المسلمون والعالم
التفسير لما يحدث من مآسٍ هناك
بقلم: عبد العزيز كامل
سيذكر التاريخ أن السنوات العشر الأولى من القرن الخامس عشر الهجري
(التي توافق عقد الثمانينات الميلادي) قد شهدت صحوة إسلامية عارمة في شتى
بقاع العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، عرباً وعجماً.
وسيذكر التاريخ أن عقداً جاء بعدُ هو (التسعينات) ، شهد وما يزال يشهد
محاولات محمومة، ومؤامرات مشؤومة لخنق هذه الصحوة قبل أن تتحول إلى
نهضة.
وسيشهد التاريخ على عشرات الأمثلة الدالة على صدق توجه الأمة نحو
الإسلام خلال هذه السنوات، وسيشهد على خبث وحقد من تصدوا لها وأرادوا
تحويل تلك الصحوة إلى غفوة أو إلى كبوة.. وربما صعقة لا إفاقة بعدها.. ولا
زلت أرى في الجزائر تلخيصاً واضحاً لهذه القصة كما ذكرت في مقال سابق ولا
زلت أرى الأحداث تحكي من هناك في وضوح وسفور ... ما قد تغطيه في أماكن
أخرى الحجب والستور.
وقد بدا واضحاً أن هناك اصطراعاً في الجزائر وغيرها بين القوى المناوئة
للدين، في كيفية التصدي له عملياً، بعد أن اتفق أكثرهم على رفض طروحاته
الإصلاحية نظرياً. وهذه بعض معالم ذلك الاصطراع:
1- لا تجادل القوى المناوئة للدين في أن الأمة لا تزال تحمل حنيناً له وشوقاً
للعودة إليه.
2- يسلِّم هؤلاء بأن الإسلام لا يزال يملك إمكانية هائلة للانتشار في قطاعات
الأمة.
3- اكتشف هؤلاء على عكس ما كان شائعاً بينهم أن الإسلام تكمن فيه
عناصر القوة التي تمكِن أتباعه ودعاته من التواؤم والتلاؤم مع روح العصر بما
يكشف عجز البدائل المطروحة، كما فوجئوا بقدرة هؤلاء على تجييش الجماهير
تحت راية هذا الدين.
4- توصل هؤلاء إلى أن الاكتفاء بموقف المراقب والمشاهد الصامت لما
يجري سوف يسحب البساط من تحت أرجلهم بمرور الأيام والأعوام.
5- ظهر لديهم أن الحل العملي يكمن في شل قدرات حَمَلَة هذا الدين عن
التحرك به، وكف أيديهم عن البناء له والعمل من أجله. كما يكمن في تحويل
أنظارهم عن الاهتمام بقضاياه إلى الانشغال بأنفسهم، إضافة إلى التشويه الدائم
لأقوالهم وأعمالهم.
ويمكنني أن أقول: إن الفقرة الأخيرة بالذات، تمثل (استراتيجية) شبه
مشتركة في إدارتهم للصراع، أما (التكتيك) ، فتختلف فيه (الاجتهادات) إلى
اتجاهين أو مدرستين:
الأولى: وأستأذن القارئ في أن أطلق عليها: (مدرسة أبي جهل) وهي
تستصحب روح جهالته وعناده وكبره وغلظته في محاربة دعوة الحق في مهدها،
ومحاولة اقتلاعها من الجذور.
وقد رأينا هذه الروح تفوح روائحها من عناوين دعوات طرحت هنا وهناك
من قبيل: (الاستئصال) (تجفيف المنابع) (المواجهة الشاملة) (معركة الحسم) ...
إلخ.
الثانية: وأُطلِقُ عليها: (مدرسة ابن سلول) ، وهي تستلهم روح مكره،
وخبثه ودهائه وانتهازيته، وباطنيته في العداء، وظاهريته في الإخاء.. وأدبيات
هذه المدرسة تحوم حول: المقايضة.. المفاوضة.. الالتواء.. الاحتواء.. شق
الصفوف.. كسب الخصوم أو تذويبهم أو تمييعهم أو ... حرقهم.
وإذا عدنا إلى الجزائر.. وجدنا هاتين المدرستين تعملان جنباً إلى جنب،
تختلفان أحياناً ... تتنافسان أحياناً ... تتصارعان أحياناً، ولكنهما لا تتخليان أبداً
عن الاتفاق عندما يكون العدو المشترك هو: (الإسلاميون) !
ولم يعد وجود هاتين المدرستين أو هذين التيارين داخل السلطة سراً، فهما
يعلنان عن نفسيهما، وتتحدث عنهما ممارساتهما، ولا غنى لمن يريد أن يفهم ما
يدور في الجزائر من استيعاب حقيقة التيارين ودورهما في صنع الأحداث هناك.
فأحدهما يهدف إلى (تفتيت) العمل الإسلامي بقوة السلاح، والآخر يعمل على
(تفكيك) هذا العمل سلمياً.
التيار الأول: التيار الاستئصالي:
وهدفه المعلن هو: استئصال شجرة العمل الإسلامي في الجزائر من جذورها، وما أقبح هذا الدور! وما أسوأ هذا الوصف الذي ارتضوه لأنفسهم: الاستئصال!
وكأن الإسلام في الجزائر أصبح ورماً خبيثاً يريدون استئصاله من جسد الشعب
الجزائري. وأبرز رموز هذا التيار: رئيس هيئة الأركان (الجنرال محمد العماري) ، ورئيس جهاز الأمن العسكري (اللواء محمد مديان) ، ورئيس جهاز الأمن الداخلي
مكافحة الإرهاب (الجنرال إسماعيل العماري) .
ويعتبر الكثير من المراقبين هذا التيار مسؤولاً عن الجانب الأكبر لما حل
بالجزائر من نكبات، بدءاً من إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ
على يد وزير الدفاع الأسبق (خالد نزار) بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق (الشاذلي بن
جديد) ، ومروراً باعتقال قادة جبهة الإنقاذ، وما تلا ذلك من تفجر الصراع على
الساحة الجزائرية، وانتهاءً بـ (لغز) المذابح الجماعية للمدنيين العزل، هذا اللغز
الذي لن تفك رموزه إلا إذا فُهم جيداً دور الاستئصاليين فيه.
إن هذا التيار الذي يمثل الغلو والتطرف بل (التشرد) العلماني، مصمم على
أن يستغل كل شيء في محاربة الإسلام في الجزائر، ولو كان هذا الشيء هو
الإسلام نفسه! ! فكيف يكون ذلك؟
وجد هذا التيار ضالته في جماعات الغلو الإسلامية المسلحة التي حملت
السلاح قبل أن تحمل المنهج، فعمدت إلى اختراقها، وإدخال عناصر من
المخابرات داخل صفوفها، واتخذت من بعض رموزها قفازات تقتل بها وتسفك
الدماء وتنشر الفساد. وأخيراً اتضح أنها أعني عناصر المخابرات دخلت إلى
الساحة مباشرة لتنشر الدمار والخراب تحت صيحات: الله أكبر! ! وأنا لا أرى أية
صعوبة في تصور أناس من المنافقين أو المرتدين أعداء هذا الدين، يُقْدِمون على
إطلاق اللحى وارتداء الجلابيب، وربما العمائم أيضاً، للكيد لهذا الدين باسمه، ولا
أستبعد بعد ذلك أن يُخدع الكثير من البسطاء أو المرضى أو الحمقى بنفاقهم
وينضوون تحت لوائهم.. وقد حدث هذا كثيراً في التاريخ الإسلامي.. ولهذا كثر
تحذير الإسلام من النفاق، واعتبر عداء المنافقين هو العداء الأول للإسلام وأهله
كما قال تعالى: [هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] [المنافقون: 4] ،
فمصيبتنا فيهم، أن فينا من يُخدعون بهم، ومنا من يقفون معهم، والأمر كما قال
الله: [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] [التوبة: 47] .
أما الإسلام الصحيح، فلسنا في حاجة أن ندفع تهمة قتل الأبرياء عن دين جاء
في كتابه: [وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً] [النساء: 93] ، ويقول رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) [1] إنه الدين
الذي يربي في أتباعه روح المسؤولية بل الحساسية تجاه الظلم خشية أن يقع على
أي مخلوق بغير جريرة، ولو كان هذا المخلوق.. نملة!
[قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ] [النمل: 18] ، فإنهم لو شعروا بالنمل لامتنعوا عن وطئه وتحطيمه.
أيقال بعد هذا أن إنساناً يُنسب لهذا المنهج أو يمثله، يمكن أن يُقدِم على هذه
الجرائم البشعة التي سمعنا عنها بحق الأطفال والنساء والرجال؟ !
أقول: لا ينبغي للمسلمين أن يشعروا بالحرج والضيق كلما رأوا الإعلام
الخبيث ينسب إليهم ويلصق بهم جرائم أجهزة المخابرات وصنائعها؛ فديننا من تلك
الجرائم بريء، وإخواننا الصادقون في الجزائر منها برآء، أما الواقعون فيها
والخائضون في فتنتها، فليسوا منا، ولا كرامة!
ولكن؛ مع كل هذا نقول: يجب ألا تلفتنا الأحداث بتفاصيلها وتعقيداتها عن
(أم الجرائم) التي ولّدت كل تلك المآسي وهي جريمة الإقصاء المتعمد عن سابق
إصرار وترصّد للإسلام وشرائعه؛ فأصحابها هم المسؤولون الأصليون مهما قيل أو
يقال، وحتى تلك العصابات المنحرفة أو المتستِرة بالدين.. هي إحدى سيئاتهم.
لا شك في أن العصابات المسلحة التي تقتل الأطفال والنساء هي صنيعة
المخابرات، وقد صممت للقضاء على العمل الإسلامي في الجزائر في الحاضر
والمستقبل؛ فهي مشروع ضخم، أنفق عليه الاستئصاليون بسخاء، ودفعوا إليها
من كوادرهم من شاؤوا من العملاء بعد أن تم (طلاؤهم) بالصبغة الإسلامية المزيفة.
وهذا الافتراض وحده هو الذي يفسر لنا الغموض القاتل والتعتيم الإعلامي
الكامل الذي يلف الأحداث هناك ويغطي على حقيقة ملاحم الشر في الجزائر،
ويفسر لنا عدم تحرك قوات الأمن للحيلولة دون وقوع هذه المذابح رغم قبضتها
الحديدية أو مواجهة من يقومون بها في أماكن قريبة من ثكنات الجيش ووحدات
الشرطة، ويفسر لنا السبب في تفرغ الجيش النظامي فقط لضرب قوات جبهة
الإنقاذ في وسط البلاد، بينما وقف متعاجزاً أمام العصابات المسلحة! ويفسر لنا
أيضاً إصرار تلك العصابات على الاستمرار في ارتكاب كل ما من شأنه تشويه وجه
الإسلام وتلطيخه بالدماء أمام العالم ... ويفسر لنا أن القرى التي استُهدفت بالمذابح
هي تلك القرى التي كانت تستضيف سابقاً وحدات من جيش الإنقاذ، ويفسر لنا
كثرة تعاقب الزعامات على هذه العصابات في وقت وجيز (عشرة قادة) ويفسر لنا
أخيراً أن هذه الأعمال لم تخدم الإسلام في شيء واحد، وإنما خدمت وتخدم أعداءه
في أشياء وأشياء.
ثانياً: تيار (الاحتواء) :
وهذا التيار يحاول أن يتقمص دور (الاعتدال) العلماني، ويتشح بمسوح
(الديمقراطية) ويرتدي ثوب (الشرعية) .
ولا أخفي خوفي على الإسلاميين في الجزائر وغيرها من هؤلاء، أكثر من
خوفي من أولئك الاستئصاليين؛ فإرادة الاستئصال إذا أُظْهِرَتْ فإنها تحفز على
الحذر واليقظة، أما إظهار الرغبة في التقارب وحلول الوسط مع إضمار الشر،
فإنها تخدر ولا تحذر، وتخدع الإرادة، وقد تُخضِع الرؤوس.. وأحسب أن هذا ما
يراد بجبهة الإنقاذ في هذه المرحلة ... والمعروف أن جبهة الإنقاذ بعد أن أُلغيت
الانتخابات التي كادت أن تفوز فيها بالسلطة، اعتبرت نفسها حكومة شرعية أطيح
بها، وأن الانقلابيين الذين أطاحوا بها يسرعون الخُطا نحو القضاء النهائي عليها،
فاعتبرت الجبهة نفسها في وضع دفاع شرعي عن النفس، فشكلت وحداتها
العسكرية الخاصة بها لمواجهة كل الاحتمالات (ولسنا بصدد مناقشة صحة هذا
الإجراء من عدمه) ولكن المهم أن الصراع المسلح بدأ بين الجبهة والسلطة.
وقبل عامين أطلق الرئيس الجزائري الحالي (اليمين زروال) ما سُمي
بـ (نداء الرحمة) وهو يقضي بأن يُلقي من يحملون السلاح سلاحهم في مقابل أن تصفح عنهم الدولة وتقبل (التوبة) منهم.
وتحول (نداء الرحمة) إلى (قانون الرحمة) بغرض تشجيع كل من ينشقّ عن
جبهة الإنقاذ واحتوائه. وبالنظر إلى أن هذ النداء، أو ذلك القانون لم يكن جاداً في
وضع حل مُرْضٍ للأزمة؛ فقد تغافلت عناصر الإنقاذ عنه، واعتبرته دعوة
للاستسلام بلا مقابل.
ولكن جهود تيار (الاحتواء) استمرت في شكل محاولات أخرى، كان آخرها
إجراء اتصالات سرية ببعض الرموز داخل جبهة الإنقاذ.. وبالفعل تمت اتصالات
مع أمير جيش الإنقاذ نفسه (مدني مرزاق) أثمرت فيما يبدو صفقة، أُطلِقَ على
إثرها الشيخ (عباسي مدني) زعيم جبهة الإنقاذ وكذلك العضو البارز فيها (عبد القادر
حشاني) .
وأثمرت هذه الاتصالات في خطوة لاحقة مبادرة من جبهة الإنقاذ، من جانب
واحد، تقضي بإنهاء الأعمال العسكرية وإيقاف إطلاق النار، وقد جاءت هذه
المبادرة بعد أن تفاقمت الأحوال الأمنية سوءاً، وفي ذورة سلسلة المذابح الجماعية
التي تعرض لها المواطنون الجزائريون العزل في القرى، وقد رأت الجبهة على
ألسنة من صاغوا بيان المبادرة أن هذا الإجراء أصبح لازماً وضرورياً لفضح
المتسترين وراء المذابح الجماعية، ولتبرئة الجبهة من دماء الضحايا، ومن جبهة
ثالثة، لتفتح باباً أوسع للحوار، تدل به على جديتها في البحث عن حل عادل
للأزمة التي استمرت ست سنوات دون حل.
ولكن ينبغي أن لا ننسى أن الجبهة وهي تصارع التيارين: الاستئصالي،
والاحتوائي، لا تملك كل أوراق التحرك، ولا تتمتع بكامل حريتها في اتخاذ
قراراتها، خاصة في الفترة التي كان زعماؤها موزعين بين السجون والمنافي
والإقامات الجبرية؛ ولهذا فإن ما أذيع عن بعض تفاصيل الاتصالات وما يطرحه
من علامات استفهام، لا ينبغي أن يفهم إلا في سياق ما يعرف من تعرض الجبهة
لضغوط رهيبة، ومكر كُبّارٍ من تيار الاحتواء. فالواضح أن هذا التيار، كان
يهدف من وراء هذه الاتصالات إلى (تنظيم) (استسلام) جبهة الإنقاذ بصورة تحفظ
ماء الوجه، بعد أن يجري تفكيك هياكلها، وتفريغ كيانها من محتواه الذي تماسك
حتى الآن.
وأخوف ما نخاف أن تكون الساحة مهيأة الآن لتيار (الاحتواء) لأن يقوم
بالفصول الأخيرة من دوره، بعد أن أوشك تيار (الاستئصال) على إنهاء دوره.
وأسباب هذا التخوف ترجع إلى ما يلي:
1- أن الدول الغربية تؤيد سياسة الترويض، وتشجع كل حوار بشرط ألا
يفضي إلى وصول الإسلاميين للسلطة، ولا ننسى أن الولايات المتحدة نفسها هي
صاحبة المشورة بفتح باب الاتصالات مع جبهة الإنقاذ، والدول الغربية تتجه إلى
نفض اليد من المسألة الجزائرية، وتنظر إلى أي حوار بين السلطة والجبهة على
أنه سيكون حواراً بين منتصر مع مهزوم، ولا خوف منه، وقد عبرت عن هذا
الموقف (شيرين هنتر) المحللة المختصة بشؤون الجزائر في مركز بروكسل
للدراسات الاستراتيجية، عندما قالت: (لا أظن أن أحداً سيرغب في الخوض في
مستنقع الجزائر ... فالحكومة قد انتصرت بشكل أساسي، ولن تستسلم لأي ضغوط.. كما أن تدفقات النفط والغاز والاستثمارات في مجال الصناعة ماضية في طريقها، والعائدات تتدفق على خزائن النظام..) !
2- الرئيس الجزائري يقف بثقله الآن خلف تيار (الاحتواء) بالرغم من أنه
تخرّج في مدرسة (الاستئصال) حيث كان وزيراً للدفاع؛ والظاهر أنه أصبح واثقاً
من أن النظام العلماني قد أعاد تثبيت أقدامه في الجزائر حتى إشعار آخر، ويعبر
عن هذا (أحمد أويحيى) رئيس الحكومة الجزائرية، عندما أعلن أن مؤسسة الرئاسة، قد انتهت من مسألة جبهة الإنقاذ، وأن السلطة غير مستعدة لفتح ملف الإنقاذ في
إطار تسوية سياسية يمكن من خلالها إعادة الحزب الذي حُل في ربيع 1992م بعد
إلغاء الانتخابات [2] .
3- هناك ترحيب لافت للنظر من الحكومة والأحزاب بقرار الجبهة إيقاف
القتال من جانب واحد، ولكنهم لا ينظرون إليه على أنه مبادرة للبدء في الحل،
ولكن على أنه (توبة) واعتراف بالخطأ!
4- الإفراج عن عباسي مدني لم يكن ليتم لولا اطمئنان السلطة على أنه لم
يعد يملك القرار الأخير في الجبهة، أو أنه لم تعد أمامه فرصة للتحرك بعد أن
فرض تغييرُ الدستور والانتخاباتُ البرلمانية، وأخيراً الانتخاباتُ البلدية، واقعاً
جديداً يكرس الهيمنة العلمانية على السلطة، ويحرم الوجود الفعلي للعمل الإسلامي
حتى من اسمه، مثلما حدث مع حزب (المجتمع الإسلامي) الذي أجبر على تغيير
اسمه إلى حزب (مجتمع السلم) ، وحزب (النهضة الإسلامي) الذي تحول إلى
(حزب النهضة) فمجرد اسم الإسلام لم يعد مقبولاً في الحياة السياسية الجزائرية!
5- كان من الواضح جداً أن الإفراج عن عباسي مدني، كان مشروطاً بأن لا
يعود إلى أي نشاط سياسي إلا ... إذا كان في صالح النظام، أو يكون في إطار
الاستجابة العملية لمطالب السلطة من الإسلاميين.
6- وأخطر المطالب التي عرضت على جبهة الإنقاذ بعد أن تلقي سلاحها أن
تبدأ في إدخال عناصرها المسلحة تدريجياً في الحياة العامة بعد أن تبلِّغ السلطة بكل
التفاصيل عنهم، وأن تتعهد بالقتال في صف الحكومة ضد أي نشاط إسلامي آخر
يمكن أن يشكل تهديداً للنظام العلماني! !
فهل نحن أمام محاولة لصنع نسخة باهتة أخرى من (السلطة الوطنية
الفلسطينية) ! ولكن في الجزائر؟ !
وهل يا ترى استفادت مدرسة (ابن سلول) من مدرسة (ابن سبأ) اليهودي؟ !
ظننا في الجبهة ورجالها أنهم أكبر من هذه الألاعيب، ويقيننا أن الله لن
يضيع جهودهم لنصرة الإسلام، وصبرهم على تحمل الأذى من أجله ...
وأملنا أن يعود مجد الإسلام في الجزائر وغيرها ولو كره المجرمون..
فالجبهة يمكن أن تكون قد خسرت جولة ... ولكنها لم تخسر المعركة مع التحالف
غير المقدس بين (الاستئصاليين) و (الاحتوائيين) .
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .