في دائرة الضوء
بقلم: محمد يحيى
كلما ترتفع أصوات دعاة أو مفكري الإسلام في أقطارنا تطالب بمنع تداول
كتاب أو آخر يطعن في الدين والعقيدة أو الشريعة الإسلامية ومنها بل وجُلّها ما
يتطاول على الذات الإلهية أو شخص الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته
رضي الله عنهم، ويزوِّر حقائق التاريخ والفقه الثابتة علت أصوات العلمانيين
تتباكى على مجزرة الحرية ومذبحة الفكر التي يقيمها المسلمون، ونسمع المواعظ
التي تذكر هؤلاء المسلمين المعتدين على حرية الفكر بأن عليهم اللجوء للحق
والمنطق لا للمنع والمصادرة.
كذلك نسمع دعوات بعض المثقفين من أبناء الدعوة تناشد إخوانهم عدم
المطالبة بمنع تداول الكتب المسيئة؛ لأن ذلك يثير ثائرة العلمانيين ويسوِّغ
لأصحاب الأغراض المتربصين المزيد من الطعن في الإسلام بل واتخاذ القوانين
الصارمة ضد العاملين له.
أصبح هذا الموقف متكرراً على امتداد الساحة العربية، بل وفي بلدان بعينها
كمصر في السنوات الأخيرة حتى أضحى كالطقس الأبدي لا يفتر. والواقع أن
(اللادينيين) الذين يرفعون العقيرة بالهجوم على الإسلاميين في مسألة المطالبة بمنع
الكتب المسيئة للعقيدة هم أول من يلجأ لسلاح المنع والحظر والمصادرة، ومعها
اللجوء للمحاكم وأعمال الاعتقالات بل والإعدام في مطاردتهم للكتب والفكر الذي
يخالفهم مجرد مخالفة، أو الذي يرون أنه يسيء إلى أشخاصهم ورموزهم وليس إلى
عقائدهم؛ لأنهم لا توجد لهم عقيدة واضحة.
ولسنا بحاجة إلى العودة إلى الستينيات مثلاً لنرى كيف دفع الكاتب الإسلامي
المعروف حياته ثمناً لكتاب لم يَرُق للحكام العلمانيين في ذلك الوقت. فقد يكفي أن
نشير إلى أن وزير التعليم العلماني في البلد نفسه، والذي يرفع شعارات حرية الفكر
والعقل والتنوير ... إلخ يعلن في الوقت نفسه بل ويفاخر بأنه أصدر الأوامر بتطهير
مكتبات المدارس من الملايين من نسخ الكتب الإسلامية بعد وصفها بأنها تشجع على
التطرف رغم أنها كتابات في معظمها لعلماء أجلاء أو لكتاب لا يخرجون عن إطار
الدين؛ وتزامن ذلك مع قيام سلطات الشرطة بمصادرة الآلاف من نسخ كتب
إسلامية أخرى، كما تزامن مع إحراق هذه النسخ للتخلص منها ومحاسبة من يقتني
كتباً دينية بالسجن أو الاعتقال بحجة منع التطرف حتى وإن أشار أصحابها أنها
كتب مطروحة بالأسواق لعلماء وكتاب معروفين.
وسلاح المنع والمصادرة والحظر والتعتيم الذي يلجأ إليه العلمانيون وهم في
مواقع السيطرة ليس فقط موجهاً ضد الإسلاميين وكتبهم؛ فقد استخدم هذا الإجراء،
وما زال، كلما صدر كتاب ينتقد أي رمز من رموز العلمانيين ومذاهبهم؛ وكأنهم قد
أصبحوا من المقدسات التي لا تمس!
ولا تسلم من الأذى الكتب التي تنتقد أي مذهب علماني يكون أصحابه من
ذوي النفوذ وبالذات من المذاهب السياسية المعروفة كالقومية والاشتراكية أو
النعرات العنصرية أوالتوجهات الاقتصادية، وآخرها آليات السوق والرأسمالية
الجديدة ... إلخ.
والحجة المشار إليها على الدوام لتسويغ المنع والمصادرة للفكر المخالف
لتوجه العلمانيين أو لتقديس رموزهم هي حجة المساس بهيبة الدولة والحكام، أو
إشاعة البلبلة والاضطراب في الرأي العام، أو هدم المبادئ المقررة في الدساتير؛
وكأن الطعن في الذات الإلهية وشخص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وسائر
منظومات العقيدة والشريعة والتاريخ الإسلامي لا تناهض الدساتير العربية (وكلها
تقريباً ينص على أن الإسلام الدين الرسمي للبلاد) ، ولا تبلبل الرأي العام، ولا
تمس هيبة الدول والشعوب التي يفترض أنها مسلمة بحكم التاريخ والواقع!
خلاصة القول: أن الحجر على الفكر ومطاردته منعاً للكتب ومصادرةً للتعبير
وملاحقةً للكتابات حلال للعلمانيين في الوقت الذي يحرِّمونها على المسلمين مع
الفارق الجوهري: فدعاة الإسلام قد يطالبون بمنع كتاب أو مقال يطعن في الذات
الإلهية (ولا تستجيب بعض السلطات عادة لهم) أما العلمانيون فيقيناً أنهم حين
يطالبون يجابون بسرعة إلى منع الفكر الذي قد يطعن أو ينتقد مجرد انتقاد شخصاً
وفكراً بشرياً وضعياً زائلاً أضفوا هم عليه القداسة، حتى إن شعارهم الخالد هذه
الأيام هو: (رفع القداسة) ؛ ولكن عن الدين أي الإسلام وحده دون سائر الملل
والنحل، ودعاة الإسلام قد يُطالِبون (ولا يُجابُون عادة) بمنع تداول كتاب يتخذ من
التزوير الفاضح للحقائق سبيلاً إلى بث البلبلة بين الرأي العام حول الإسلام وثوابته؛ لكن العلمانيين يُطالِبون ويُجابُون إلى منع الفكر حتى وهو يتناول بالنقد والتفنيد
في إطار أكاديمي محدود بعض جوانب مذاهبهم التي يقولون إنها نسبية بشرية
متغيرة (وإن لم يعترفوا بذلك علناً أمام الجماهير) .
ثم هناك الفارق الجوهري الأكبر: أن بعض دعاة الإسلام قد يلجأون إلى
المطالبة بمنع تداول الكتب السيئة لا عجزاً عن مقارعة الرأي بالرأي والحجة
بالحجة (هذا ولو كان لدى الجانب الآخر رأي وحجة فعلاً) بل لأنهم يواجَهون بواقع
مشهود للجميع تتمتع فيه هذه الكتابات الطاعنة في الدين بترويج واسع في أوساط
الجماهير والعامة (ممن لا يقدرون على تبصر التزوير واللف الدقيق وغير الدقيق
للحقائق) من جانب الدوائر الفكرية والسياسية العلمانية التي يجب أن نعترف أنها
مُنِحَت السيطرة شبه التامة على منابر الإعلام والفكر والترويج الدعائي (بالإضافة
إلى الثقافة والتعليم) في معظم البلدان الإسلامية.
وإذا كانت هذه الكتابات المسيئة على تهافتها وزيفها تفرض فرضاً على
الجماهير بقوة هذه المنابر، وتوصف بأنها الحق الصراح فإن الردود الإسلامية يُعَتّم
عليها ولا تُنشر، بل تُهمل وتُحارب حتى ولو جاءت من جانب علماء أفذاذ يشغلون
مناصب في المؤسسات الدينية الرسمية، وليس ببعيد عنا ذلك اليوم الذي اشتكى فيه
شيخ الأزهر السابق من أنه يرسل إلى الصحف والإعلام ببيانات توضح آراء هذه
الجامعة الإسلامية الكبرى في القضايا المطروحة وتنافح عن الإسلام، لكن هذه
الآراء والبيانات لم تكن تنشر. ففي ظل واقع يروّج فيه للباطل على أوسع نطاق،
ويُفرض زيفاً على الجماهير بينما يُحجب صوت الحق بالرد الموضوعي في هذا
الواقع يصبح الطلب بالمنع والحظر أقل خط دفاع ممكن. كما أن هذا الطلب له
مسوغاته وسنده حتى قانونياً في الذب عن هيبة وحقيقة العقيدة وهي مبثوثة في
الدساتير كدين البلاد أو مصدر التشريع الرئيسي. فإذا كان العلمانيون يتخذون من
حجة هيبة الدولة والدستور تكأة لتبرير منع ومصادرة الفكر؛ أفلا يكون لدعاة
الإسلام نصيب من الحجة نفسها؟
وفي المقابل فإن العلمانيين يلجأون إلى المنع والمصادرة للفكر المخالف حتى
ولو كان ضعيفاً ومحدود الانتشار؛ وحتى وهم يملكون من وسائل التأثير والفعالية
في الترويج ما يسمح لهم بكبت هذا الفكر وتشويه صورته لدى الجمهور وإفقاده أي
فاعلية، أو مما يسمح لهم على الأقل بأوسع فرص الرد والتفنيد لو كان لديهم ما
يقولونه وهو مشكوك فيه. وهم يلجأون إلى المنع والمصادرة حتى وهم في موقع
القوة وليس في موقع الدفاع اليائس؛ فوق أنهم لا يجدون في القانون والدستور
مسوغاً لإضفاء الحصانة والقداسة على أشخاص زائلين ومذاهب فكرية نسبية زائلة. ... ...
إذن: فقضية منع ومصادرة الكتابات ليست بالبساطة التي يصورها بها
البعض، وليست أحادية الطرف كما يدعي العلمانيون؛ بل هي موضوع متشابك
نجد أن المتهم الحقيقي فيه هو التوجه اللاديني نفسه الذي ألقى بالتهمة باطلاً على
التيار الفكري الإسلامي الذي هو في الحقيقة ضحية بريئة.