مجله البيان (صفحة 2745)

دراسات في الشريعة والعقيدة

صلة علم التفسير بالعلوم الأخرى

(2من2)

بقلم: ميمون بن عبد السلام باريش

بين الكاتب في مقالة في العدد الماضي أهمية ترتيب العلوم وصلة علم التفسير

بالعلوم الإنسانية، ووضح تعريف علم التفسير، ثم أخذ يبين منابع علم التفسير،

فذكر منها: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق، وعلوم

البلاغة. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة توضيح صلة علم التفسير بعلوم أخرى.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-

علم القراءات: وهو علم يعتمده المفسر لمعرفة كيفية النطق بألفاظ القرآن

الكريم، ويترتب على ذلك ترجيح بعض المعاني القرآنية المحتملة على بعض،

وهذا ما يساعد أيضاً على ترجيح بعض الأحكام الفقهية على بعض؛ إذ كلما تعددت

القراءات، كلما تنوعت المعاني واختلفت الأحكام؛ فمثلاً من قرأ قوله تعالى: [..أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ... ] [النساء: 43] . فسر الآية بأنه تعالى يريد باللمس

الجماع؛ ومن قرأ بقراءة: [أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ] . فسرها بأنه تعالى أراد مجرد

الجس باليد؛ ولكل من المعنيين حكمه الخاص.

علم أسباب النزول: وهو علم لا بد منه للوقوف على المعنى الدقيق لآيات الذكر الحكيم؛ إذ الجهل بأسباب النزول يوقع في اللبس والإبهام، وقد روي أن عثمان بن مظعون وعمرو بن معد يكرب استحلا الخمر محتجين بظاهر قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا] [المائدة: 93] .

حتى علما سبب نزول هذه الآية، وأنها نزلت جواباً على سؤال بعضهم لرسول

الله- صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لما نزلت آية تحريم الخمر، قالوا: كيف

بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم. وقد أخبرنا الله تعالى أنها رجس؟ فأنزل الله

تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا ... ] الآية [1] .

وللإشارة، فإن العلم بسبب النزول يورث العالم به الفهم السديد لمدلول الآية؛

وذلك باستحضاره للإطار العام الذي نزلت فيه، بما في ذلك الحالات النفسية

للمخاطبين إبان النزول سواء تعلق الأمر بالسلم أو الحرب، والأمن أو الخوف،

وسعة الرزق أو الجوع، والنصر أو الهزيمة، والبداوة أو التحضر، والقوة أو

الضعف ... وما إلى ذلك من الحالات التي ترفع اللبس عما أبهم من القرآن الكريم،

وكل ما من شأنه أن يؤهل المفسر لأن (يكشف من صور التلاؤم بين النص القرآني

والبيئة التي نزلت فيها: البشرية والزمانية والحالات النفسية والفكرية والفردية

والجماعية ما لا يمكن استيفاؤه بنظرات عامات وعناصر محددات) [2] . ويدخل

في ذلك أيضاً معرفة قصص الأنبياء، وأحوال الأمم السالفة وما سادها من جحود

وطغيان وتنكر ونكبات.. كل ذلك يعد مفتاحاً ضرورياً لفهم النص القرآني فهما

سديداً يتلاءم مع مقامه المقدس، ولا بد في ذلك كله من مراعاة قاعدة: (العبرة

بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) [3] .

علم الحديث رواية ودراية: قال تعالى: [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا

نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 44] [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ

الَذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [النحل: 64] .

فهذان النصان القرآنيان صريحان في اعتبار السنة النبوية الشريفة من

المصادر التي يستمد منها المفسر مادته في تفسير الذكر الحكيم. وهذا ما يستوجب

ضرورة استقراء الأحاديث المتعلقة بهذا الشأن، والنظر في متونها نظر تفقه وتدبر

لاستخلاص ما كان منها مناسباً لتفسير آية من الآيات. ولا يكفي للمفسر أن يكون

ملماً بمظان الحديث النبوي الشريف، مطلعاً على الأبواب الحديثية الخاصة بالتفسير، ... بل لا بد له أكثر من ذلك أن يكون ممارساً للصناعة الحديثية متقناً بها دراية أيضاً، حتى يتسنى له عرض الروايات المفسرة للقرآن على منهج النقد الحديثي، لا

سيما وأن أغلب ما يروى في التفسير لا يعدو أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً. ولقد

أشار الإمام أحمد إلى هذه الحقيقة حيث قال: (ثلاث كتب لا أصل لها: المغازي،

والملاحم، والتفسير) [4] ، بمعنى أن الغالب من هذه الكتب ليس لها أسانيد صحاح

متصلة. وقد ذكر جلال الدين السيوطي أن أغلب الروايات في التفسير ضعيفة وأن

(الذي صح من ذلك قليل جداً بل أصل المرفوع منه في غالب القلة) [5] . ...

ولهذا لا بد للمفسر من علم واسع في مصطلح الحديث لتمييز الروايات

الصحيحة من السقيمة عن طريق دراسة المتن والسند معاً دراسة نقدية علمية. وهذا

الزاد المصطلحي لا يخص الأحاديث المرفوعة فحسب، بل يحتاج إليه المفسر في

التعامل مع مرويات الصحابة للتمييز فيها بين ما كان موقوفاً على الصحابي مما

استنبطه بمحض اجتهاده، وما كان موقوفاً عليه لكنه في حكم المرفوع مما لا مجال

للرأي فيه ... وكل ذلك يجعل عملية تفسير القرآن الكريم بالسنة النبوية الشريفة أو

بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم عملية تجمع بين الصحة والصواب.

علم أصول الدين: وهو علم لا محيد للمفسر عنه، لا سيما وأن القرآن

الكريم في جانب واسع منه قد عالج مسائل عقدية عدة بعضها يتعلق بالألوهية

وبعضها بالنبوات وبعضها الآخر بالمعاد والوعد والوعيد وذكر الصراط المستقيم..

وغير ذلك من المسائل العقدية التي تدخل في اختصاص علم الكلام، وإلا فكيف

يتسنى للمفسر أن يستدل عقلياً في معرض تفسيره لآية مكية على ذات الحق تبارك

وتعالى وصفاته وأفعاله، وعلى ما يجوز وما يجب وما يستحيل في حقه عز وجل؟

وكيف يتسنى له أن يحارب عقائد الشرك والجحود ومجادلة أصحابها لرد ضلالاتهم

وبدعهم ودحض شبههم إذا لم يكن عالماً بطرق الحجاج والبرهان العقلي.

علم أصول الفقه: وهو أيضاً مما يحتاج إليه المفسر لتفسير كتاب الله عز

وجل، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام واستنباطها، ومن قواعده ما يدرك

به حدود الأشياء، والصيغ القرآنية إنشائية كانت أو خبرية، وبه تعرف صيغ

الأمر والنهي والمجمل والمبين والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمحكم

والمتشابه، وهو بهذا يساعد على (ضبط قوانين الاستدلال بالآيات والأخبار على

أحكام الشريعة) [6] .

علم الفقه: وهو علم لا بد منه لتفسير كتاب الله بحيث إن في القرآن الكريم آيات خاصة بالسياسة المالية وما يدخل فيها من بيوع ومداينات وربويات ومواريث، وغنائم وصدقات.. وآيات خاصة بالمناكحات وما يتعلق بها من نكاح وطلاق ورجعة وعدة وخلع وصداق وإيلاء وظهار ولعان والديات والقصاص.. وفيه غير ما ذكر من الآيات المتعلقة بالعبادات أو بالمعاملات، وسواء أكانت مجملة أم مفصلة، فهي تحتاج في تفسيرها إلى عدة فقهية كافية، أصولاً وفروعاً ... وعن أهمية هذا العلم، وعلاقته بكتاب الله عز وجل، يبين الغزالي أن إدراك الكثير من الآيات القرآنية لا يحصل إلا لمن جال وصال في كتب الأحكام الشرعية المندرجة تحت علم الفقه وعنه يقول: (علم الحدود الموضوعة للاختصاص بالأموال والنساء للاستعانة على البقاء في النفس والنسل، وهذا العلم يتولاه الفقهاء، ويشرح الاختصاصات المالية بمحل الحداثة أعني: النساء رُبْع النكاح، ويشرح الزجر عن مفسدات هذه الاختصاصات ربع الجنايات، وهذا العلم تعم إليه الحاجة لتعلقه بصلاح الدنيا أولاً ثم بصلاح الآخرة، ولهذا تميز صاحب هذا العلم بمزيد الاشتهار والتوقير وتقديمه على غيره من الوعاظ والقصاص والمتكلمين) [7] .

العلوم المستحدثة: ويقصد بها كل العلوم التي أفرزها التطور الحضاري،

سواء في العالم الإسلامي أو في العوالم الأخرى، ومنها الطب والرياضيات

والطبيعيات وعلم الفلك وعلم التشريح وعلم الأجنة والعلوم الكيميائية والفزيائية وعلم

النفس، وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والعلوم الاقتصادية ... وغيرها من العلوم

المستحدثة.

وللأستاذ سيد قطب رحمه الله كلام نفيس في نقد التفسير العلمي لآيات القرآن

الكريم، ومن ذلك قوله رحمه الله في تفسير قوله تعالى [يَسْأََلُونَكَ عَنِ الأََهِلَّةِ]

[البقرة: 189] ، (وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن

يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه

جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!

إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها.. إن كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات

متجددة متغيرة أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة تحتوي أولاً على خطأ منهجي

أساسي كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم:

الأولى: الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن

والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم،

على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه..

والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة

تعالج بناء الإنسان بناء يتفق مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي..

والثالثة: هي التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي

نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر ...

وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن ...

ولكن هذا لا يعني ألا ننفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون

والحياة والإنسان في فهم القرآن ... ) [8] .

وأما هذه، فقد اختلف علماء الإسلام في إمكانية الاستعانة بها لتفسير كتاب الله

عز وجل. فانطلاقاً من مبدأ (أمية الشريعة) ، ذهب الإمام الشاطبي إلى رفض

المذهب القائل بتوظيف العلوم المستحدثة في التفسير حيث قال: (ما تقرر من أمية

الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليه قواعد: منها أن

كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر

للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع

ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرفناه على ما تقدم لم

يصح، وإلا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف

بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا

المدعي سوى ما تقدم ( ... ) ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا

على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك

دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا) [9] وهذا نفسه ما قال

به بعض العلماء من السلف والخلف [10] .

وإذا كان الإمام الشاطبي ومن نحا نحوه قد مثلوا الاتجاه الرافض لتفسير

القرآن الكريم اعتماداً على ما توصلت إليه العلوم من نتائج وحقائق، فإن ثلة من

العلماء قد مثلوا الاتجاه المعاكس، ويأتي في مقدمتهم الغزالي الذي دعا دعوته

الشهيرة إلى توظيف الحقائق العلمية لفهم خطاب الله عز وجل، وذلك من منطلق

موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول؛ ومن منطلق أن (القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط

أنهارها وجداولها) [11] . وهو بهذا يؤكد أن أسرار الكثير من الآيات القرآنية لا

يحيط بها إلا من أحاط بالعلوم الحقة؛ إذ بعد أن ذكر جملة من العلوم مما كان سائداً

في عصره، أو مما اندثر، أو مما هو محتمل الحدوث، قال: (ثم هذه العلوم ما

عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن؛ فإن جميعها مغترفة من بحر

واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى وهو

بحر الأفعال مثلاً الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه

السلام: [وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] [الشعراء: 80] . وهذا الفعل الواحد لا

يعرفه إلا من عرف الطب بكماله؛ إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله

وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه. ومن أفعاله تبارك وتعالى تقرير معرفة الشمس

والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ]

[الرحمن: 5] ، وقال: [وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ]

[يونس: 5] ؛ وقال: [وَخَسَفَ القَمَرُ (?) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ] [القيامة: 8،

9] ، وقال: [يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ] [فاطر: 13] ؛

وقال: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] [يس: 38] .

ولا يعرف حقيقة سر الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار،

وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا من عرف هيئات تركيب السماوات والأرض.

ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ (?)

الَذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (?) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ] [الانفطار: 6، 8] إلا

من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهراً وباطناً، وعدد أنواعها وحكمتها

ومنافعها ( ... ) ولو ذهبت أفصِّل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال

لطال) [12] .

وللإشارة فإن ما ذهب إليه الغزالي من الاستعانة بنتائج العلوم لفهم الآيات

القرآنية ذات الصبغة العلمية، قد وجد من يؤكده ويشهد بصحته؛ إذ قال به علماء

جهابذة كبار يشهد لهم بالرسوخ في العلم وعلو الكعب فيه، فهذا جلال الدين

السيوطي يقول: (وأنا أقول قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواع

العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا في القرآن الكريم ما يدل عليها، وفيه

عجائب المخلوقات وملكوت السماوات والأرض وما في الأفق الأعلى وما تحت

الثرى إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات) [13] .

انطلاقاً مما سبق ننتهي إلى القول:

إن الدعوة إلى توظيف نتائج العلوم لتفسير القرآن الكريم هي دعوة نابعة من

القرآن نفسه، من حيث إنه قد تحدث في معرض الاستدلال على وجود الله وقدرته

وعلمه.. عن مختلف مظاهر الكون سواء المتعلقة بالآفاق أم المتعلقة بالأنفس،

والتي يجملها قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ

الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] [فصلت: 53] ، ولو جمعت

أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: [فِي الآفَاقِ وَفِي

أَنفُسِهِمْ] [14] .

إن الدعوة إلى توظيف الحقائق العلمية لتدبر كتاب الله؛ لا تعني أبداً أن

القرآن الكريم قد حوى جميع جزئيات علم من العلوم، بل إنه تضمن أصول هذه

العلوم وكلياتها، وترك أمر الجزئيات للعقول. لهذا نجد الغزالي يختم حديثه بقوله:

(فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين،

وجملة أوائله، وإنما التفكر فيه للتوصل من جملته إلى تفصيله، وهو البحر الذي لا

شاطئ له) [15] .

إن الدعوة إلى توظيف العلوم في التفسير لا تعني أبداً أن القرآن الكريم كتاب

علم تجريبي، بل تعني منطقياً أنه كتاب دعوة العباد إلى عبادة رب العباد عن علم

وتبصر، (لأن الأصل في القرآن أنه كتاب هداية وتشريع لا كتاب علم وتشريح،

وهذا لا يمنع أنه قد جاء في القرآن الكريم طائفة من الآيات الكريمة التي تعرضت

لموضوعات علمية تحدثت عنها حديث التعميم والإجمال لا حديث التفصيل

والتحليل) [16] .

إن المطلوب توظيفه من نتائج العلوم في التفسير: الحقائق العلمية الثابتة

المؤكدة، لا الاحتمالات الظنية الراجحة أو المرجوحة، المصطلح عليها بالنظريات

أو الفرضيات [17] .

وختاماً أقول:

إن علم التفسير يحتاج ليتقوى وليؤدي وظيفته التبليغية لا سيما في العصر

الراهن، عصر العلم والتكنولوجيا المتطورة، وعصر المذاهب الهدامة إلى مختلف

العلوم سواء أكانت من العلوم التراثية أم من العلوم المستحدثة، فهو في حاجة إليها

بقدر حاجته إلى الوحي، وهذا لا ينفي القصور عن هذه العلوم؛ إذ هي بدورها في

حاجة إلى علم التفسير للاستئناس به إثر البتّ في القضايا الكونية والإنسانية، أو

في تقعيد بعض القواعد العقلية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015