دراسات تربوية
د. مصطفى حسين
شهدت بعض البلدان العربية في الآونة الأخيرة انتشاراً واسعاً لما يسمّى:
(مدارس اللغات) ، وهي نمطٌ من المدارس يُعنى بتدريس اللغات الأجنبية بشكل
مكثّف منذ مرحلة (رياض الأطفال) إلى نهاية المرحلة الثانوية، ولا تكتفي هذه
المدارس بلغةٍ أوروبيةٍ واحدة، بل تدرّس لغتين اثنتين، إحداهما هي اللغة
الأوروبية الأولى، وتبدأ من مرحلة (رياض الأطفال) ، والثانية هي اللغة الأوروبية
الثانية، وتبدأ في مرحلة متأخرة نسبياً. ويتم في هذه المدارس تدريس موادّ العلوم
والرياضيات باللغة الأوروبية الأولى إلى جانب مقرّر مكثّف لهذه اللغة، ومقرّر أقل
كثافة للغة الأوروبية الثانية، يظل مرافقاً للتلميذ إلى نهاية المرحلة الثانوية.
وبطبيعة الحال يتم تدريس مقرري اللغة العربية والدين، والموادّ الاجتماعية (وهذه
تدرس باللغة العربية) ، بالمستوى السائد في المدارس العربية.
وهذا النهج الدراسي يعتبر نمطاً خطيراً من (ازدواجية التعليم) يذكرنا بما
صنعه (دنلوب) الوزير البريطاني خلال العشرينيات الميلادية من هذا القرن في
مصر خلال حقبة الاحتلال البريطاني.
ومن الملاحظ أن هذا النمط من المدارس ينتشر ويتزايد إلى حدّ التفاقم،
ويتزايد الإقبال عليه، حتى وصل الأمر إلى تحويل بعض المدارس الحكومية إلى
مدارس للغات. وعلى حين كانت مدارس اللغات مقصورة إلى عهدٍ قريب على
أبناء الأثرياء القادرين، فقد بدأت تشهد إقبالاً متزايداً من جانب محدودي الدخل،
أولئك الذين يعانون إرهاقاً شديداً، ومع هذا يصرّون على احتمال هذا الإرهاق،
بسبب تصورهم الواهم عن هذه المدارس، وما تصنعه لأبنائهم من مستقبل زاهرٍ
مضيء.
وأمام المنافسة الشديدة لهذه المدارس، وأمام رواجها المتزايد، اضطر بعض
أصحاب المدارس الأهلية، التي أخذت على عاتقها تكثيف الجانب الإسلامي في
الإعداد والتدريس، نقول: اضطرّت هذه المدارس الأهلية إلى أن تصدِّر إعلاناتها
ولافتاتها بعبارات مثل: (تعلّم الإنجليزية) أو (مدارس ... الأهلية الإسلامية للغات) .
والأعجب من ذلك والأخطر أن المسؤولين عن التعليم في هذه البلدان يقفون
صامتين أمام تلك الظاهرة، ويشاركهم صمتهم الجمهرة الغالبة من خبراء التربية.
وقصارى ما يفعله الخبراء أن يكتبوا بحثاً عن (الثنائية اللغوية في المرحلة
الابتدائية) ، بين مرحِّب ورافض، وحتى إن بعض أولئك الرافضين يتحدثون عن
هذه الثنائية من ناحية القدرات دون أدنى تعرّض للخطر الداهم الذي تتعرض له
الأمة نتيجة هذا الغزو الداهم لكيانها وهويتها، ممثلاً في الناشئة.
وهكذا، فإن هذا النمط من المدارس الذي يتكاثر ويتفاقم، ويستجيب لاندفاع
جماهير الناس في موجاتٍ محمومة يوشك أن يكون الأصل والأساس، وأن تصبح
(المدارس العربية) عنصراً طفيلياً دخيلاً، يفقد بالتدريج مقومات وجوده بل
ومسوغات استمراره في ساحة التعليم.
ومع الاندفاع المحموم نحو (مدارس اللغات) ، وأمام تكاثرها المتزايد، بدأ
فريق من رجال الأعمال والمستثمرين يشاركون في تأسيس هذه المدارس، ولا همّ
لهم إلا تحقيق الكسب المادي؛ والغريب المثير أن هذه الفئة لا صلة لها أصلاً بحقل
التربية والتعليم، فبعضهم من التجار، والآخر من أصحاب المشاريع الصناعية.
ذريعة مدارس اللغات:
ولكن ما هي الذريعة التي يتشبث بها المؤيدون لهذا النمط من المدارس،
سواء في ذلك الآباء أو التربويون؟
وجوابهم هو: أن المستقبل والحاضر يقفان إلى جانب اللغات؛ فها هو العالم
قد تحول إلى قرية صغيرة مفتحة النوافذ؛ مما يفرض تعلم لغة أجنبية واحدة على
الأقل يستطيع الإنسان من خلالها أن يتصل ويتواصل، وأن ينفتح على المستجدات
المتسارعة في المجالات المعرفية والتقنية، وأن الاقتصار على اللغة الأم يعني
العزلة والانغلاق، وحتى يستطيع إنسان العصر المتجدّد أن يحافظ على بقائه، فإنه
ينبغي عليه أن يتواصل مع الآخرين.
ونودّ قبل أن نردّ على أصحاب هذه الذريعة، أن نقرر حقيقة هامة: وهي
أننا لا نعارض قط مبدأ تعلم اللغات الأجنبية، ولا نؤيد قط مبدأ الاقتصار على
العربية لغتنا الأم، سواء في عصرنا أو في عصرٍ سبق أو عصر لاحق؛ ولكننا
نقرر جملةً من الحقائق نفند بها ذرائع المؤيدين لمدارس اللغات، ونوجزها فيما يلي:
أولاً: نحن نؤيد تجربة اللغات ومدارس اللغات، شريطة أن تكون هذه
التجربة في إطار هدف سامٍ نابع من هويتنا وجذورنا، وشريطة أن نُخضع هذه
التجربة لنظام دقيق؛ بحيث لا يسمح لها بالانفلات والتكاثر المحموم، وشريطة أن
يتوافر لها العناصر القادرة المدرّبة: تدريساً وتوجيهاً وإدارةً، وأن تقتصر على
أبناء المبتعثين العائدين من دول أجنبية، أو من في حكمهم من أبناء الأجانب:
أعضاء البعثات الدبلوماسية، ورجال الأعمال [1] .
ثانياً: لِنكنْ واقعيين مع أنفسنا، ومع الواقع ذاته ولْنتساءلْ: هل استطاعت
الأسر التي ألحقت أبناءها بهذه المدارس أن تتابع أبناءها؟ وهل لدى غالبية تلك
الأسر القدرات اللغوية التي تمكنهم من تلك المتابعة؟
ثالثاً: هل استطعنا أن نحسم قضية تعريب كليات الطب والعلوم والهندسة،
حتى نضيف إلى القضية قضايا أخرى؟
وللأسف الشديد فإننا نصرّ على المغالطة وإغماض أبصارنا وبصائرنا عن
الحقيقةِ والواقعِ، والحقيقةُ والواقعُ أن طلابنا في كليات الطب مثلاً وكذلك أطباؤنا
يجدون صعوبات جمّة تحول دون الاستيعاب الحقيقي للمادة الطبية، لا فرق في ذلك
بين من حصل على (الثانوية العامة) من مدارس عربية أو مدارس اللغات.
رابعاً: وضع اللغة العربية: للغتنا الأم، وضعٌ مقلق مزعج إلى أبعد الحدود؛ والدليل واضح ماثل لكل ذي بصرٍ وبصيرة؛ فطلابنا يعانون ضعفاً مزرياً في
لغتهم الأم، وقد بدت الشكوى متزايدة من هذا الضعف، فخريجو الجامعات ضعاف
في اللغة العربية، لا فرق في ذلك بين خريجي أقسام اللغة العربية ومعاهدها، وبين
غيرهم، والأغلاط اللغوية في الكتب والصحف متفشية. وهذا الضعف ليس في
أساسيات اللغة العربية ومهاراتها فقط بل يمتد إلى معارفها وثقافاتها المتصلة بها.
فكيف نضيف إلى ضعفنا في لغتنا الأم ضعفاً في سائر اللغات؟
خامساً: نشير هنا إلى رأي فريق من علماء التربية لا يستهان به؛ فالبعض
يؤكد أن ثمة ظاهرةً تسمى ظاهرة: (الاعتماد أو التوافق المتبادل
Interdependence) بين اللغة الأم واللغة الأجنبية، مما يؤثر في إتقانهما معاً؛ فالطفل الذي يتلقى دروساً في لغة ثانية (أجنبية) ، قبل أن يتقن لغته الأولى لن
يتقدم في هذه أو تلك [2] .
سادساً: يقسّم بعض علماء التربية الثنائية اللغوية إلى نوعين: (الثنائية
اللغوية الطارحة، والثنائية اللغوية الجامعة) فالأولى هي تلك التي تسود بين أطفال
يتهدد لغتهم الأم خطر الاندثار، وأما الثانية فهي تلك التي تسود بين أطفال تتمتع
لغتهم الأم بقدرٍ كبيرٍ من الرسوخ والتفوق.
والسؤال: إلى أي النوعين تنتمي الثنائية اللغوية في ظل ما يسمّى بمدارس
اللغات؟
نضيف إلى ما تقدّم حقيقة تربوية لا يختلف عليها التربويون برغم اختلافهم
حول قضية (الثنائية اللغوية) ، وهي: (أنه كلما ازداد أساس اللغة الأم رسوخاً،
واستمرت في تطورها ازدادت القدرة على اللغة الثانية) [3] .
سابعاً: يتشبث المتحمسون لمدارس اللغات بمنطق مغلوط معكوس؛ فالمعلوم
من واقع التاريخ الإنساني أن المجتمع لا يحافظ على بقائه في عالم مفتّح متواصل،
بالحفاظ على هوية الآخرين والذوبان المطلق فيهم، ولكن بحفاظه على هويته أولاً،
وتحصين ذاته ضدّ عوامل الفناء والاندثار؛ فإن صنع الإنسان العكس، فقد غالط
طبيعة الأشياء، ورضي لنفسه أن يكون التابع الذليل.
وإذا راجت بيننا اليوم مقولة أن (لا مكان في عالم اليوم لمن لا يتسلح باللغات) ، فإن الأصحّ من هذه المقولة أنه (لا مكان لمن يدخل بيوت الآخرين، بعد أن نسف
بيته، وأتى على بنيانه من القواعد) .
ثامناً: نؤكد ونحن مضطرون للتكرار أننا لا نرفض مبدأ تعلم اللغات، ولكن
شريطة أن يكون هذا المبدأ مؤسساً على أهداف وثيقة الصلة بوجودنا وكياننا
وأصالتنا، ومرتبطاً بخطة مدروسة لا تتجاهل واقع مدارس اللغات، وحصاد هذه
التجربة بعد اتساعها واستفحالها، على أن نخضع ذلك كله لدراسة علمية فاحصة،
تسبر الواقع ونتائجه دون تجاهل أو تعصب.
تاسعاً: ليس من اللازم اللازب لكي نحقق مبدأ التواصل مع عالمنا وعصرنا
أن نترك الحبل عل غاربه لمدارس اللغات، وأن يُرهق أبناؤنا وبيوتنا مادياً ونفسياً؛ إذ يكفي أن ندعِّم مقررات اللغات الأجنبية (اللغة الثانية) في المرحلة المتوسطة
(الإعدادية) ، وأن نعمل على تطويرها، مع الملاحقة والمتابعة لمقررات اللغة
العربية، بالتطوير والدعم المستمر وتدريب المختصين بها: معلمين وموجهين،
وإخضاع الكتب المقررة للدراسة الدائمة في ضوء مرئيات التلاميذ والمعلمين
وأولياء الأمور وسائر من ينبغي الاستئناس بآرائهم من الخبراء وأساتذة التربية.
عاشراً: إن قضية (ثنائية التعليم) منذ المراحل الأولى للتعليم (رياض الأطفال
والمرحلة الابتدائية) قضية ما تزال مثارة، والخلاف حولها ما يزال قائماً، فلماذا
نتصرف على أنها قضية محسومة؟ ولماذا هذا التدافع المحموم نحو اللغات
ومدارس اللغات.
حادي عشر: إن نجاح الأمم يقاس بمبدأ: (التوازن الثقافي) الذي تحققه
لنفسها، وبقدر هذا التوازن بين كيانها وأصالتها من جانب وثقافات الآخرين من
جانب آخر تكون قوتها وقدرتها على العطاء الإنساني الذي يكسبها الاحترام والوجود
المتميز.
بقيت حقيقة أخرى نختم بها مقالنا وهي تتعلق بما يسمى دولة (إسرائيل)
واللغة العبرية؛ فقد استطاع اليهود أن يجعلوا لغتهم الأم، (وهي العبرية) اللغةَ
الدارجة السيّارة: في المدرسة والجامعة، والحقل والمزرعة، والمتجر والمصنع،
والشارع العام؛ وهي لغة العلم والتعليم والإعلام والسياسة. وقد عاش اليهود على
آمادٍ طويلة من الأحقاب يعملون بكل سبيل على أن تظل لغتهم حية تحتكّ بكل لغات
العالم، لكي تبقى وتعيش لا لتفنى وتندثر.
وفي كل بلد عاش فيه اليهود، كانوا يتحدثون بلغتهم، ويشاركون بأقلامهم في
الإبداع الأدبي والعلمي بلغة هذا البلد، ولكنهم داخل (الجيتو (الذي حرصوا على أن
يصنعوه لأنفسهم، كانوا يتحدثون العبرية ويلقنونها أبناءهم.
فهل نتنكر نحن للعربية، ونذوب عشقاً وهياماً في الآخرين؟
إن العربية أعرق وآصل من العبرية ومن غير العبرية، وأيادي العربية على
العبرية وغيرها من اللغات يؤكدها التاريخ. والناشئةُ من أبنائنا أحوج في هذا
العصر، وأكثر من أي عصر مضى، إلى أن يرتبطوا بلغتهم حباً وولاءً.
والعربيةُ بعدُ ارتبطت بكتاب سماوي خالد، وارتبط بها ذلك الكتاب
السماوي [*] .
فهل تصحو ضمائرنا؟ ! !