كوسوفا فيها عام 1389م كانت بداية النهاية للمملكة الصربية حيث
سقطت بلغراد عام 1452م، ولهذا فإنها تعني الكثير في محاولة تحقيق أحلام تكوين
صربيا الكبرى، وكان التمرد الألباني فرصة سرعان ما استغلتها؛ حيث تحالفت
دول البلقان الأرثوذكسية (صربيا والجبل الأسود وبلغاريا واليونان) من أجل تصفية
الوجود العثماني، وكان الألبان ضحية هذه الحرب حيث دغدغت فيهم أحلام
الاستقلال، وأثيرت فيهم القومية الألبانية فشاركوا في الحرب على أمل الاستقلال،
وقد حصل خروج القوات العثمانية وكما هي العادة عقد المنتصرون مؤتمر تقاسُم
الأسلاب والغنائم (لندن 1912/1913) وكان موضوع تقاسم الأراضي الألبانية
وتوزيعها هو الأصل، ولكن النمسا التي كانت تحتل كرواتيا والبوسنة ولم يكن لها
حظ في القسمة اعترضت على التقسيم حسداً لعدوتها صربيا وتم الوصول إلى حل
وسط برعاية الإنجليز؛ ألا وهو تقاسم الجزء الأكبر من الأراضي الألبانية (41
ألف كيلومتر مربع) وكانت كوسوفا هي جائزة صربيا مع ترضية النمسا والألبان
بإقامة كيان ألباني على جزء صغير من ألبانيا (28748 كيلومتر مربع) مع فرض
حاكم أجنبي هو (ويلهلم ويد) الذي بقي سبعة اشهر ثم اضطر للمغادرة.
كوسوفا تحت الحكم الصربي:
لقد بدأ الصرب منذ اليوم الأول لاحتلالهم كوسوفا بعمليات الإبادة والإبعاد،
وقد زادت بوقوع الحرب العالمية الأولى وتحوّل المنطقة إلى ساحة معركة بين
الصرب من جهة والنمسا وبلغاريا من جهة أخرى. وبعد الحرب وهزيمة النمسا
تمت مكافأة صربيا بإقامة المملكة اليوغسلافية (السلاف الجنوبيين) التي تضم صربيا
وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك وكوسوفا، واستمرت هذه الدولة حتى احتلال
يوغسلافيا من قِبَلِ الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية وقيام الجمهورية اليوغسلافية
الاتحادية، وقد تعرض الألبان إلى كثير من الممارسات في مختلف العهود، وفيما
يلي بعض الأمثلة:
مقتل حوالي 150 ألف ألباني، وتهجير عدد غير معروف (أثناء حرب
البلقان)
محاولة تغيير عقائد الألبان إلى الأرثوذكسية، وتحويل أسماء بعض القرى
والمدن إلى اللغة السلافية.
مصادرة أراضي الألبان ومنحها للمستعمرين الصرب وكانت كل عائلة
صربية وافدة تُمنح من 8-72 هكتاراً.
في 11 يونيو 1938م وقّعت مملكة يوغسلافيا مع تركيا الكمالية اتفاقية تنص
على تهجير 400 ألف أسرة ألبانية إلى تركيا خلال الثمانية أعوام التالية. وبالطبع
لم تنفذ هذه الاتفاقية لقيام الحرب ولكن توقيعها يدل على سياسة التصفية المنتهجة
مع ملاحظة أن 400 ألف أسرة يعني تقريباً 5، 1 مليون نسمة على أقل تقدير.
أثناء الحرب العالمية الثانية ووقوع يوغوسلافيا تحت الاحتلال الألماني،
أنشئت القيادة العليا لجيش التحرير الوطني لكوسوفا، وقد منحت امتيازات القيادات
المماثلة نفسها في صربيا وكرواتيا وسلوفينيا. وقد عقد مؤتمر لمجلس التحرير
الوطني لكوسوفا في بوبان في 31 ديسمبر 1943م حيث تبنى بالإجماع القرار
التالي: (إن للشعب الألباني الحق في الحكم الذاتي ولو أدى ذلك إلى الانفصال) .
ولم يعجب ذلك الحزب الشيوعي اليوغسلافي، واضطربت الأوضاع، وتم تصفية
كثير من الألبان؛ حيث قتل في المعارك مع قوات الشيوعيين أكثر من 47 ألف
ألباني، وفي يونيو 1945م تم إلغاء مقررات مؤتمر بوبان، واحتلت صربيا
كوسوفا من جديد حيث نص دستور يوغسلافيا الجديد (1946م) على تبعية كوسوفا
لصربيا باعتبارها إقليماً يتمتع بالحكم الذاتي، وقد ألغي الحكم الذاتي عام 1963م.
بعد الحرب بدأت مرحلة جديدة حيث وقعت الحكومة اليوغسلافية الشيوعية
عام 1953م اتفاقية جديدة مع تركيا من أجل تهجير الألبان على غرار اتفاقية
1938م. وقد قامت السلطات الشيوعية بحملة تصفية ذهب ضحيتها الآلاف من
الألبان، وقد هاجر حوالي 500 ألف الباني في الفترة من 19451960م إلى تركيا
ومختلف بلدان العالم.
وقد تنامى الضغط الشعبي للتحرر من السيطرة الصربية، ووافقت هوىً من
تيتو عندما أراد تقليص النفوذ الصربي؛ فتم إصدار قانون مستقل لمنطقة كوسوفا،
وفي دستور 1974م أصبحت كوسوفا إقليماً من الأقاليم الأساس المكوّنة للاتحاد
اليوغسلافي بإمكانها تنظيم القوات المسلحة للدفاع عن الإقليم والاستقلال المالي
والقضائي.
وبعد هلاك تيتو عام 1981م قامت مظاهرات للمطالبة بإعلان كوسوفا
جمهورية اتحادية خوفاً من ضياع الحكم الذاتي وقد قامت الحكومة الاتحادية بقمع
المظاهرات بضغط من الصرب الذين استغلوا هذه التطورات لإثارة المشاعر القومية
والدينية لدى الصرب؛ حيث برزت من جديد قداسة كوسوفا، ولعب على هذا الوتر
النجم الصاعد في ذلك الوقت سلوبودان ميلوسيفتش حتى وصل بفضلها إلى السلطة
في صربيا عام 1987م ليعد الصرب باستعادة كوسوفا وتكوين صربيا الكبرى.
بدأت عملية تأليب الرأي العام وتصوير أن صربيا تدافع عن أوربا ضد الإسلام
الذي يمثله الأتراك الجدد (الألبان) وأصدرت رابطة الكتاب في صربيا عام 1989م
مجلداً بعنوان كوسوفا (1389 1989م) ثم قام ميلوسيفتش بإلغاء الحكم الذاتي، وقام
بزيارة كوسوفا للاحتفال بمرور ستة قرون على معركة كوسوفا حيث قال: (معركة
كوسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم، ونحن مستعدون أن نضحي بثلاثمائة
ألف مقاتل صربي لاستئصال الإسلام من سراييفوا إلى مكة) !
كانت حادثة ضم كوسوفا هي القشة التي قصمت ظهر البعير حيث بعدها بدأت
الجمهوريات بالانفصال عن يوغسلافيا خوفاً من مصير كوسوفا.
أثناء حرب البوسنة وما بعدها قام الصرب وكأنهم في سباق مع الزمن
بتصرفات غير متزنة تدل على استعجالهم عملية هضم كوسوفا بالرغم من أن نسبة
الألبان حوالي 90% بينما تبلغ نسبة الصرب حوالي 5% أما البقية فهم أتراك
وبشناق وقوميات أخرى، وعلى سبيل المثال:
1- قام الصرب بتصفية المصانع والمؤسسات الألبانية وضمها لمثيلاتها
الصربية بدعوى عدم اقتصاديتها، كما تم الاستيلاء على بعض المؤسسات بدعوى
الخصخصة، وقد أدى ذلك إلى طرد أكثر من 150 ألف عامل من مؤسساتهم كما
تم طرد الأطباء والممرضين الألبان مما رفع كثيراً من البطالة وحرم الألبان من
الخدمات الصحية؛ نظراً لعدم الثقة بالصرب، مع ثبوت قيام الصرب بتسميم
حوالي 7000 طالب في كوسوفا في مارس 1990م كما تم الإعلان عن قانون جديد
يقضي بأن جميع المديرين الألبان سيتم الاستغناء عنهم وإحلال الصرب محلهم.
2- إلغاء حق التعليم باللغة الألبانية، وفرض المناهج الصربية: كما أوقف
البث الإذاعي والتلفزيوني باللغة الألبانية، واستولت السلطات على كافة المؤسسات
الثقافية في الإقليم.
3- تشجيع الاستيطان الصربي عن طريق تأمين الوظائف والرواتب العليا
مع الوحدات السكنية مع خطة إعلامية لطمأنة الصرب إلى الوضع الأمني في الإقليم. وقد تم توطين المهجرين الصرب من كرايينا والذين طردهم الكروات إلى
كوسوفا.
4- مضايقة المسلمين حيث تم الإكثار من نقاط التفتيش في تقاطعات الطرق؛
حيث يتعرض الألبان للتفتيش الدقيق والمضايقة، مع الإكثار من عمليات الدهم
والتفتيش؛ حيث يتعرض الأهالي للإهانة وتخريب الأثاث ونهب الأشياء الثمينة.
5- قيام القوات الصربية في الآونة الأخيرة ببناء الاستحكامات العسكرية
حول المدن؛ وهذه خطوة خطرة سبق أن أقدمت عليها هذه القوات في البوسنة حيث
تمت مهاجمة المدن وحصارها ودكها بالمدفعية؛ وسراييفو خير شاهد؛ فنسأل الله
أن يلطف بالمسلمين، وأن ينصرهم على عدوهم.
6- توزيع كميات كبيرة من السلاح على السكان الصرب في الإقليم مما زاد
من التوتر، حيث بدأوا يتحركون في الشوارع وهم يحملون السلاح في مظاهر
تشبه ما يحدث من المستوطنين اليهود في الضفة الغربية.
ردود الفعل الألبانية:
لقد كان رد الفعل الأولي على خطوة إلغاء الحكم الذاتي، هو اجتماع البرلمان
وإعلانه التمسك بالحكم الذاتي وقد تم إجراء انتخابات جرى فيها ترشيح إبراهيم
روجوفا (رئيس حزب الرابطة الديمقراطية الكوسوفي) رئيساً لكوسوفا، وتم تشكيل
حكومة في المنفى عام 1992م ولم يعترف بها سوى ألبانيا، وفي 22 مارس من
هذا العام أجريت انتخابات عامة لم تعترف بها بلغراد، وفاز بها روجوفا الذي يتبنى
النهج السلمي الرافض للعنف من أجل حل الأزمة. وكانت الحكومة الصربية
ترفض التفاوض حول إمكانية إعادة الحكم الذاتي مما أدى إلى رفع مستوى المطالبة
إلى الاستقلال بل وحق تقرير المصير لللألبان الموجودين في مقدونيا وصربيا
والجبل الأسود، بالإضافة إلى ظهور عامل جديد وهو جيش التحرير الكوسوفي فما
هو هذا الجيش؟
جيش التحرير الكوسوفي:
لقد أعلن هذا الجيش عن نفسه في إبريل 1993م لأول مرة ثم توالت
العمليات حتى أضطر الجيش والشرطة الصربية إلى شن حملات عسكرية كبيرة يتم
فيها محاصرة القرى وقصفها ثم اقتحامها، والقيام بعمليات إعدام عشوائية مما زاد
من النقمة وبدأ التلويح بالتدخلات الدولية من وزير خارجية بريطانيا إلى المبعوث
الأمريكي الخاص حيث إن تطور الأحداث يؤذن بتفاقم الوضع بشدة.
وقد قامت أمريكا بالضغط على الحكومة الاشتراكية في ألبانيا حتى أعلنت أنها
غير معنية بالاتحاد مع كوسوفا؛ ومع هذا فإن التعاطف الألباني واضح حيث إن
انتشار السلاح في ألبانيا سهل نقله إلى كوسوفا، وقد قام الجيش الصربي بمحاولة
سد الحدود مع ألبانيا، والعمليات في تصاعد حتى وصلت إلى حد قيام الألبان
بإسقاط طائرة ميغ صربية مما يعني تطوراً نوعياً في وسائل الحرب.
المأزق الصربي:
إن تعامل الصرب مع الألبان فيه كثير من عدم الاتزان فإذا علمنا أن عدد
سكان صربيا هو 9 ملايين وكوسوفا 5، 2 مليون فإن محاولة إلغاء وجود هذا العدد
من الألبان وشطب حقوقهم مع المحافظة على الاستقرار مهمة مستحيلة؛ ومن
الواضح أن أسلوب تعامل الشرطة والجيش الصربي سيؤدي إلى انفجار شامل فإليكم
هذا المثال البسيط:
على أثر ذلك قتل اثنان من رجال الشرطة الصرب فقامت الشرطة الخاصة
(ساج) فوراً باعتقال أول عشرة ألبان صادفوهم وتم إعدامهم (الوطن1/5/98) .
إن تصرفات الصرب السياسية والأمنية جعلت شعبية جيش التحرير
الكوسوفي ترتفع بسرعة كبيرة وبعد أن كانت العمليات محدودة وكان هناك تشكيك
بأن المخابرات الصربية وراء إقامة هذا الجيش لعرقلة العملية السياسية؛ فإن
تطورات الأحداث واتساع العمليات بصورة كبيرة جعل شعبيته كبيرة جداً بين
الألبان وخاصة الشباب. ومهما يكن فإن المشكلة الآن أن التنسيق بل والود مفقود
بين السياسيين الألبان وجيش التحرير؛ حتى إن جيش التحرير هدد بإعدام روجوفا
إذا فرط في الحقوق الألبانية، وحزب روجوفا يطلب تدخل أمريكا أو الحلف
الأطلسي من أجل خلط الأوراق، وهذه أوضاع لا تسر ولا تعين على حل الأزمة
وتحقيق الأهداف بأقل الأخطار الممكنة؛ فمن الواضح أن وجود جيش التحرير
ضروري لدفع الصرب للتنازل. ولكن في المقابل فإن سياسة كل شيء أو لا شيء
لا يحقق مصالح الشعوب دائماً؛ فأحياناً يكون الوضع غير ملائم للحصول على كل
الحقوق.
إنه ليس في مصلحة الألبان ظهور الشقاق على طريقة الحل في أول الطريق؛ حيث إنه من الواضح أنهم يحتاجون إلى كل هذه الطرق؛ فوجود شخصيات
سياسية تنادي بالحصول على الحقوق بالتفاوض لا يعني عدم الحاجة إلى جناح
عسكري قوي يضغط على الجهة الأخرى من أجل التنازل؛ وبالعكس فإن القوى
المسلحة لا تستغني عن واجهة سياسية من أجل الوصول إلى أقصى ما يمكن تحقيقه؛ فالواجهة السياسية المجردة عديمة الجدوى في واقع يقدس القوة؛ والقوة المجردة
معرضة للنجاح التام أو الإخفاق الشامل، ولهذا فإن التكامل ضروري بينهما؛ وفي
هذا العصر برزت منظمات أخذت بهذا النهج المبتكر؛ فالجيش الجمهوري
الأيرلندي يتكون من جناحين هما الجناح السياسي والجناح العسكري، وبالمثل
قامت حماس على هذا الخيار؛ حيث إن هناك جناحاً سياسياً واجتماعياً في مقابل
جناح عسكري فعال؛ فالذي نأمله ألا يترك الألبان الفرصة للمتربصين بهم لحرف
المعركة وخلط الأوراق؛ فإنه يجب ألا ينسوا أن ضم كوسوفا لصربيا تم بمباركة
الدول الكبرى وحتى أمريكا التي ترى في صربيا الحليف الوحيد الباقي للروس في
أوروبا فإنها تفضل حل الحكم الذاتي على بروز دولة جديدة تؤثر على التوازنات
الموجودة.