مجله البيان (صفحة 2806)

إسرائيل الكبرى.. هل انتهى الحلم (1)

المسلمون والعالم

حِلم العرب ... وأحلام اليهود

(1من2)

إسر ائيل الكبرى.. هل انتهى الحُلم..؟

عبد العزيز كامل

من الأمور التي تصدم النفوس ... وتستفز المشاعر ... بل وتثير الغيظ

والغضب والسخرية معاً ...

إننا عندما نستعرض بالذاكرة خريطة أحداث ما يسمى بـ (الصراع العربي

الإسرائيلي) .. نجد أن كل ما حققه اليهود من علو في الأرض وغلو في الإفساد..

كان مجرد أحلام تداعب خيالات أجيالهم السابقة، ومجرد رؤى دينية أو تاريخية

تنسجها مصادرهم العتيقة، ثم طفقت هذه الأحلام تتحقق.. وراحت تلك الرؤى

تتحول إلى واقع معاش، يذوقون حلاوته ونكابد مرارته!

* قرن واحد من الزمان ... حشدت فيه أحلام مئات القرون على بوابة

التحقيق والتطبيق..!

* لقد كان بروز قيادة منهم قادرة على التنظير والتخطيط للمستقبل، في

أواخر القرن التاسع عشر للميلاد.. حلماً فتحقق!

* وكان اتحاد جماعاتهم الخمسين المتفرقة على يد ذلك القائد حلماً ... فتحقق!

* ثم كان قدومهم من أطراف الدنيا إلى الأرض المقدسة لضمان موطئ قدم

فيها بعد أن كانت شبه خالية منهم عبر ألفي عام.. كان هذا حلماً.. فتحقق!

* وكان قيام قوة عظمى بإعطائهم وعداً بوطن قومي في تلك الأرض، مع

تهيئتها لهم وحمايتهم فيها حلماً.. فتحقق!

* وكان إسقاط دولة الخلافة العثمانية المتصدية لمشروعهم حلماً فتحقق!

* وتحويل مشروعهم بعد ذلك إلى دولة بشكل رسمي وبعد خمسين عاماً فقط

من التخطيط لإنشائها.. كان حلماً فتحقق!

* الانتقال إلى أحضان قوة أعظم والتفرد بموالاتها ورعايتها كان حلماً فتحقق!

* تثبيت هذه الدولة المسخ لوجودها بانتصارها على مجموع جيوش أعدائها

تحقق!

* استيلاؤها على أراض أخرى وعلى رأسها القدس ... أمر قد تحقق!

* عودتهم إلى أرض التيه والتوراة في سيناء، ثم تركهم لها منزوعة السلاح، لتظل مهددة بالاحتلال مرة أخرى.. كان حلماً فتحقق!

* امتلاكهم ثم احتكارهم للقوة النووية في المنطقة ... كان حلماً.. فتحقق!

* وكان إخراج أكبر دولة عربية من ساحة الصراع، وإلجاؤها إلى التخلي

عن المواجهة في أوجها.. كان هذا حلماً فتحقق!

* استكمال استدراج أكثر الدول الأخرى إلى ذلك المستنقع وإقناعها بأن العدو

صار صديقاً ... كان حلماً فتحقق!

* تحويل حروبها إلى جيرانها، وصراعاتها بين شعوبها.. أحلام بدأت

تتحقق!

* إسقاط آخر حصن في المواجهة (الرسمية) بتدجين منظمة التحرير

الفلسطينية كان حلماً.. فتحقق!

* إقناع تلك المنظمة بالانتقال من دور المقاومة لإسرائيل إلى المقاومة لأعداء

إسرائيل.. كان حلماً فتحقق! وهكذا....

لماذا تؤول أحلام اليهود إلى الحقيقة، في حين أن أحلام العرب في الصراع

لا تجاوز المجاز، ولا تخرج من فلك الألغاز؟ !

أحلام اليهود تتحقق؛ لأنهم عقدوا مع عقيدتهم الباطلة صلحاً، واستمدوا من

شريعتهم المحرفة مشروعاً عملياً وبرنامجاً تنفيذياً ... وصادف هذا من بني جلدتنا

اصطناعاً للعُقد مع العقيدة والإيمان، وشروعاً في إقصاء وإلغاء شريعة الإسلام..!

فهل يقال بعد ذلك إن قوماً يحاربون بلا عقيدة يمكن أن يصمدوا أمام قوم يحاربون

بعقيدة.. ولو كانت باطلة؟ ! !

إن هذه جريمة من أرادوا عن قصد وعمد تجريد الصراع مع اليهود من

العقيدة.

أحلام أخرى:

هل انتهت أحلام اليهود عند الحد الذي ذكرناه؟ أم أن في جعبتهم مزيداً؟ ..

إننا لا زلنا نسمع منهم ونرى فيهم ونقرأ عنهم روايات وطروحات وتنبؤات عن

أحلام أخرى تسير على درب التنفيذ، ويمكن للمتابع أن يرصدها بسهولة، وعلى

رأس تلك الأحلام التي لم يحققوها بعدُ: استكمال خريطة (إسرائيل الكبرى) فتلك

إحدى أحلامهم الكبار التي حدثتهم بها كتبهم، ومنّاهم بها حاخاماتهم ... وخططت

من أجلها زعاماتهم.. وتهيئ الأوضاع لتنفيذها حاميتهم ومدللتهم دولة الكبر

والغرور.. الولايات المتحدة الأمريكية.

هناك لا شك أحلام أخرى لها تعلق بذلك الحلم الكبير، مثل سعيهم لهدم

المسجد الأقصى، واستعداداتهم لبناء هيكل سليمان مكانه، وذبح البقرة العاشرة على

أعتابه، والتهيؤ بعد ذلك لاستقبال المخلّص المنتظر.. كلها أحلام بدأت تنتعش بقوة

في السنوات والآونة الأخيرة [1] !

ولكن نتناول اليوم في هذا المقال حلمهم الخطير، الذي نغفل كثيراً أو نتغافل

عنه، ونغلط كثيراً، أو نغالط فيه، وهو (حلم: إسرائيل الكبرى) .

ولكي نعي أبعاد وخلفيات الحديث عن (إسرائيل الكبرى) لا بد لنا من

استحضار حقائق دينية وتاريخية عن تلك البقعة وما حولها من الأراضي التي أرادوا

التعمية على ما يراد لها عندما أطلقوا عليها تسمية: (الشرق الأوسط) !

فصارت في العالمين معضلة ومشكلة تستعصي على الحلول؛ فلماذا كان ذلك؟

لأنهم أرادوا لها حلاً واحداً ... هو المستمد من توراتهم المحرّفة.. ولهذا

استمرت وستستمر (أزمة) الشرق الأوسط! حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

إن مما اختاره الله تعالى من الأرض بقعتين جعلهما مقدستين، وهما

متجاورتان، وجعل لكل منهما خصوصية، ولكل منهما فضائل؛ فاختار أرض

الشام، واختار أرض الجزيرة العربية [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ]

[القصص: 68] وفي قدسية أجزاء كل من الأرضين مراتب ودرجات، فإذا تخيلناهما دائرتين كبيرتين، فإن داخل كل دائرة منهما دوائر أصغر ولكنها أقدس، فالجزيرة العربية دائرة كبيرة من الأرض اختارها الله تعالى وخصها بفضائل فهي وطن الإسلام كما وصفها الشيخ رشيد رضا ويدل على خصوصيتها في ديننا أن الله تعالى اختارها مهداً لدعوة أفضل الأنبياء، ومهبطاً لأفضل الملائكة، وداراً لخير أجيال البشر بعد الأنبياء وهم الصحابة رضوان الله عليهم ويدل على خصوصيتها أيضاً أن الله تعالى أرادها خالصة بعد بعثة الرسول لله للتوحيد كما صح بذلك الحديث: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) [2] ولهذا كان جهاد الرسول لله كله تقريباً لتخليصها من الوثنية الجاهلية، وقد أمر بتطهيرها من الشركيات والكفريات اليهودية والنصرانية، فقال لله: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً) [3] .

فجزيرة العرب دائرة كبرى، وداخلها دائرة أصغر، وهي أخص في الفضل

وهي أرض الحجاز المشتملة على أرضَيِ الحرمين الشريفين، ومن فضلهما أنهما

مأوى أهل الإيمان كلما اشتدت الفتن وتقارب الزمان قال لله: (إن الإسلام بدأ غريباً

وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) [4] . وداخل أرض الحجاز دائرتان إحداهما المدينة، وهي حرم بحدودها فيما بين

الحرتين، وداخل المدينة دائرة أصغر وأقدس، وهي أرض الحرم النبوي الشريف

الذي تُضاعَف فيه الصلاة ويُؤم بالزيارة، وفيه يرقد خير من واراه الثرى لله.

وداخل الحرم النبوي بقعة أصغر وأقدس وهي الروضة النبوية الشريفة التي قال

عنها لله: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) [5] .

أما الدائرة الأخرى داخل أرض الحجاز فهي مكة المكرمة بحدودها المعروفة،

وهي أحب البلاد إلى الله، وداخلها دائرة أصغر وهي (بكة) أي الأرض المحيطة

بالكعبة، أرض الحرم التي قال الله تعالى فيها: [إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي

بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ] [آل عمران: 96] وداخل (بكة) دائرة أصغر وأقدس

وهي الساحة المحيطة بالكعبة والمشتملة على مقام إبراهيم وحِجْر إسماعيل وبئر

زمزم.. وفضائلها معروفة، وداخل تلك الدائرة دائرة أصغر ولكنها أقدس وهي

الكعبة نفسها التي نقصدها في صلاتنا ودعائنا ومناسكنا، وأقدس ما فيها الحجر

الأسود الذي نتقرب إلى الله بتقبيله واستلامه.

ونأتي إلى الدائرة الكبرى الأخرى، وهي أرض الشام؛ إذ إننا نجد أن لها

خصوصية وفضلاً بكمالها، فهي الأرض الموصوفة بالقدسية والبركة في كثير من

آيات القرآن؛ قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: [وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إلَى الأَرْضِ

الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 71] وقال عن موسى عليه السلام: [يَا قَوْمِ

ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] [المائدة: 21] [وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ

كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا] [الأعراف: 137]

وقال عن سليمان: [وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الأَرْضِ الَتِي

بَارَكْنَا فِيهَا] [الأنبياء: 81] وداخل تلك الدائرة الكبيرة دائرتان: إحداهما سيناء،

التي نزل فيها الوحي على موسى لله فأنزل عليه الشريعة، وأجرى على يديه

المعجزات الكثيرة، تلك الأرض التي أقسم الله تعالى بها في قوله: [وَالتِّينِ

وَالزَّيْتُونِ (?) وَطُورِ سِينِينَ (?) وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ] [التين: 1-3] وداخلها دائرة

أصغر وأقدس، وهي منطقة الطور، التي كلم الله تعالى موسى عند جبلها: [وَلَمَّا

جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ] [الأعراف: 143]

والدائرة الأخرى هي بيت المقدس التي اتخذها سليمان لله عاصمة لمملكته، وداخلها

دائرة أصغر وهي المنطقة الواقعة داخل أسوار الأقصى، وهي التي أُسري

بالرسول لله إليها ورَبَط البراق في سورها، وداخلها دائرة أصغر، وهي المنطقة

التي عُرج بالنبي لله منها إلى السماء، وهي تستمد خصوصيتها من كونها الأرض

التي يُعرج منها إلى السماء، وهي الصخرة المشرفة، ولها فضل بلا شك في تاريخ

الأنبياء ولكن ليس في شريعتنا عبادة متعلقة بها.

قد يقول قائل: ما علاقة هذا الكلام الأشبه بأبواب الفضائل، في موضوع

سياسي يتناول السياسات اليهودية والعربية وربما العالمية المستقبلية؟ !

والجواب: أن هذا الكلام يتعلق بصلب الصراع ولبابه، ويمثل الخلفية

الأصلية لفصوله وأبوابه؛ ذلك أن ما نقدسه نحن المسلمين في جزيرة العرب

وحجازها ومسجديها ... يقدس اليهود مثله بتدرج قريب في بلاد الشام، فهم

يشاركوننا في النظر إلى تلك الأرض وما فيها بعين التقديس والتكريم، غير أن

منطلقاتهم غير منطلقاتنا، وتصوراتهم غير تصوراتنا، ومصادرهم غير مصادرنا؛

لأن عقائدهم غير عقائدنا.

ولكن.. لا ينبغي أن ننسى أن اليهود أمة لها دين، وأن لها استمراراً في

التاريخ بهذا الدين حتى آخر الزمان، فارتباط اليهود بديانتهم اليهودية مع تحريفها،

وكذلك ارتباط النصارى بالديانة النصرانية، سيظل مقترناً ومتوازياً من الناحية

الزمانية، مع ارتباط الأمة المسلمة بدين الإسلام القويم، لهذا كان الصراع فيما

مضى دينياً عقائدياً، وسيستمر دينياً وعقائدياً؛ لأنهم سيظلون على دينهم وسنظل

على ديننا، ولهذا أمرنا الله تعالى باستشعار هذا المعنى في كل صلاة فريضة أو

نافلة، لنجدد البراءة منهم ومن أديانهم الباطلة، ونجدد المفاصلة العقائدية بيننا

وبينهم، فنتلو في كل صلاة قول الله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] 6 [صِرَاطَ

الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] [الفاتحة: 6-7]

فالمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى؛ كما صح بذلك الحديث،

وعلى هذا نجزم أن العلمانية عند اليهود وعند النصارى ظاهرة طارئة وجزئية

وعارضة، وهي في طريقها إلى الأفول ليحل الدين مكانها ... تماماً كما يظهر الآن

أن العلمانية في بلاد المسلمين ليست إلا ظاهرة طارئة وجزئية وعارضة، وهي

أيضاً في طريقها إلى الاختفاء والأفول.. وعندها سيتجرد الصراع بشكله العقائدي،

بين حق واضح يمثله المسلمون، وباطل صُراح يمثله اليهود والنصارى.

لهذا أقول: لا ينبغي أن ننظر إلى الأمر نظرة جزئية؛ فالأرض بأكملها

مقدسة عند اليهود، وهم يتحركون وفق تصور مسبق، وعقيدة واضحة في اعتبار

تلك الأرض بكمالها ملكاً خاصاً بهم، كانوا قد أخرجوا منها، ثم عادوا إلى أجزاء

منها، ولا يمكن أن يضيّعوا فرصة تمكّنهم من استكمال استرجاع بقية أجزائها، إنها

أرض (إسرائيل الكبرى) التي تمثل الدائرة الكبرى التي أشرنا إليها.

ولكن ما هي أبعاد تلك الدائرة الكبرى ... أهي بيت المقدس فقط ... أم هي

أرض فلسطين فحسب؟ ... الجواب: لا هذه ولا تلك ... إنها شيء آخر أكبر

عندهم بكثير مما نظن؛ فبهذا تحدثهم توراتهم وتلمودهم، ويحدد حاخاماتهم،

ويخطط ساستهم، وينفذ جنودهم ... وبمثل هذا تتحول الأحلام عندهم إلى حقائق!

إنهم ينسبون إلى التوراة المنزلة على موسى عليه السلام هذا النص الموجه

إلى إبراهيم عليه السلام عندما قرر اعتزال أبيه وقومه: [اذهب من أرضك ومن

عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك..] [6] أما حدود هذه الأرض

وفق توراتهم وكذلك وفق عقيدتهم فتدل عليها تلك النصوص: [وظهر الرب

لأبرام] 7 [، وقال: لنسلِكَ أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحاً للرب..] [8]

[.. في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلِكَ أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات] [9] .

وأما عن قيمه تلك الأرض وواجب اليهود تجاهها فذلك يحدده التلمود، الذي

يفسرون به التوراة: [واجب كل يهودي أن يعيش في أرض إسرائيل، وهذا

الواجب يعلو على أي التزام آخر] .. [أرض إسرائيل طاهرة، لا بد من دفن

المتقين من بني إسرائيل فيها، وإن لم يتيسر ذلك يوضع مع الكفن شيء من التراب

المجلوب منها] [.. الذي يتمشى أربعة أذرع في أرض إسرائيل على يقين أنه من

أبناء الآخرة] [10] .

وتفصل المصادر التفسيرية الحديثة أيضاً الكلام عن هذه النصوص التوراتية، يقول الدكتور بوست في قاموس (الكتاب المقدس) : (الأرض الموعود بها إبراهيم

الموصوفة في كتابات موسى تمتد من جبل هور إلى مدخل حماة، ومن نهر مصر

العريش إلى النهر الكبير نهر الفرات، وأكثر هذه الأراضي كانت تحت سلطة

سليمان، فكان التخم الشمالي حينئذ سورية، والشرقي الفرات وبرية سورية،

والجنوبي برية التيه وأدوم في سيناء، والغربي البحر المتوسط) [11] .

هذا من ناحية التنظير الاعتقادي والفكري، أما من حيث التنظيم العملي

والحركي، فقد تلقّف رواد الحركة الصهيوينية الحديثة هذه المفاهيم، وكان على

رأسهم الصحفي النمسوي، (تيودور هرتزل) الذي نذر نفسه لتحويلها من أحلام

وآمال، إلى حقائق وأعمال.

لقد كانت (إسرائيل الكبرى) هي أولى الآمال التي داعبت خيال هرتزل،

واختمرت في ذهنه منذ الصبا، فقد حكى أنه رأى في حلمه أن مسيح اليهود

المنتظر يحتضنه ويطوقه بذراعيه ويقول: (من أجل هذا الصبي كنت أصلي) ثم

خاطبه قائلاً: (اذهب وأعلن لليهود بأني سوف آتي عما قريب) [12] .

وقد كان تصوره للأرض التي ينبغي تهيئتها لمقدم هذا المسيح واضحاً منذ

اليوم الأول لسعيه في تأسيسها، فهو يفترض أن الانطلاق سوف يكون من أي

أرض يمكن الحصول عليها في فلسطين لتكون قاعدة يبدأ التوسع منها على مراحل

في الزمن المتتابع، حتى يكتمل المشروع، قال في مذكراته: (إن القاعدة يجب أن

تكون في فلسطين أو بالقرب منها.. إن علينا تشييد البنيان على أساس قوميتنا

اليهودية، ولذلك لا بد من حصولنا على وسائل للجذب السياسي ... إنني لا أستطيع

الإفصاح أكثر من هذا) [13] .

فالقاعدة والمنطلق إذن (أرض فلسطين) أو (إسرائيل الصغرى) ولكن هل هذا

منتهى الأحلام قبل مئة عام؟ ! لا؛ فإن المساحة التي لن يرضى اليهود بأقل منها

هي المساحة المعروفة عندهم بـ (مملكة داود وسليمان) ! قال هرتزل: (إن الشعار

الذي يجب أن نرفعه هو فلسطين داود وسليمان) .

إنها ليست فلسطين التي نعرفها بحدوها المعاصرة، إنها أرض الشام كلها وما

حولها أرض الميعاد.. أو (إسرائيل الكبرى) ! يقول هرتزل في مذكراته:

(المساحة ... من نهر مصر إلى نهر الفرات، نريد فترة انتقالية في ظل مؤسساتنا

الخاصة، وحاكماً يهودياً خلال هذه الفترة، بعد ذلك تنشأ علاقة كالتي تقوم الآن بين

مصر والسلطان، وما أن يصبح السكان اليهود في منطقة ما، ثلثي مجموع سكانها

حتى تصبح الإدارة اليهودية سارية المفعول على الصعيد السياسي، بينما تعتمد

الحكومة المحلية دائماً (سلطات البلدياتى) على عدد الناخبين في المنطقة أو

المحلة) [14]

أقول: لا بد لنا من استرجاع المعاني العملية لتلك الكلمات التي قيلت قبل قرن

كامل في ضوء ما طرأ وما يطرأ من أوضاع وترتيبات في المنطقة.. ماذا حدث

في منطقتنا بعد قرن من هذه الكلمات التي سُطّرت في وقت لم يكن لليهود أي سطوة

أو سلطة على أية رقعة من فلسطين وما حولها!

ما هي يا ترى المرحلة الانتقالية؟

ما المقصود بحكم اليهود فيها؟ وما هي العلاقة التي أراد هرتزل أن تنشأ بعد

ذلك بين الأقطار في المنطقة، والتي أعطى لها تشبيهاً بالعلاقة بين مصر وبين

تركيا تحت حكم الباب العالي، إنها علاقة التابع بالمتبوع! أليس كذلك؟ ! .

وما هي (سلطات) البلديات التي سيعتمد عليها؟ !

هذه الأحلام التي كان يحلم بها شاب في آخر الثلاثينيات من عمره منذ مئة

عام ... من المسؤول عن تحقيقها أو تحقيق الكثير منها؟ .. لا بد أن نعترف أنه

خلّف وراءه أجهزة فعالة، تحوّل الأحلام إلى حقائق.

فأين العرب طيلة هذه المدة؟ بل أين كان المسلمون؟ ألم يكونوا يحلمون

أيضاً؟ أم أن نومهم كان بلا أحلام؟ ! أم أنهم استبدلوا الحُلم بحِلم طويل طويل لكنه

حِلم الضعفاء؟

لقد قامت الدولة بعد خمسين عاماً من تخطيط هرتزل في الموعد الذي حدده

وذكره في مذكراته (ص581) .

وبعد أن قامت بالفعل، بدا لليهود أن هناك من يريد مساومتهم على حدود تلك

الدولة في المستقبل، حيث تشكلت في الأمم المتحدة عام 1947م لجنة تحقيق دولية

بشأن تلك القضية، فتقدم عضو الوكالة اليهودية: الحاخام (فيشمان) بخريطة توضح

حدود الدولة اليهودية التي يرى اليهود أن لهم الحق الكامل في استردادها تنفيذاً

لوعود التوراة ومشاريع هرتزل، ووقف فيشمان ليعرض حدود تلك الدولة التي تبدأ

( ... من مدينة الإسكندرية، محيطة بمنطقة الدلتا غرباً في مصر، ثم تمتد جنوباً

مع مجرى نهر النيل، لتتجه شرقاً في خط مستقيم، قاطعة الجزيرة العربية، حتى

محاذاة مصب نهر الفرات، ثم تصعد الحدود مع مجرى الفرات، حتى حدود تركيا

لتصل إلى سورية، لتقفل الدائرة بعد ذلك بالحدود الشرقية للبحر الأبيض المتوسط) !!

والآن ... وبعد خمسين عاماً أخرى من عرض (فيشمان) هل انتهى الحُلم؟

هل هذه مجرد أوهام وأحلام تسبح في الخيال كما يحلو لبعضنا أن يردد؟ ...

أقول: لا، أبداً، لم ينته حلم اليهود في (إسرائيل الكبرى) ومَنْ شكّ في هذا، فليسأل العَلَمَ الإسرائيلي ذي الخطين الأزرقين اللذين يرمزان إلى نهري النيل

والفرات! وليسأل النجمة السداسية المدّعاة بـ (نجمة داود) التي ترمز إلى حدود

مملكة داود، والتي يتطابق مثلثاها للدلالة على تعاضد السلطة الدينية مع السلطة

التنفيذية كما كان شأن الدولة في عهد داود وسليمان، وليسأل اللافتة المنصوبة على

الكنيست الإسرائيلي متضمنة الوعد المذكور في التوراة، وليسأل بعد ذلك تلك

العملة المعدنية الإسرائيلية التي يتعامل بها اليهود منذ أواخر العقد الماضي صغارآً

وكباراً نساءً ورجالاً وأطفالآً، لتذكرهم كل يوم.. بل كل لحظة وهم يتعاملون بها

بالحلم الباقي.. والذي لم يكتمل وهو: (إسرائيل الكبرى) حيث رسمت على العملة

خريطة لتلك الأرض بحدودها من النيل إلى الفرات.

فهل انتهى الحلم..؟ !

وللحديث بقية،،،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015