افتتاحية العدد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن من يتابع مواقف القوى الغربية من الصحوة الإسلامية في كثير من البلدان، يلمس ما يقلق تلك القوى، ويذهل لحساسيتها المفرطة حيال أي توجه إسلامي
مهما كان! وهذه المواقف غير المستغربة لم تأت من فراغ؛ وإنما هي نتيجة
تراكمات تاريخية، ووليدة اتجاهات مقررة سلفاً قام بها نفر من الدارسين
والمستشرقين الذين جعلوا من الإسلام عدواً بديلاً من العالم الماركسي البائد؛ ولا
سيما إذا عرفنا مكانة منطقتنا في سياسة القوم؛ فهناك لدى صناع القرار في
الولايات المتحدة الأمريكية عقدة من التيار الإسلامي؛ ولذلك فهم يعملون جاهدين
للتنفير منه والإساءة إليه ومواجهته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ومن النظريات
السائدة ما يسمى بنظرية (الدومنو) التي يعنون بها أن قيام أي نظام إسلامي في أي
دولة سوف يتبعه سقوط دولة أخرى، وأن المسألة مسألة وقت، ومن هنا نجد
أمريكا تعمل جاهدة للحيلولة دون قيام أي نظام إسلامي في أي دولة؛ لأن ذلك حقيقةً
سيسهم في كشف مكر الغرب، وكيف يستغل الغربيون خيرات الشعوب، وكيف
يستهينون بكرامتهم؛ مع عملهم المتواصل لتثبيت دولة العدو الصهيوني والحرص
على تفوقها في مجال السلاح لتبقى خنجراً في قلب العالم الإسلامي ولحمايتها من أي
ضربة متوقعة؛ مما يفسر إضعاف أي كيان قوي في المنطقة ومحاولة تقزيمه؛ وما
ذلك إلا لصالح ربيبتهم (إسرائيل) .
ومن تلك المواقف المستهترة بكرامة أمتنا محاولاتهم الدائمة لفرض الحصار
على شعوب إسلامية بعينها، وأحدثها: القرار الأمريكي الأخير ضد دولة السودان
بمحاصرتها اقتصادياً بدعاوى تبنيها الإرهاب وعدم احترامها حقوق الإنسان،
والهدف الحقيقي هو تدمير اقتصاد هذا البلد وزعزعة أمنه، وإيجاد الاضطراب
الاجتماعي فيه، ولا سيما بعد استقرار نسبي في اقتصاده مما أفقد البنك الدولي
الحجج المعادية للسودان.
ومثل هذه الدعاوى لم تعد تنطلي على أحد؛ لا سيما وأن السودان استنكرت
تلك الادعاءات ورفضتها؛ والحقيقة خلاف ذلك تماماً؛ لأن علاقة أمريكا بالسودان
طويلة ومعروفة للدارسين؛ فقد ذكر أحد المسؤولين الأمريكيين هذه العلاقة في
تقرير قدمه للكونجرس منذ سنوات؛ فقد أوضح (لافون ووكر) أهمية السودان
ومنطقة القرن الأفريقي بالنسبة لأمريكا؛ حيث ذكر أنها أقطار ذات قيمة إستراتيجية
بالنسبة لأمريكا في سعيها للحفاظ على مصالحها.
ويشكل السودان أهمية لأمريكا؛ ولذا بدأت في أواخر السبعينيات في مساعدته
في التغلب على مشكلاته الاقتصادية، وسمحت لشركات البترول الأمريكية بالقيام
بأعمال التنقيب عن البترول، ولكن الاتجاهات الأخيرة في السودان وتخوّف أمريكا
من امتداد إسلامي يهدد الدول النصرانية المحيطة به جعلتها تحوِّل موقفها نحو
مساعدة حركات التمرد في البلاد مع الامتناع عن إمداد السودان بالأسلحة والمعدات، وإيقاف شركة (شيفرون) عن أعمال التنقيب حتى تحدد مخصصات الجنوب من
عوائد البترول؛ بالإضافة إلى قيام أمريكا بالضغط على مؤسسات التمويل الدولية
لمنعها من تقديم القروض للسودان [1] .
إذن: فالموقف من السودان وحصاره ليس كما قيل بدعاوى تبني الإرهاب
وعدم احترام حقوق الإنسان!
فالإرهاب فكراً وتبنياً وسلوكاً نجده لدى العدو الصهيوني الذي تقوم أمريكا
نفسها بدعمه ليل نهار في اغتصابه للأراضي العربية المحتلة، واستهتاره بحقوق
الإنسان بطرد الفلسطينيين وتهجيرهم وقتلهم بالقنابل المحرمة دولياً، وبضرب لبنان
ليل نهار، ونجد هذا الإرهاب أيضاً لدى صرب البوسنة الذين قتلوا آلاف المسلمين، وشردوا عشرات الآلاف منهم، ولا تكاد توجد أقلية إسلامية في معظم البلدان إلا
وتعاني من الاضطهاد والتمييز العنصري أمام سمع الغرب وبصره!
أما حقوق الإنسان المهدرة في السودان كما يزعمون فقد شهد شاهد من أهلها
يكذب هذه الدعوى؛ فها هو: (ماكنير) عضو مجلس اللوردات البريطاني بعد زيارة
تقصّى فيها الحقائق عن هذا الزعم كشف في تقريره كَذِبَ تلك الدعاوى، ووجه
انتقادات حادة إلى (منظمة التضامن المسيحي) ورئيستها البريطانية: (كوكس) وقال: إن تدخل هذه المنظمة وإثارتها تلك المزاعم ضد السودان هدفها الإثارة، ويأتي
ذلك ضمن حملة عالمية لعزل السودان بهذه الحجة
... ... ... ... ... [الحياة، ع/12683في 20/7/ 1418هـ]
فأين الحقوق الإنسانية المهدرة؟ وهل هي ما يُزعم كذباً وزوراً ضد السودان؟ أم هي ما تقوم به الصهيونية من اعتداءات في الأراضي المحتلة وفي جنوب
لبنان وما يقوم به الصرب في البوسنة ... من قتل الشيوخ والأطفال، وبحصار
شعوب إسلامية أخرى؛ حيث يتعرضون للأمراض؛ وسوء التغذية؟ ! فضلاً عما
يحصل من القتل الجماعي بدون أي رحمة!
أما السودان البلد المسلم الذي أعلن على الأقل ظاهراً إسلاميته واعتزازه بدينه، ورفضه لتسلط الغرب والشرق، ورفضه لكل من يتدخل في شؤونه؛ فلم يقبل
الغرب منه ذلك الموقف؛ لأنه يريد من أمتنا أن تكون تابعة ذليلة له.
وليت أمتنا تعلم حقيقة ما يراد بالسودان، والأهداف الإجرامية الدافعة
لحصاره والتي يراد منها محاولة إسقاطه!
إن في هذا البلد جزءاً كبيراً من منابع النيل وهو العمق الاستراتيجي لمصر
واللحاء الطبيعي لها، ومن يمتلك السودان فإنه يتحكم بمصر وهذا ما يريده (جون
قرنق) الصليبي العميل الذي يريد تنفيذ أهداف أسياده لا سيما إذا عرفنا منطلقاته
الصليبية التي ينادي بها عبر استراتيجيته في الانفصال عن الدولة الأم وإن تظاهر
بخلافها.
ومما يؤسف له أن تتوالى مآسي الشعوب الإسلامية تحت مطرقة النظام
العالمي الجديد، وعالَمُنا الإسلامي ذاهلٌ عما يجري في الواقع!
وكأننا لسنا خير أمة أخرجت للناس!
وكأننا لم نعد في توادِّنا كالجسد الواحد!
وهكذا تهون علينا كرامتنا بعدما هانت علينا مبادئنا!
فمتى نعود إلى رشدنا؟
وإلى متى يستمر هذا الهوان؟
وما أصدق قول الشاعر الحكيم:
مَنْ يَهُنْ يسهل الهوانُ عليهِ ... مَا لِجَرْحٍ بميتٍ إيلامُ