مجله البيان (صفحة 2666)

دراسات شرعية

العلاج بالرقى والقرآن (1)

أضواء شرعية على العلاج بالرقى والقرآن

(1من2)

فتحي الجندي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه، وبعد: ...

فإن موضوع التداوي بالرقى والقرآن وما يتبع ذلك من حديث عن مس الجن

والعين والسحر جدّ خطير؛ لتعلق ذلك بالعقيدة والأخلاق، وببعض المشكلات

والظواهر الاجتماعية المعقدة التي طفت على السطح في الفترة الأخيرة نتيجةً لتراكم

بعض الممارسات منذ عدة سنوات.

ومنشأ الخطورة في هذه القضية هو ما حصل في هذه الأزمنة من توسّع

وإفراط في مسألة الرقى؛ حيث أُدخل فيها ما ليس منها: من البدع المحدثة،

والممارسات المخترعة التي لا أصل لها في كتاب الله، ولا سنة رسوله-صلى الله

عليه وسلم-، ولا هدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولكنها إلى الشعوذة أقرب

وبها ألصق، مما أسهم في انتشار الأوهام والوساوس والخوف والهلع، وتغلل ذلك

في قلوب الكثيرين من المتعاطين لهذه الأمور. فقد كثر الكلام بلا علم، وكثر

التطبب من غير معرفة وفهم لأصول الطب والعلاج، وأصبحنا نرى من يعالج

بالرقية والرقيةُ شرعيةٌ والمعالج المزعوم من أبعد الناس عن العلم الشرعي وأهله،

وقد شاع الأمر وانتشر، وسيطر الوهم على كثير من النفوس، وضعف التوكل

على الله تعالى وتعلّق الناس بالمخلوق الضعيف، بدلاً من تَعلّقهم بالخالق القوي

اللطيف!

يضاف إلى ما سبق توسّع بعضهم وانتهازهم الفرصة لجلب الأموال من هذا

الطريق، وقد تحول الأمر من كونه جُعْلاً تُسدّ به الحاجة؛ إلى مصدر واسع

ومفتوح للترف والسرف والجشع والابتزاز، ثم تأتي ثالثة الأثافي في هذا الأمر

والفتنة تجرّ أخواتها ألا وهي فتنة النساء! وما أدراك ما فتنة النساء؟ ! تلك الفتنة

التي حذرنا منها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولم يَخَفْ علينا فتنة أشدّ منها،

فقد ظهر في هذه الأيام من بعض القراء ولا نقول كل القراء من يتساهل ويترخص

في معالجة النساء، من نظر إلى المرأة إلى الكشف عن أجزاء من جسدها، بل

وربما مسّها.. إلخ، وقد سمعنا عن الكثير من المنكرات في هذا الباب.

من أجل ذلك كله جاءت هذه الدراسة قياماً بواجب النصيحة والتحذير من مغبّة

هذا الأمر وما يجرّه من فتن ومفاسد وانحرافات تتعلق بالعقيدة والأخلاق والاجتماع.

ولا شك في أن أمر العلاج هذا أضحى يحتاج إلى علاج؛ وهذا ما نرجو أن تساهم

هذه الدراسة في جزء من المهمة، بإذن الله تعالى.

أولاً: التحذير من الوقوع في الوساس والأوهام وضعف التوكل:

بادئ ذي بدء نقول: إن الوساوس والأوهام أعراض لمرض خطير من ورائه

أمراض: من اختلال التوحيد، وضعف التوكل، وافتقاد العلم النافع، فتختل لذلك

الموازين، وبذلك يصبح القلب مرتعاً خصباً للوساوس والأوهام والترهات، وإلا

فالقلب الممتلئ أياً كان نوع امتلائه لا يسمح لشيء جديد بالدخول؛ إلا أن يُخرج

شيئاً مما فيه، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: (قبول المحل لما يوضع فيه

مشروط بتفريغه من ضدِّه؛ وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في

الاعتقادات والإرادات) [1] .

إذا تقرر هذا فالموحِّد يعرف خالقه، ويعرف لماذا خُلِقَ، ويعرف المصير

والمستقر، ويعرف أن الله وحده هو الذي يملك النفع والضر، ويعلم أن الله حي لا

يموت والإنس والجن يموتون. وأنه لا أحد من إنسيّ أو جني يملك ضراً ولا نفعاً

ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إلا أن يشاء الله؛ لذا فالموحّد يعيش مطمئن النفس؛

وهو يعلم أنه ليس لأحد عليه من سبيل ولا سلطان، إلا أن يشاء الله؛ لقوله سبحانه: [إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... ] [الحجر: 42] .

ولقوله: [وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ] [الأنعام: 17] .

ولقول رسوله الكريم: (يا غلام ... احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على

أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن

يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت

الصحف) [2] .

يقول ابن القيم رحمه الله: (وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله، تكونُ

من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر، والتعاويذ،

والتحصّنات النبوية والإيمانية، فَتَلْقَى الروحُ الرجلَ أعزلَ لا سِلاح معه، وربما

كان عُرياناً فيُؤثر فيه هذا) [3] .

ويقول في ذلك أيضاً: (وعِند السحرة: أن سِحرهم إنما يَتم تأثيره في القلوب

الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسّفليات، لهذا فإن غالب ما

يؤثر في النساء، والصبيان، والجُهال، وأهل البوادي، ومن ضعُف حظه من

الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية، والدعوات

والتعوّذات النبوية.

وبالجملة: فسلطانُ تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلُها إلى

السّفليات، قالوا: والمسحورُ هو الذي يُعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقاً بشيء، كثيرَ الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح

الخبيثة إنما تتسلطُ على أرواح تلقاها مستعِدّة لتسلّطها عليها، بميلها إلى ما يناسب

تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تُحاربها

بها، فتجدها فارغة لا عدة معها، وفيها ميل إلى ما يُناسبها، فتتسلط عليها،

ويتمكّن تأثيرُها فيها بالسحر وغيره، والله أعلم) [4] .

ثانياً: مشروعية التداوى:

مما لا شك فيه أن الإسلام جاء بالعلاج الشافي لأمراض القلوب والأبدان، إما

نصاً وإما إجمالاً على سبيل الدلالة، وقد تداوى النبي-صلى الله عليه وسلم-،

وأمر بالتداوي؛ ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن

النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ

بإذن الله عز وجل) [5] .

يقول ابن القيم رحمه الله معقباً: (علق النبي-صلى الله عليه وسلم- الشِّفاء

على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد، وكلّ داء له

ضد من الدواء يعالج بضده، فعلق النبي-صلى الله عليه وسلم- البُرء بموافقة الداء

للدواء، وهذا قدرٌ زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في

الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نَقَلَه إلى داء آخر، ومتى قصّر عنها لم

يَفِ بمقاومته، ولكان العلاج قاصراً. ومتى لم يقع المُداوي على الدواء، أو لم يقع

الدواء على الداء لم يحصُل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء، لم

ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له، أو القوة عاجزة عن حمله، أو ثَمّ مانع يمنع

من تأثيره لم يحصل البُرء لعدم المصادفةِ، ومتى تمت المصادفة حصلَ البرء بإذن

الله ولا بد) [6] .

هل التداوى ينافي التوكل؟ نستطيع أن نقول من خلال الأحاديث الصحيحة

التي مرت وغيرها: إن التداوي لا ينافي التوكل؛ لأن التوكل لا يعني ترك

الأسباب، كما لا يُنافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها.

هذا وقد يرى البعض أن التداوي ليس كالأكل والشرب؛ ولهذا وقع الخلاف

في حكم التداوي. والذي يعنينا في هذا المقام أن الجميع متفقون على أن التداوي لا

ينافي التوكل.

ثالثاً: وجوب الاجتهاد في معرفة الداء قبل الدواء:

قد يقول قائل: كيف تقول بالوجوب مع أن التداوي مباح فقط وليس بواجب؟

والجواب: أن ترك التداوي مباح، ولكن من أراد أن يعالج فيجب عليه أن

يحاول تحديد الداء أولاً، كي لا يضر من حيث يريد أن ينفع، كمن يتجاهل

التقنيات الحديثة في تشخيص كثير من الأمراض، ثم ينسب كل مرض إلى الجن أو

العين أو السحر، وربما قُتل المريض لإخراج الجني المزعوم؛ لذا قلنا بوجوب

معرفة ذلك، ثم تحديد الدواء المناسب له؛ لأنه إذا وقع الخلط في تحديد نوع الداء

فأنّى السبيل إلى وصف الدواء المناسب؟

رابعاً: هدى النبي-صلى الله عليه وسلم- في التحصين والعلاج:

لا شك أن هدي محمد-صلى الله عليه وسلم- خير الهدي، وهذا عام في كل

أمر، وقد كان-صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى: [حَرِيصٌ عَلَيْكُم

بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: 128] .

فما من خير إلا ودلّنا عليه، وما علم من شرٍ إلا وحذرنا منه. وفي هديه-

صلى الله عليه وسلم- الوقاية والتحصن ابتداء من كافة الأدواء لدفعها قبل وقوعها.

وإذا ما وقع الداء فعلاً دل على العلاج الناجع بإذن الله: إما نصاً، أو على سبيل

الدلالة؛ ولذا سنتكلم عن كلا الأمرين:

أولاً: التحصينات.

ثانياً: العلاج فيما يخص موضوعنا: (مسّ الجن العين السحر) .

التحصينات:

تكون التحصينات الهامة بتوحيد الله عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته

وإخلاص العبادة له، وتجريد المتابعة لأمره والتوكل عليه ومحبته والإكثار من ذكره. وهذه تحصينات على العموم والإجمال. ثم تأتي نصوص في بعض التحصينات

على سبيل التفصيل من مثل: قراءة سورة البقرة في البيت، قراءة آية الكرسي،

قراءة المعوذات، الذكر عند الجماع لتحصين الذرية.

ولكن نلفت الانتباه إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين الذكر: الذي يخرج من القلب، والكلمات المجردة: التي تقال باللسان. فالمطلوب هو حقيقة الذكر لا مجرد

الكلمات.

تحصينات ووقاية من العين خاصة: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن

النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (العين حق. ولو كان شيء سابق القدر لسبقته

العين) [7] .

وللوقاية من العين ابتداءً يجب على من رأى شيئاً فأعجبه وخاف عليه العين

أن يقول: ما شاء الله، وأن يبرِّك (أي يدعو لصاحبه بالبركة) .

العلاج:

أولاً: علاج الصرع الذي من الجن: يقول ابن القيم رحمه الله: (علاجُ هذا

النوع يكون بأمرين: أمرٍ من جهة المصروع، وأمرٍ من جهة المعالج، فالذي من

جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها،

والتعوّذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلبُ واللسان، فإن هذا نوعُ محاربة،

والمحَارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين:

الأول: أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً، وأن يكون الساعد قوياً،

فمتى تخلّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائل. فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعاً؟ عند

ذلك يكون القلب خراباً من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاح له.

والثاني: من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً حتى إن من

المعالجين من يكتفي بقوله: (اخرُج منه) . أو بقول: (بسم الله) ، أو بقوله: (لا

حول ولا قوة إلا بالله) ، والنبي-صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (اخرج عدوّ الله

أنا رسول الله) [8] .... إلخ [9] .

ثانياً: علاج العين: إذا وقعت الإصابة بالعين فإن طريقة العلاج تختلف بين

حالين: الأولى: إذا عُرِف العائن. والثانية: إذا لم يُعرفْ.

إذا عرف العائن: العمدة في هذا حديث إصابة سهل بن حنيف بالعين:

فعن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي

سهل بن حنيف بالخرار، فنزع جبة كانت عليه وعامرُ بن ربيعة ينظر قال: وكان

سهل رجلاً أبيض حسن الجلد قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا

جلد عذراء. قال: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، فأُتي رسول الله-صلى الله

عليه وسلم- فأُخبر: أن سهلاً وعك، فقال رسول الله: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا

برّكت. إن العين حق. توضأ له. فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله-

صلى الله عليه وسلم- ليس به بأس [10] .

إذا لم يُعرف العائن: إذا لم يعرف العائن فإن العلاج يكون بالرقى المشروعة، والأذكار المأثورة وإخلاص التوجه إلى الله، والدعاءُ من المضطر كفيل بالإجابة

[أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ... ] [النمل: 62] .

يقول ابن القيم رحمه الله: (.. فمن التعوذات والرقى: الإكثار من قراءة

المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي، ومنها التعوذات النبوية نحو: أعوذ بكلمات

الله التامات من شر ما خلق. ونحو: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة

ومن كل عين لامة. ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا

فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ... وحسبي الله ونعم الوكيل عليه توكلت وهو رب

العرش العظيم. ومن جرب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها، وشدة

الحاجة إليها؛ وهي تمنع وصول أثر العائن وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان

قائلها وقوة نفسه واستعداده، وقوة توكله وثبات قلبه؛ فإنها سلاح. والسلاحُ

بضاربه) [11] .

ثالثاً: علاج السحر: كما قلنا مراراً: إن الوقاية خير من العلاج فيجب

الوقاية ابتداء من السحر قبل وقوعه كما ذكرنا ذلك غير مرة وذلك بتجريد التوحيد

لله والثقة بقضائه وقدره، والتحصن بكثرة ذكره وقراءة المعوذات وغيرها.

ويضاف إلى ذلك العمل بما في الحديث الذي ورد في السحر خاصة؛ فعن سعد

رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (من اصطبح كل يوم تمرات عجوة لم يضره

سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل) .

وفي رواية: (من تصبّح سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا

سحر) [12] .

قلت: هذا الحديث الشريف لا يوجد ما يخرجه عن عمومه بيقين.

ولكنه لن ينتفع به إلا من يصدِّق بالنبي-صلى الله عليه وسلم-، ويثق أن

ما يقوله حق لا مرية فيه علم الناس حقيقته أو لم يعلموا أما أهل المراء والجدال فهم محجوبون ومحرومون ولا ينبغي الاشتغال بهم ولا بوساوسهم.

أما علاج السحر بعد أن يقع فيكون بالتسليم والرضا بالقضاء والصبر على

ذلك ومحاسبة النفس على تقصيرها. وتحرّي الوسيلة المشروعة للعلاج. والتوبة

من المعاصي والابتعاد عن التفكير في الذهاب إلى السحرة والدجالين، وتحرّي

الذهاب إلى من لا يُتهم في دينه من أهل العلم والصلاح، أو طلبة العلم المعروفين

بالطلب والاستقامة.

يقول ابن القيم رحمه الله عن مرض السحر: (ذكر هديه-صلى الله عليه

وسلم- في علاج هذا المرض. وقد روي عنه فيه نوعان:

أحدهما وهو أبلغهما: استخراجه وإبطاله كما صح عنه-صلى الله عليه وسلم-

أنه سأل ربه سبحانه في ذلك، فدُلّ عليه فاستخرجه من بئر. فكان في مشط

ومشاطة وجُفِّ طلعةِ ذَكَر. فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال،

فهذا من أبلغ ما يُعالَج به المطبوب أي المسحور وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة

وقلعها من الجسد بالاستفراغ.

والنوع الثاني: الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر) ا. هـ[13] .

خامساً: تحديد الوسائل المبتدعة في العلاج [14] :

هذه نُشرات أم بدع ومحدثات؟ !

النشرة العربية والحل: يقول الحافظ في الفتح: (النّشرة بالضم وهي ضرب

من العلاج يعالج به من يُظن أن به سحراً أو مساً من الجن؛ قيل لها ذلك لأنه

يكشف بها عنه ما خالطه من الداء، ويوافق قول سعيد بن المسيب ما تقدم في (باب

الرقية) في حديث جابر عند مسلم مرفوعاً: (من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل) .

ويؤيد مشروعية النشرة ما تقدم في حديث (العين حق) في قصة اغتسال العائن،

وقد أخرج عبد الرزاق من طريق الشعبي قال: لا بأس بالنشرة العربية التي إذا

وطئت لا تضره، وهي أن يخرج الإنسان في موضع عضاه فيأخذ عن يمينه وعن

شماله من كلٍ ثم يدقّه ويقرأ فيه ثم يغتسل به.

وذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر

أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي

والقواقل [15] ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.

وممن صرح بجواز النشر المزني صاحب الشافعي وأبو جعفر الطبري

وغيرهما، ثم وقفت على صفة النشرة في (كتاب الطب النبوي) لجعفر المستغفري

قال: وجدت في خط نصوح بن واصل على ظهر جزء من (تفسير قتيبة بن أحمد

البخاري) قال: قال قتادة لسعيد بن المسيب: رجل به طب أخذ عن امرأته أيحل له

أن ينشر؟ قال لا بأس، إنما يريد به الإصلاح؛ فأما ما ينفع فلم ينه عنه. قال

نصوح: فسألني حماد بن شاكر: ما الحل وما النشرة؟ فلم أعرفهما، فقال: هو

الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وطاق ما سواها فإن المبتلى بذلك يأخذ حزمة

قضبان، وفأساً ذا قطاريْن ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجج ناراً في تلك

الحزمة، حتى إذا ما حمي الفأس استخرجه من النار وبال على حره، فإنه يبرأ

بإذن الله تعالى، وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفازة

وورد البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذباً ثم يغلي ذلك الورد في

الماء غلياً يسيراً ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.

قال حاشد: تعلمت هاتين الفائدتين بالشام. قلت: وحاشد هذا من رواة الصحيح عن

البخاري وقد أغفل المستغفري أن أثر قتادة هذا علقه البخاري في صحيحه وأنه

وصله الطبري في تفسيره، ولو اطلع على ذلك ما اكتفى بعزوه إلى تفسير قتيبة بن

أحمد بغير إسناد، وأغفل أيضاً أثر الشعبي في صفته وهو أعلى ما اتصل بنا من

ذلك) [16] .

قلت: لنا هنا وقفات مع الحافظ رحمه الله: قوله: ويؤيد مشروعية النشرة ما

تقدم في حديث (العين حق) في قصة اغتسال العائن. قلنا: لا خلاف في مشروعية

النشرة؛ ولكن أي نشرة؟ لقد اتسع الخرق على الراقع وتسربت البدع والخزعبلات

إلى كتب أهل العلم، فضلاً عن عقول العامة والغوغاء سلمنا في نُشرة العين

باغتسال العائن لورود النص الصحيح عن المعصوم في ذلك، وما كان لنا أن

نعترض ولو لم نفهم السر في ذلك وإن كان بحمد الله تعالى قد ظهر لبعض أهل

العلم ما يُرجى أن يكون تعليلاً مناسباً لوجه المناسبة بين الداء والدواء [17] .

أما أن يُفتح الباب لكل سائبة ومتردية ونطيحة وأكيلة سبع لتدخل وتمر تحت

ستار: (مشروعية النشرة) فهذا تفريط خطير لا يمكن أن يُقبل بحال، وإن قال به

فلان وفلان من أهل العلم؛ لأن أقوالهم قد صارت قنطرة تعبر عليها الخزعبلات

باسم النشرة الشرعية، وإلا فقل لي بربك: أية شرعية في جمع قضبان وفأس ذي

قطارين ونار وبول! ولماذا حزمة قضبان؟ ألا يغني عنها الزفت والقطران؟ !

ومن أين اشترطوا أن يكون الفأس ذا قطارين؟ أما كان يكفي أن يكون الفأس ذا

قطار؟

فوالله لقد سمعت أخيراً أحدهم في أحد الأشرطة يقول: يمكن أن يكون الفأس

ذا قطار واحد؟ !

فالحمد لله؛ لقد جلبت المشقة التيسير، وصرنا من قطارين إلى قطار، وغداً

ربما تكفي حدوة حمار، أو حلقة أو مسمار! ثم سمعت لأحدهم تجديداً في القول،

فأعطى مشكوراً بديلاً عن (البول) وهذا التجديد مسطور في بعض الكتب، قال

المؤلف بعد أن ساق نُشرة (البول والفأس والقضبان) التي نعتها بالحلّ قال: قلت:

ولو لم يبل عليه بل وضعه في ماء وقرأ عليه قوله تعالى: [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ

بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] [الحديد: 25] ثلاثاً أو سبعاً ثم اغتسل به وشرب منه

برئ بإذن الله تعالى فإنه مُجرّب) [18] .

قلت: وهكذا في وسط زحام النّشرات الشرعية المزعومة تدخل الترهات

بجواز مرور يحمل تأشيرة: (مجرب) وتنبعث سحب الدخان الأسود لتدخل علينا

وصفة الذئب الأغبر، والديك الأبيض، والورد الأحمر! ؟ !

قلت: ويعود بنا الحديث إلى كلام الحافظ رحمه الله.

قوله: وقد أخرج عبد الرزاق من طريق الشعبي ... إلخ.

قلت: ظاهر الكلام يوحي بأنه قد ساقه بإسناده والواقع غير ذلك ففي المصنف

11/13 [19763] قال عبد الرزاق: وقال الشعبي. فأين الإسناد؟ وللعلم فقد توفي

الشعبي سنة أربع وقيل خمس وقيل ست وقيل سبع ومائة. أما عبد الرزاق فقد ولد

سنة ست وعشرين ومائة وتوفي سنة إحدى عشرة ومائتين فما يرسله عن الشعبي

من السوائب التي لا يُعبأ بها، والعجيب أن الحافظ يتعقب على المستغفري فيقول:

وأغفل أيضاً أثر الشعبي في صفته، وهو أعلى ما اتصل بنا من ذلك. قلت: رحم

الله الحافظ وإلا فأين العلو؟ وأين الاتصال؟ ! أما ما حدّث به حماد بن شاكر

مغتبطاً وكأنما قد حاز كنزاً ولم يخبرنا كيف وقع عليه، فقد تقدم الكلام عليه

وتزييفه [19] . أما قول حاشد: تعلمت هاتين الفائدتين بالشام، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فأي علم وأي فوائد في مثل هذا الكلام؟ !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015