دراسات في الشريعة والعقيدة
التفسير بالرأي
مفهومه.. حكمه.. أنواعه
(2من2)
مساعد الطيار
تناول الكاتب في الحلقة الماضية إيضاح مفهوم الرأي، وأنواعه، وموقف
السلف منه، حيث تراوح هذا الموقف بين ذمه وإعماله، ثم أوضح العلوم التي
يدخلها الرأي، وحكم القول بالرأي، الذي شمل: الرأي المذموم والرأي المحمود..
وأخيراً عرض الكاتب: الرأي في التفسير، فتناول فيه: موقف السلف منه،
وأنواع الرأي في التفسير، ويستكمل بيان هذه النقطة ونقاط أخرى في هذه الحلقة. ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
شروط الرأي المحمود في التفسير:
متى يكون الرأي محموداً؟
سبق في بيان حدِّ الرأي المحمود أنه ما كان قولاً مستنداً إلى علمٍ؛ فإن كان
كذلك فهو رأيٌ جائز، وما خرج عن ذلك فهو مذموم.
ولكن.. هل لهذا العلم حدّ يُعْرَفُ به، بحيث يمكن تمييزه والتعويل عليه في
الحكم على أيِّ رأيٍ في التفسير؟
لقد اجتهد بعض المتأخرين في بيان جملة العلوم التي يحتاجها من يفسر برأيه
حتى يخرج عن كونه رأياً مذموماً.
فالراغب الأصفهاني (ت: القرن الخامس) جعلها عشرة علوم، وهي: علم
اللغة، والاشتقاق، والنحو، والقراءات، والسّيَر، والحديث، وأصول الفقه،
وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة [1] .
وجعلها شمس الدين الأصفهاني (ت: 749) خمسة عشر علماً، وهي: علم
اللغة، والاشتقاق، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع،
والقراءات، وأسباب النزول، والآثار والأخبار، والسنن، وأصول الفقه، والفقه
والأخلاق، والنظر والكلام، والموهبة [2] .
وقد ذكر الأصفهانيان أن من تكاملت فيه هذه العلوم خرج عن كونه مفسراً
للقرآن برأيه (أي: المذموم) .
وقد نبّه الراغب على أن (من نقص عن بعض ما ليس بواجبٍ معرفته في
تفسير القرآن، وأحسّ من نفسه في ذلك بنقصه، واستعان بأربابه، واقتبس منهم،
واستضاء بأقوالهم، لم يكن - إن شاء الله - من المفسرين برأيهم) [3] .
(أي: المذموم) .
وفيما يظهر - والله أعلم - أن في ذكر هذه العلوم تكثّّراً لا دليل عليه، مع ما
على بعضها من ملاحظة؛ كعلم الكلام.
إن تكامل هذه العلوم أشبه بأن يكون شرطاً في المجتهد المطلق لا في المفسر؛
إذ متى يبلغ مفسر تكامل هذه العلوم فيه؟
ولو طُبق هذا الرأي في العلوم المذكورة لخرج كثير من المفسرين من زمرة
العالمين بالتفسير، ولذا تحرّز الراغب بذكر حال من نقص علمه ببعض هذه العلوم، وبهذا يكون ما ذكره بياناً لكمال الأدوات التي يحسن بالمفسر أن يتقنها، وإن لم
يحصل له ذلك فإنه يعمد إلى النقل فيما لا يتفق له.
ويظهر أن أغلب المفسرين على هذا السبيل، ولذا ترى الواحد منهم يُبرِز في
تفسيره العلم الذي له به عناية؛ فإن كان فقيهاً - كالقرطبي، برز عنده تفسير آيات
الأحكام.
وإن كان نحوياً - كأبي حيان - برز عنده علم النحو في تفسيره للقرآن.
وإن كان بلاغياً أديباً - كالزمخشري - برز عنده علم البلاغة في تفسيره
للقرآن، ... وهكذا.
هذا.. ويمكن القول بأن النظر في هذا الموضوع يلزم منه معرفة ما يمكن
إعمال الرأي فيه، مما لا يمكن، ثم تحديد مفهوم التفسير لمعرفة العلوم التي
يحتاجها المفسر برأيه.
أما التفسير فنوعان: ما جهته النقل، وما جهته الاستدلال.
والأول: لا مجال للرأي فيه، والثاني: هو مجال الرأي.
ومن التفسير الذي جهته النقل: أسباب النزول، وقصص الآي، والمغيبات،
ويدخل فيه كلّ ما لا يتطرّق إليه الاحتمال؛ كأن يكون للفظ معنى واحدٌ في لغة
العرب.
وأما التفسير من جهة الاستدلال فكل ما تطرّق إليه الاحتمال؛ لأن توجيه
الخطاب إلى أحد المحتملات دون غيره إنما هو برأيٍ من المفسر، وبهذا برز
الاختلاف في التفسير.
وأما مفهوم التفسير؛ فهو بيان المراد من كلام الله سبحانه وما يمكن أن
يحصل به البيان فهو تفسيرٌ.
وبهذا يظهر أن كثيراً من العلوم التي ذكرها الأصفهانيان لا يلزمان في التفسير
إلا بقدر ما يحصل به البيان، وما عدا ذلك فهو توسّع في التفسير، بل قد يكون في
بعض الأحيان به خروجٌ عن معنى التفسير، كما حصل للرازي (ت: 604) في
تفسيره، ولابن عرفه (ت: 803) في إملاءاته في التفسير.
ثم اعلم أن هذه التوسعات إنما حصلت بعد جيل الصحابة والتابعين - في
الغالب - وإنما كان ذلك بظهور أقسام العلوم - من نحوٍ وفقه وتوحيد وغيرها -
وتَشَكّلها؛ مما كان له أكبر الأثر في توسيع دائرة التفسير، حتى صار كل عالمٍ بفنٍّ- إذا شارك في كتابة علم التفسير - يصبغ تفسيره بفنِّه الذي برّز فيه.
ويمكن تقسيم العلوم التي يحتاجها من فسر برأيه إلى نظرين:
الأول: نظرٌ في علوم الآية:
ويكون ذلك بالنظر إلى ما في الآية من علوم؛ كالناسخ والمنسوخ، والمطلق
والمقيد، والخاص والعام، ومفردات اللغة، وأساليبها، وهكذا.
وإنما يقال ذلك؛ لأنه ليس في كل آية ما يلزم منها بحث هذه العلوم؛ إذ قد
توجد في آية، وتتخلّف عن آيات.
* وإذا أمعنت النظر وجدت أن علم اللغة هو من أهم العلوم التي يجب على
المفسر معرفتها، ذلك أنه لا تخلو آية من مبحثٍ لغوي.
ومن الآثار التي وردت عن السلف في بيان أهمية اللغة، ما يلي:
1- عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه
تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء،
وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره) [4] .
2- وروي عن مجاهد (ت: 104) أنه قال: (لا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم
الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب) [5] .
3- وعن يحيى بن سليمان قال: سمعت مالك بن أنس (ت: 179) يقول:
(لا أوتى برجلٍ يفسر كتاب الله غير عالم بلغات العرب إلا جعلته نكالاً) [6] .
ولو قرأت في تفسير السلف لوجدت أثر اللغة في التفسير عندهم، ومن
أوضح ذلك استشهادهم بأشعار العرب:
ومن أمثلة أهمية معرفة اللغة لمن فسر برأيه ما يلي:
أ - في تفسير قوله - تعالى: [وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ] [التوبة: 47] قال
الأزهري (ت: 37) : (قول الليث: الوضع: سيرٌ دونٌ. ليس بصحيح.
والوضع: هو العَدْوُ. واعتبر الليث اللفظ ولم يعرف كلام العرب فيه) [7] .
ب - قال الأزهري (ت: 370) : ( ... عن أبي حاتم (ت: 255) في قوله: [فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ] [الأنبياء: 87] أي: لن نضيِّق عليه.
قال - أي: أبو حاتم: ولم يدر الأخفش ما معنى [نَقْدِرَ] ، وذهب إلى
موضع القُدرة، إلى معنى: فظنّ أن يفوتنا، ولم يعلم كلام العرب حتى قال: إن
بعض المفسرين قال: أراد الاستفهام: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟ ولو علم أن معنى
نقدر: نضيِّق، لم يَخْبِط هذا الخبط، ولم يكن عالماً بكلام العرب، وكان عالماً
بقياس النحو) [8] .
* ومن العلوم التي يلزم معرفتها الناسخ والمنسوخ وما شابهه من المباحث؛
كالمطلق والمقيد، والخاص والعام، ومعرفتها لازمة للمفسر بلا شك، ومن الآثار
التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: (انتهى
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رجل يقصّ [9] ، فقال: أعلمتَ
الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكتَ وأهلكتَ) [10] .
وقد استدل مَنْ كتب في علم الناسخ والمنسوخ في القرآن بهذا الأثر لبيان
أهمية هذا العلم. وإذا كان علي رضي الله عنه قد اعترض على القاصِّ؛ فالمفسر
من باب أوْلى ينبغي أن ينبّه إلى ذلك، لما في جهل هذا العلم من أثر في عدم فهم
التفسير.
* ومن العلوم سبب النزول وقصص الآي؛ ذلك أن معرفة سبب النزول
وقصص الآي يفيد في معرفة تفسير الآية.
ومن الأمثلة التي تدل على أهمية معرفة هذا الجانب، وأن عدم معرفته يوقع
في الخطأ، ما وقع لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت: 210) في تفسير قوله تعالى: [وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] [الأنفال: 11] حيث قال: (مجازه:
يفرغ عليهم الصبر، وينزِّلُه عليهم، فيثبتون لعدوهم) [11] .
وسبب النزول يدلّ على خطأ أبي عبيدة في تفسيره هذا، فلما لم يعرف
السبب نحى في تفسيره هذا المنحى اللغوي الذي لا تدلّ عليه الآية بسببها.
والتثبيت المذكور في الآية حقيقي، وهو أن أقدام المسلمين لا تسوخ في
الرمل لما نزل عليه المطر، وبهذا جاء التفسير عن الصحابة الذين شاهدوا النزول، وعن التابعين الذين نقلوا عنهم [12] .
* ومنها معرفة السنة النبوية، ويكون ذلك بالرجوع إلى صريح التفسير عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يكون بالرجوع إلى أقواله وأفعاله التي لها أكبر
الأثر في فهم القرآن.
ومما يمكن التمثيل به من استعانة المفسر بالسنة النبوية، ما رواه الطبري عن
ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة
عن النبي: إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدركه ذلك لا محالة، فزنى
العينين النظر ... ) [13] .
ثم إن عدم معرفة السنة التي تفسر القرآن قد تجعل المفسر يجنح إلى مصدر
آخر؛ فيفسر به لعدم ورود هذا التفسير النبوي إليه.
ومما يمكن أن يُمثّل به هنا ما روي عن السلف في تفسير قوله - تعالى: [يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ] [القلم: 42] فقد فسّر جمع من السلف الساق بالمعنى اللغوي، أي: عن أمر شديد [14] ، ومنهم: ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة
وعكرمة [15] .
وقد ورد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (سمعت النبي -صلى
الله عليه وسلم- يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى
من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسُمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً
واحداً) [16] .
وهذا الحديث يفسِّرُ الساق الذي جاء في الآية نكرةً لم يُضَفْ، ويبيِّن أن
المراد بالساق ساق ربنا عزّ وجلّ.
ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لاعتُمِدَ قول ابن عباس وتلاميذه في تفسير الساق،
والله أعلم.
وبعد.. فهذه بعض العلوم التي إن جهل المفسر بها فإنه يقع في التأويل الخطأ، ولا يحالفه الصواب في معنى الآية [17] .
الثاني: نَظَرٌ في طبقة المفسر:
المفسرون الذين يجب الرجوع إلى أقوالهم، والأخذ بها، وعدم الخروج عنها
هم الصحابة والتابعون وأتباعهم. فما جاء عنهم فإنه لازم لمن بعدهم من حيث
الجملة ولا يجوز مخالفتهم.
وكان عدم الاعتماد على تفسيرهم من أهم أسباب بروز الرأي المذموم، كما
يشير إليه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) بقوله: (وأما النوع الثاني من سببي
الخلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حَدَثَتا
بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يُذكر فيها كلام
هؤلاء صرفاً لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من هاتين الجهتين) [18] .
ولما كان لهؤلاء السلف من تقدّمٍ في العلم شهد لهم به كل من جاء بعدهم من
العلماء؛ فإن الاعتماد على أقوالهم مدعاة للخروج عن الرأي المذموم، ولذا جعل
ابن جرير من شروط المفسر أن لا يكون تأويله وتفسيره خارجاً عن أقوال السلف
من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة [19] . ويجب التنبه إلى أن
كل من رجع إلى أقوالهم وتخيّر منها، فإنه قائل بالرأي؛ لأن تخيره معتمد على
عقله كما فصل ابن جرير الطبري في تفسيره.
النوع الثاني: الرأي المذموم وصوره في التفسير:
الرأي المذموم في التفسير هو القول في القرآن بغير علم، سواءً أكان عن
جهلٍ أو قصورٍ في العلم أم كان عن هوى يدفع صاحبه إلى مخالفة الحق، وقد سبق
بيان ذلك مع أدلة النهي عنه.
ومن صور الرأي المذموم ما يلي:
1- تفسير ما لا يعلمه إلا الله:
وهو أحد أوجه التفسير التي أوردها ابن عباس، ويشتمل على أمرين:
أحدهما: تكييف المغيبات التي استأثر الله بعلمها؛ كتكييف صفاته سبحانه،
أو غيرها من المغيبات.
ثانيها: تحديد زمن المغيبات التي ورد ذِكْرُ خروجها؛ كزمن خروج الدابة،
أو نزول عيسى، أو غير ذلك.
فهذه الأشياء لا سبيل للبشر إلى معرفتها؛ فمن زعم أنه قادرٌ على ذلك فقد
أعظم الفرية على الله.
2- من ناقض التفسير المنقول أو أعرض عنه:
يشمل التفسير المنقول: كل ما نُقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو
أصحابه أو التابعين وأتباعهم، فمن أقدم على التفسير دون الرجوع إلى التفسير
المنقول فإنه سيقع في الرأي المذموم؛ لأن جُزءاً من التفسير لا يمكن معرفته إلا
عن طريق النقل عنهم؛ كأسباب النزول، وقصص الآي، وناسخها ... وغيرها.
3- من فسر بمجرد اللغة دون النظر في المصادر الأخرى:
إن التسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع
والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وغيرها؛ مُوقِعٌ في الخطأ، فمن لم يُحكّم ظاهر
التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة
من قال برأيه المذموم [20] .
واعتماد اللغة فقط دون غيرها من المصادر، هو أحد أسباب الخطأ الذي يقع
في التفسير، كما حكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية [21] .
4- أن يكون له رأي فيتأول القرآن على وفق رأيه [22] :
ويكثر هذا عند أهل الأهواء والبدع، حيث أنهم يعتقدون الرأي، ثم يبحثون
عن دليله، وقد يحرّفون الكلم عن مواضعه ليوافق آراءهم، ولو لم يكن لهؤلاء هذا
الاعتقاد والرأي لما فسر القرآن بهذه التفسيرات المنحرفة.
ويقع خطأ أولئك على أقسام:
الأول: الخطأ في الدليل والمدلول: وذلك أن المفسر يستدل لرأيه بدليل،
ويكون رأيه الذي استدل له باطلٌ فيستلزم بطلان دلالة الدليل على المستدل له.
ومثال ذلك أن المعتزلة اعتقدوا أن الله سبحانه لا يُرى في الآخرة، وهذا
باطل، ثم استدلوا لهذا بقوله تعالى: [لَن تَرَانِي] [الأعراف: 143] فجعلوا [لَن] لتأبيد النفي، وهذا غير صحيح في هذا الموضع.
ومثاله كذلك استدلال بعض المتصوفة على جواز الرقص وهو حرام بقوله
تعالى: [ارْكُضْ بِرِجْلِكَ] [ص: 42] [23] .
فالرّقص حرام، والآية لا تدل عليه لا من قريب ولا من بعيد.
الثاني: الخطأ في الاستدلال لا في المدلول: وفي هذا يكون المدلول بذاته
صحيحاً، ولكن حَمْل الآية عليه لا يصح.
ومثاله ما فسر به بعضهم قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ] [البقرة: 249] .
حيث قال: (هذه الآية مَثَلٌ ضربه الله للدنيا، فشبهها الله بالنهر، والشارب
منه بالمائل إليها المستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها،
والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله
مختلفة) [24] .
فهذا الكلام من حيث هو في ذاته مجرداً عن الآية كلام صحيح، ولكنّ جَعْلَهُ
تفسيراً للآية خطأٌ ظاهرٌ، ولذا قال القرطبي (ت: 671) معلقاً على هذا القول:
(ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل، والخروج عن الظاهر، ولكن
معناه صحيح من غير هذا) [25] .
وبعد.. فهذه بعض صور التفسير بالرأي المذموم. والله أعلم.
التفسير بين الأثر والرأي:
لقد ظهر من خلال الأمثلة الدالة على جواز الرأي أن الرأي قد برز في عصر
الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان قليلاً، ثم اتسع وانتشر أكثر في عهد
الصحابة ومَنْ بعدهم.
كما ظهر أن مِن الصحابة والتابعين وأتباعهم مَنْ فسروا القرآن برأيهم، فهل
نُسمِّي ما ورد عنهم تفسيراً بالمأثور، وما ورد عن غيرهم تفسيراً بالرأي؟
إن تقسيم التفسير على هذا النحو فيه قصورٌ ظاهرٌ [26] ، وذلك لأمرين:
الأول: أن أغلب من قسّم هذا التقسيم جعل حكم المأثور وجوب الأخذ به على
إطلاقه، مع أن بعضهم يحكي خلاف العلماء في قبول أقوال التابعين، كما ينسى
حكم ما اختلفوا فيه: كيف يجب الأخذ به مع وجود الاختلاف بينهم؟
الثاني: أن في ذلك تناسياً للجهد التفسيري الذي قام به السلف، وتجاهلاً
لرأيهم في التفسير الذي يُعَدّون أول من بذره وأنتجه.
إن هؤلاء السلف قالوا في القرآن بآرائهم، كما قال المتأخرون بآرائهم، ولكن
شتان بين الرأيين؛ فرأي السلف هو المقدّم بلا إشكال.
إن المقابلة بين التفسير بالمأثور (على أنه تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة،
ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين) والتفسير بالرأي (على أنه ما عدا ذلك)
خطأ محضٌ لا دليل عليه من قول السلف أو من العقل.
إن تسمية تفسير السلف تفسيراً بالمأثور باعتبار أن طريق الوصول إليه هو
الأثر تسميةٌ لا غبار عليها، وهو بهذا لا يقابل التفسير بالرأي، بل التفسير بالرأي
ممتزج فيه؛ لأن من تفسيرهم ما هو نقلٌ لا يصح تركه أو إنكاره؛ كأسباب النزول، ومنه ما هو استدلال وقولٌ بالرأي، وكلا هذين عنهما؛ إنما طريقنا إليه هو الأثر.
كتب التفسير بين الرأي والأثر:
بناءً على ما وقع من مقابلة التفسير المأثور بالتفسير بالرأي، وقع تقسيم
التفاسير إلى تفاسير بالمأثور وتفاسير بالرأي، وقد نشأ بسبب ذلك قصورٌ آخر،
وذلك في أمرين:
الأول: أنه قَلّ أن تترك التفاسير المعتبرة أقوال السلف، بل تحرص على
حكايتها، ومع ذلك تجد أن بعض هذه التفاسير حُكِمَ عليه بأنه من التفسير بالمأثور
والآخر من التفسير بالرأي [27] .
والصواب أن يقال: إن المفسر الفلاني مكثر من الرواية عن السلف مكثر من
الاعتماد على أقوالهم، والآخر مقلّ من الرواية عنهم أو الاعتماد عليهم.
الثاني: أن من حُكِمَ على تفسيره بأنه من التفسير بالمأثور قد حِيفَ عليه
وتُنُوسي جهده الخاص في الموازنة والترجيح بين الأقوال التي يذكرها عن السلف،
وأشهر مثالٍ لذلك إمام المفسرين ابن جرير الطبري، حيث يعدّه من يقابل بين
التفاسير بالمأثور والتفسير بالرأي من المفسرين بالأثر، وهذا فيه حكم قاصرٌ على
تفسير الإمام ابن جرير، وتعامٍ أو تجاهلٌ لأقواله الترجيحية المنثورة في كتابه.
هل التفسير منسوب إليه أم إلى من يذكرهم من المفسرين؟ !
فإذا كان تفسيره هو؛ فأين أقواله وترجيحاته في التفسير؟ !
أليست رأياً له؟
أليست تملأ ثنايا كتابه الكبير؟ !
بل أليست من أعظم ما يميّز تفسيره بعد نقولاته عن السلف؟ !
إن تفسير ابن جرير من أكبر كتب التفسير بالرأي، غير أنه رأي محمود؛
لاعتماده على تفسير السلف وعدم خروجه عن أقوالهم، مع اعتماده على المصادر
الأخرى في التفسير.
كما أن تفسيره من أكبر مصادر التفسير المأثور عن السلف، وفَرْقٌ بين أن
نقول: فيه تفسير مأثور، أو أن نقول: هو تفسير بالمأثور؛ لأن هذه العبارة تدل
على أنه لا يذكر غير المأثور عن السلف، وتفسير ابن جرير بخلاف ذلك؛ إذ هو
مع ذكر أقوالهم يرجِّح ويعلِّل لترجيحه، ويعتمد على مصادر التفسير في الترجيح.
ولكي يَبِين لك الفرق في هذه المسألة: وازن بين تفسيره وتفسير عَصْرِيّهِ ابنِ
أبي حاتم (ت: 327) الذي لا يزيد على ذكر أقوال السلف، وإن اختلفت أقوالهم
فلا يرجح ولا يعلق عليها، أليس بين العالمين فرق؟
وأخيراً.. هذه بعض قضايا في التفسير بالرأي، والموضوع يحتاج إلى بحث
أعمق وأطول، والله الموفق.