هموم ثقافية
بقلم: د. سامي محمد الدلال
بيّن الكاتب في الحلقة السابقة خطأ التصور الذي مؤداه: (أن الديمقراطية
ليست إلا مجرد مجلس نيابي يمكن تحقيق بعض المكاسب من خلاله، وأوضح أن
الديمقراطية التي تعني علمنة الدولة والمجتمع هي الأسلوب المزيّن لولوج العلمانية
إلى نخاع المجتمع وسريانها في جميع أوصاله، وفي هذه الحلقة بقية الموضوع.
- البيان -
11- الإشكالية المدهشة هي: أن النظام الديمقراطي الحاكم يسمي مظاهرات
الاحتجاج الجماهيرية مؤامرة! ! فعندما سأل الصحفيّ زعيمَ حزب التجمع في مصر
خالد محيي الدين: لماذا اتهمك السادات بأنك من المسؤولين عن مظاهرات 18،
19 يناير 1977م؟ وهل كانت حقاً انتفاضة حرامية كما أسماها السادات؟
أجاب: السادات اتهم حزب التجمع؛ لأننا في المعركة الانتخابية سنة 1976م
رفعنا شعارات رددها المتظاهرون في 18و 19 يناير.... وجد السادات أن
الشعارات التي كنا نرددها في الانتخابات رددها المتظاهرون من الجنوب إلى
الشمال، فقال السادات: هذه مؤامرة من حزب التجمع، وهذا غير صحيح..
وكانت الجماهير في المظاهرات تقول: (يا أنور بيه.. كيلو اللحمة بـ 2 جنيه)
وسبب هذه المظاهرات أن الحكومة في ذلك الوقت منحت الجماهير الأمل في
تخفيف العبء عليها، ولو عدنا إلى عناوين الجرائد السابقة للمظاهرات من 15
يوماً.... سنجد أن جرعة الأمل مرتفعة، وأن كل شيء سيتم إصلاحه، وفجأة
صدرت قرارات صدمت الجماهير.
الصحفي: يعني لم تكن انتفاضة حرامية؟
خالد: لا، المحكمة حكمت بعكس ذلك، وقالت إن هذه المظاهرات ليست
انتفاضة حرامية، وإنما هي شعبية، وأن الجماهير كانت معذورة، وأنهم خرجوا
ليعبروا عن رأيهم ... والخطأ خطأ الحكومة) اهـ[1] .
نعم الخطأ خطأ الحكومة!
فأين كان المجلس؟ ! ! إن النواب من عادتهم في حالة إخفاقهم في تحقيق
رغبات الشعب أن يرموا القفاز في وجه الحكومة.
وفي كل الأحوال: أليست الحكومة جزءاً من مجلس الشعب؟
إن الجماهير الشعبية هي دائماً التي تدفع الثمن غالياً. إن سكتت على ضيم،
وإن احتجت قال النظام: إنها مؤامرة وإن الشعب حرامية! !
حقاً إنها مفارقة تدعو إلى التأمل.
12- في ساحة إشكاليات النتائج، لنا وقفة مع بعض آراء محمد مواعدة
رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التونسية، ووقفتنا معه ستكون في أربع
محطات:
* قال مواعدة: (أعتبر أن الفكر الديمقراطي الغربي يجتاز أزمة لا تقل
خطورتها عن الأزمة التي شهدها الفكر الماركسي وأدت إلى انهياره. وأعتبر أن
الفكر الاشتراكي والديمقراطي يخضعان لمنهج سلفي حيث يجري تمثّل مقولات
اشتراكية أو ديمقراطية أنتجت في بداية القرن على واقع مختلف في نهاية القرن.
وهي إشكالية يقرها اليوم الفلاسفة والمفكرون الغربيون الذين أتابع يومياً مؤلفاتهم
الجديدة) أ. هـ[2] .
نعم لا أشك أن الفكر الديمقراطي الغربي يمر في أزمة، شأنه شأن الفكر
الماركسي والفكر الوجودي؛ ذلك أن جميع هذه الأفكار هي من صنع البشر
ووضعهم.
إن تطور وتنوع الطروحات البشرية للمناهج الحياتية، سواء ما كان منها
عقدياً أو سلوكياً، يدل على استمرار حالة القصور؛ إذ إن كل طرح جديد يدل على
قصور ما قبله، وهكذا.
إن جميع المناهج البشرية ستبقى عاجزة عن طرح فهم عقدي له طابع
الديمومة والثبات. وبما أن الديمقراطية واحدة من تلك المناهج البشرية فهي تخضع
حكماً للمعادلة المذكورة نفسها، وخلاصتها: أن إسقاط معنى الديمقراطية يتغير من
زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، إنها مثل لإشكالية العجز البشري.
* قال مواعدة: (وإضافة للمعطيات المميزة للمرحلة، تعتبر خصوصيات
مجتمعنا العربي الإسلامي وشخصيته المتميزة بإيجابياتها وسلبياتها ككل المجتمعات
منطلقاً يتوجب أخذه بعين الاعتبار؛ وهو معطى أكدته التجارب والتطورات
التاريخية التي شهدها العالم؛ حيث لم تعد هنالك نمطية عالمية للنموذج الاشتراكي
ولا للنموذج الديمقراطي. وتأكد أن لكل مجموعة حضارية خصوصياتها وتاريخها
وتراكماتها، إذن لها تجربتها الديمقراطية الذاتية) اهـ[3] .
لقد اعتبر مواعدة النموذج الاشتراكي وكذلك الديمقراطي كأنه حتم لازم
للمجتمعات لا انفكاك لها منه. وعلى هذا الأساس فلكل مجموعة حضارية تجربتها
الديمقراطية الذاتية.
إن تجاهل مواعدة للإسلام ودوره القيادي الريادي على مدى أربعة عشر قرناً
خلت مثير للاستغراب حقاً!
فمعلوم أن الأمة الإسلامية خلال تلك القرون لم تعش التجربة الديمقراطية التي
يتحدث عنها مواعدة، بل عاشت في ظل الإسلام الوارف، تعبّ من معينه بحسب
حال قوتها وضعفها. أما التجارب الديمقراطية فإنها لم تتسلل إلى الأمة الإسلامية إلا
خلال هذا القرن، فأحدثت فيه فجوة لا تزال تتسع.
إن هذه الفجوة الديمقراطية لا تزال تحدث تآكلاتها في المجموعة الحضارية
الإسلامية على حساب خصوصياتها وتاريخها وتراكماتها وتوسعاتها.
إن الأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى النمطية الاشتراكية أو النمطية
الديمقراطية؛ وذلك لانتمائها إلى الصبغة الربانية، فهي الوحيدة التي تمتلك نمطية
الصياغة العالمية لمجموع البشرية على اختلاف خصائصهم الذاتية أو المكتسبة،
ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
* قال مواعدة: (يعتبر مثال رواندا نموذجياً في الاتجاه السلبي بالنسبة
للتجارب الديمقراطية في إفريقيا، فقد كانت تحكم رواندا قبيلة أقلية، هي قبيلة
التوتسي، وعندما طبق النظام الديمقراطي التعددي بشكل طبيعي فازت الأغلبية في
الانتخابات، وهي قبيلة الهوتو التي انبثق منها الرئيس الجديد. وانطلاقاً من
الشرعية الانتخابية التي حصل عليها حاول إجراء عدة تغيرات في أجهزة الدولة،
لكنه سرعان ما اصطدم بنفوذ القبيلة الحاكمة في الأجهزة العسكرية والأمنية
والحرس الجمهوري ومصالح القبيلة المتداخلة مع مؤسسات الدولة؛ وأدى ذلك إلى
تعقيدات ومواجهات، فوقعت الكوارث والحرب الأهلية، واغتيل الرئيس نفسه،
ودخلت البلاد في متاهات) اهـ[4]
إن الذي ذكره (مواعدة) هنا يؤكد ما ذكرته عند الحديث عن إشكالية القبيلة في
الحكم الديمقراطي؛ وهي مجرد واحدة من إشكاليات عديدة، وليس شرطاً أن تتكرر
الإشكالية نفسها في جميع أنماط الحكومات الديمقراطية؛ فربما كانت لكل ديمقراطية
واحدة أو أكثر من الإشكاليات التي سبق أن ذكرتها. ولكن ما يهمنا الإشارة إليه هنا، بل التأكيد عليه:
أن إشكالية النتائج في حالة رواندا تجسدت بأبشع أنواع الاقتتال الأهلي
بسبب إشكالية واحدة من إشكاليات الديمقراطية.
* قال مواعدة: (ومن سوء الحظ أن الوضع في الجزائر وصل إلى مأساة
عنف دموي يومي بين مجموعات مسلحة تعتمد العنف للاستيلاء على السلطة،
وبين سلطة مركزية تسعى وتحاول تجنيب البلاد العنف القائم، ولا شك أن الرئيس
زروال، وهو شخصية محترمة ونظيفة ومناضل معروف، سيسعى إلى حل الأزمة
بالأسلوب السياسي والحوار. وأعتقد أن موضوع التعامل مع التطرف لا ينبغي أن
يكون بالحلول الأمنية فقط؛ لأن ظاهرة التطرف ذات طبيعة مجتمعية شمولية،
ولهذا تطرح المعالجة الشمولية كحل، مع ضرورة الاعتراف بأن استتباب الأمن
مسألة جوهرية..) اهـ[5]
لا أدري لماذا تجاهل مواعدة الأسباب التي أدت إلى الاصطدام الدموي في
الجزائر!
لا شك أن ذلك الاصطدام المروّع الذي يحدث في ذلك البلد المسلم ما هو إلا
إفراز من إفرازات الاحتكام إلى الديمقراطية.
ذلك أن إشكالية الديمقراطية لا تتعلق بحقيقة التعبير عن رأي الأغلبية، بل
تتعلق بحقيقة إحكام الطوق بواسطة النخبة، أو الملأ إن شئت، حول رقاب الذين
ينادون بالعودة إلى الاستظلال بحكم الإسلام.
وعندما تجاهلت جبهة الإنقاذ المَعْلَمَ الإسلامي المميز، ورضيت بالتنزل عنه
لصالح الديمقراطية، لم يرض الديمقراطيون العلمانيون ذلك منها؛ لأن صهوة
الديمقراطية مخصصة لراكب واحد؛ وهو الراكب العلماني فقط! فعندما اجتاحت
جبهة الإنقاذ المراكز الانتخابية، وشكلت فوزاً ساحقاً في الانتخابات الأولى، كان
واضحاً أن صهوة الجواد الديمقراطي ستكون مخصصة لها. وهذا خلاف الهدف
المطروح أصلاً، وهو استغلال الديمقراطية لاحتواء الإسلاميين؛ فوقعت الكارثة!!.
ليست الإشكالية هي تسمية تلك الكارثة بالتطرف، ولكن الإشكالية هي أن
المنادين بالديمقراطية يستخدمونها في اتجاه واحد، وهو تحقيق أهدافهم فقط، فإذا
فاز الإسلاميون بأغلبية مقاعد المجلس النيابي من خلال انتخابات حرة، تنكّب
المنادون بالديمقراطية لمبدئهم الديمقراطي وأطاحوا بصرحه وإن أدى ذلك إلى سفك
الدماء وتعليق المشانق.
إن الإشكالية الأدهى من ذلك أن الإسلاميين النيابيين لم يفهموا اللعبة بعدُ!
13- إن جميع الشعارات الأرضية تُرفع عالياً باسم الشعوب، تحت دعوى
توفير أسباب السعادة الإنسانية، سواء كانت تلك السعادة متعلقة بآفاق الانفتاح العقلي
أو آفاق الانبساط المادي. ولا شك أن الشعار الديمقراطي يأتي في مقدمة تلك
الشعارات المرفوعة، وخاصة بعد انهيار الشيوعية وتداعي بنيانها.
إن الديمقراطية تُطرح الآن في المزاد الدولي باعتبارها المفتاح السحري
لكنوز الرفاهية البشرية.
إلا أن الواقع خلاف ذلك؛ حيث إن الجريمة والفقر لا يزالان يعششان في
أعرق الدول الديمقراطية كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
إن السعادة بمفهمومها المادي لم يستمتع بها في الإطار الديمقراطي سوى الملأ
وحاشيته.
وعند الاستقراء المحايد والنزيه نجد أن واحدة من إشكاليات الديمقراطية،
باعتبارها نتيجة واقعية وقائمة، هي إخفاقها في توفير أسباب السعادة للإنسانية على
المستويين الروحي والمادي.
14- في الوقت الذي تدعي فيه الدول الرائدة للديمقراطية أنها حاملة لواء
العدالة وممتشقة حسام الحرية وداعية حقوق الإنسان، فإنها هي نفسها، وليس
غيرها، التي تمارس أبشع أنواع القهر والقتل والبطش بالمسلمين في مواقع كثيرة
من العالم، بل تمارس ذلك على شعوبها أيضاً. إن الدول الديمقراطية الغربية لا
تزال تقود حملات الإبادة ضد الشعوب المسلمة، إما بإذكاء المؤامرات الداخلية التي
تؤدي إلى الفتن والاقتتال، كأفغانستان، أو بإثارة الحروب فيما بينها، كالكويت
والعراق وإيران، أو بتأييد ومساعدة من يباشر التصفية الجسدية للمسلمين، سواء
من خلال دعم الأنظمة الحاكمة بالعلمانية، أو من خلال دعم الدول والفئات التي
تمارس ذلك على مستوى الشعوب، كدعم الصرب في تصفية المسلمين في البوسنة
والهرسك، وكدعم روسيا في سحق المسلمين الشيشان.
إن الإشكالية المطروحة هنا هي: أن الديمقراطية ما هي إلا غلاف لوعاء
مملوء بالزيف والظلم والاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان.
15- إن واحدة من أهم النتائج التي توصلنا إليها هي أن النظام الحاكم الملأ
هو الذي يقرر مصلحته من مشاركة الإسلاميين في لعبته الديمقراطية كالأردن
والكويت ومصر أو عدم مشاركتهم كسوريا وتونس أو تصفية الوضع الديمقراطي
كلية إذا حاز الإسلاميون على الأغلبية كالجزائر.
وهذا يعني أن الديمقراطية هي ورقة في يد النظام الحاكم يلوّح بها كالطعام
الذي يدلى به إلى السمك، ما إن يراه حتى ينقضّ عليه يحسبه غذاء وما هو إلا
مقتله.
إن الإشكالية هنا أن الإسلاميين في ظل الأنظمة الديمقراطية لا يملكون زمام
المبادرة في أي شيء، بما في ذلك استمرار الديمقراطية التي اختاروا لأنفسهم أن
يكونوا جزءاً منها.
16- لقد حظيت الديمقراطية بدعم واسع النطاق من قِبَلِ دول الغرب،
وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أصبح شعار الديمقراطية من أبرز
الشعارات المرفوعة على المستوى العالمي، وأصبح مطلب تطبيق الديمقراطية في
العالم الثالث بالذات مطلباً ملحاً على المستوى الأممي، وراحت أبواق الأمم المتحدة
تردد هتافات الديمقراطية وتنادي بتبنيها كنظام حاكم في جميع دول العالم.
فما هو السر في كل ذلك؟ ! وهل دول النصارى ومن ورائهم اليهود
حريصون على الإطاحة بالحكام الديكتاتوريين الذين صنعوهم على أيديهم؟
إن المتمعن في سير تصاعد الصحوة الإسلامية في مختلف دول العالم
الإسلامي يمكنه أن يرى بوضوح أن الجماهير الإسلامية ستصل إلى مرحلة
المواجهة الشاملة مع تلك الأنظمة الطاغوتية التي تحكمها بغير ما أنزل الله. ولقد
أوضحت صفحات التاريخ أن إرادة الشعوب لا تستطيع الأنظمة الحاكمة قهرها إلى
الأبد؛ وهذا يعني من خلال المنظور المستقبلي أن جماهير الصحوة الإسلامية تغذّ
السير نحو استلام دفات السلطة في بلادها لترفع راية الإسلام خفاقة فوق روابيها.
وهذا ما لا يرضي النصارى ولا اليهود؛ إذ إن الخطوة التي تليها وهي تحرير
فلسطين وطرد اليهود منها وإرجاعها إلى جنة التوحيد ستكون خطوة حتمية.
ومن هناك برز السؤال المهم، وهو: كيف يمكن أن تلتف قوى اليهود
والنصارى على توجهات الصحوة الإسلامية لتحيد بها عن السير نحو تلك الغاية؟
إن الديمقراطية هي الحل! !
حيث إنها ستتيح الفرصة لمشاركة كافة الفئات في الحكم، سواء كانت
إسلامية أو قومية (سواء كانوا من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو غيرهم من
كافة الأديان والأعراق والأجناس) .
إن ذلك سيحقق نتيجتين هامتين:
الأولى: ألا ينفرد الإسلاميون بالسلطة.
الثانية: أن تتاح الفرصة تحت علم الديمقراطية لنشر الفساد والإلحاد [6] .
إن إشكالية النتيجة في هذه الحالة تتعلق بعدم إدراك الإسلاميين لطبيعة هذا
المخطط والنتائج الخطيرة المترتبة عليه.
17- لقد نجح اليهود والنصارى في جعل الإسلاميين يتبنون الدعوة إلى
الديمقراطية بحرارة واندفاع لافِتَيْن للنظر.
ولقد شهدت الساحة الإسلامية مدّاً لبساط المناداة بالديمقراطية، يقابله انحسار
في الدعوة إلى تبني الإسلام؛ وراح الخطاب الدعوي الإسلامي لدى كثير من
الحركات الإسلامية يلهث وراء هذا السراب اللامع الخادع.
ولقد زيّن الشيطان لكثير من المسلمين زخرف الديمقراطية، وأوهمهم أن
دعوتهم للديمقراطية لا تتعارض مع دعوتهم إلى الإسلام، ومن هنا، انبرى كثير
من الإسلاميين للمشاركة في اللعبة الديمقراطية مدعين أنها الطريق الأمثل والأفضل
والأحسن، وعند بعضهم الطريق الوحيد، للوصول إلى الحكم بالإسلام، وأن
الإسلام لا يمكن تطبيقه إلا من خلال المجالس النيابية المنتخبة بإدارة شعبية،
بزعمهم! !
وهكذا راح الإسلاميون ينفقون أموالهم بسخاء عجيب لدعم حملاتهم الانتخابية، موظِّفين شعارات الإسلام وتطبيقه في خدمة مأرب وصولهم إلى كراسي المجلس
العتيد، وقد تكشفت النتائج عن أمور مخزية! !
إن الإشكالية هنا تتلخص في أن كثيراً من الإسلاميين استنفروا جهودهم
وأموالهم تحت شعار: (لا وصول للإسلام إلا عن طريق الديمقراطية) ! !
18- إن الإشكالية السابقة أفقدت كثيراً من الإسلاميين تحسس المفهوم
الشرعي للولاء والبراء، بما أثر على موقفهم من الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله.
وقد حاول كثير من الإسلاميين المجلسيين بعد أن أصبحوا نواباً أن يحافظوا
على سمت مميز خاص بهم، محاولين بكل جهودهم أن يتمنّعوا، ويستعصوا على
المناورات الحكومية التي تريد توظيفهم في تنفيذ مخططاتها. ولكن للأسف لم يصمد
كثير منهم في قلعة ذلك التمنّع، فاستطاعت الحكومات بأساليبها الشيطانية أن
تطوّعهم، عبر وسائل الإغراء والتحذير، لصالح مآربها. وشيئاً فشيئاً فَقَدَ عدد من
النواب الإسلاميين تميزهم وصاروا جزءاً لا يتجزأ من توجهات الحكومة التي لا
تحكم بما أنزل الله. وقد سعى عددٌ من الحكومات إلى اختيار بعض وزرائها من
الإسلاميين المنتخبين نيابياً؛ وما إن دخلوا الحكومة حتى أصبحوا بوقاً من أبواقها،
خلافاً لحالهم قبل دخولها، والأشد إيلاماً من ذلك أنهم أعطوا أصواتهم النيابية ضد
بعض المشاريع الإسلامية التي عرضت على تلك المجالس، محادّين في موقفهم
ذلك لله ورسوله وللمؤمنين، وموافقين للطاغوت والشيطان والهوى؛ فلا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن إشكالية النتيجة في هذه الحالة هي فَقْدُ الإسلاميين النيابيين لمعالم الولاء
والبراء، وهم مستبشرون! !
19- لا شك أن الإشكالية السابقة لم تحظ بمباركة وتأييد كثير من الإسلاميين، وقد أدى ذلك إلى انشقاق بين الإسلاميين أنفسهم، بين الموافقين وبين الرافضين.
وكذلك لم يسلم معسكر الموافقين من الانشقاق؛ ذلك أن الإسلاميين الموافقين
على المشاركة في المصيبة الديمقراطية ينتمون إلى أحزاب إسلامية مختلفة ترفع
شعارات شتى. وهكذا راح الإسلاميون يشهّرون ببعضهم على الملأ خدمة
لمصالحهم الذاتية أو مصالح الأحزاب والجماعات التي ينتمون إليها، غير عابئين
بما يعود من ذلك من خسائر فادحة على سير العمل الإسلامي وانبثاق دعوته
المباركة.
وانشقاق آخر دوماً يأخذ مجراه بين الإسلاميين الذين تنجح الحكومة في ضمهم
إلى صفوفها كوزراء؛ وبين الإسلاميين الذين وقف حظهم العاثر (حسب زعمهم)
عند حدود وصولهم كراسي المجلس ولم يتجاوزوه إلى كراسي الوزراة! !
وانشقاق آخر يخط طريقه بعنف وشدة يحدث بين القبائل والعشائر والعوائل
التي ينتمي إليها أولئك الإسلاميون النيابيون المختلفون، تعصباً لنوابهم، لا يغذيه
إلا الانتماء مجرد الانتماء لتلك القبائل والعشائر والعوائل.
وهكذا تتعدد الانشقاقات وتتنوع الاختلافات، التي لا تعود على العمل
الإسلامي إلا بالضعف والتشتت والانكسار.
تلك هي إشكالية هذه النتيجة الخطيرة.
20- ومن الغرائب حقاً، أن أولئك الإسلاميين النيابيين المختلفين فيما بينهم،
لم يقفوا من خصومهم العلمانيين كموقفهم من بعضهم البعض.
ففي الوقت الذي راح أولئك الإسلاميون النيابيون يقطعون جسور الوصال فيما
بينهم، فإنهم راحوا في ذات الوقت يبنون تلك الجسور مع العلمانيين بشتى راياتهم
ومختلف شعاراتهم.
إنها مفارقة عجيبة حقاً.
ولقد شهدت الساحات الانتخابية قيام تحالفات مثيرة للاستغراب بين جماعات
إسلامية تنادي بالإسلام وأحزاب أرضية تحارب الإسلام جهاراً نهاراً؛ بل أكثر من
ذلك قد حصل؛ حيث وافقت بعض الأحزاب الإسلامية أن تنزل إلى الساحات
الانتخابية مستظلة بمظلات الأحزاب العلمانية، كمظلة حزب الوفد المصري
العلماني. ولتسويغ ذلك فإن بعض الشخصيات الإسلامية راحت تنفي بكل ما أوتيت
من قوة البيان صبغة العلمانية عن تلك الأحزاب [7] .
إن إشكالية النتيجة هنا تتقرر في أن الإسلاميين النيابيين أقاموا جسور الود
والوصال مع العلمانيين خدمة للديمقراطية، ونحروا علاقات بعضهم ببعض على
مذبحها.
21- ومن ذلك يتبين لنا ما يمكن أن تجنيه التوجهات الديمقراطية من التمكين
والتوطد، مشيدة ذلك على قاعدة متينة، من تأييد الإسلاميين النيابيين؛ ذلك أن
توطيد دعائم الديمقراطية له روافد شتى، منها ما ذكرته في الإشكالية السابقة،
ومنها ما هو نتاج التزاوج الفكري بين الطرح الإسلامي والطرح العلماني. إن هذا
التزاوج وهو ما تدعمه جميع المؤسسات النصرانية واليهودية سيقود التيار الإسلامي
النيابي في نهاية المطاف إلى التبني الكامل لحماية ما يطرحه العلمانيون؛ لأن جميع
ذلك لا حرج فيه ولا تثريب عليه، طالماً تم تحت راية الديمقراطية التي وافق
الجميع من الإسلاميين وعلمانيين أن يستظلوا بها.
بل إن العلمانيين قد أصبح لهم من المسوّغات والحجج القوية ما يردون بها
على الإسلاميين النيابيين إذا اعترضوا أو تأففوا من بعض نتائج التصويت التي تتم
تحت مظلة المجلس النيابي في غير صالح الإسلام، أو إذا استاؤوا من بعض ما
يكتبه العلمانيون في الصحف والمجلات ساخرين من الإسلام ودعاته..
إنهم سيقولون لهم ببساطة: هذه هي الديمقراطية ... إنها تعني حرية الرأي
وهذا رأينا، ولا حق لكم في الاحتجاج عليه طالما أنتم رضيتم بالديمقراطية،
وطالما أننا لم نخرج عن حدودها.
وهكذا فإن علمنة المجتمع أصبحت مسوغة؛ لأنها لم تتم بواسطة انفراد
العلمانيين بالسلطة، بل تمت بمشاركة الإسلاميين فيها، سواء على مستوى المجلس
النيابي أو على مستوى الحكومة.
إنها إشكالية مزدوجة، إشكالية حرية نشر الفكر العلماني، وإشكالية علمنة
المجتمع بمشاركة الإسلاميين!
22- لقد طمع كثير من الإسلاميين في تطويع الديمقراطية لصالح العمل
الإسلامي، ولقد أخفقوا في ذلك أيما إخفاق. ونحن نعتبر أن هذا الإخفاق كان
طبيعياً ومتسايراً مع السنن الربانية، فقد قضى الله في سنته أن نصره للمؤمنين
مرتبط بنصرهم لدينه على الوجه الذي أنزله في كتابه وبينه رسوله -صلى الله عليه
وسلم-. قال تعالى: [إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] [محمد: 7] ولما
كانت الديمقراطية مضادة للإسلام ومخالفة لعقيدته وشريعته، فإنه من الجهل البيّن
أن تتخذ وسيلة وطريقة لنشره ونصره.
إن إشكالية النتيجة هنا تتوضح في عدم تبين الإسلاميين النيابيين لهذه الحقيقة
الناصعة التي دُونَها ضياء الشمس.
إن عدم التبين هذا، هو الذي جعل بعض الكتاب الدعاة من الإسلاميين
المعروفين والمشهورين يعمدون إلى كتابة مقالات وكتيبات يسوّغون فيها مشاركة
الإسلاميين في المجالس النيابية والحصول على حقائب وزارية!
وإنني أدعو هؤلاء الدعاة إلى قراءة هذه الكلمات بإمعان وتفحّص متجردين في
ذلك من أحكامهم المسبقة غير المؤسسة على أدلة يعتد بها ويعتبر.
إن إشكالية النتائج، كما ذكرتها جديرة بالدراسة والاعتبار من قِبَلِ جميع
الإسلاميين المنساقين في دهاليز الديمقراطية المظلمة.
23- إن سقوط كثير من الإسلاميين في هوة الديمقراطية السحيقة قد أطاح
بالمشروع الحضاري الإسلامي الذي ينبغي بناؤه على أنقاض المشروع الحضاري
الغربي الذي نجح أيما نجاح في التغلغل داخل حصوننا في كافة المجالات الحياتية
بأنماطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها؛ هذا فضلاً عن
حالات التصدع والتشويه التي أحدثها في الجدر العقدية للأمة الإسلامية.
إن انجراف الإسلاميين وراء سراب الديمقراطية قد بدد الآمال في بلورة
أوضاع إسلامية صحيحة حاكمة وغالبة، وإن تجدد تلك الآمال مرتبط ارتباطاً وثيقاً
بالعودة الصادقة لهذه الأمة إلى الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح، ذلك الفهم
الذي جمع بين العلم والعمل.
إن أمتنا الإسلامية بحاجة ماسة إلى تأطير توجهاتها الدعوية بأطر مؤسسية
تأخذ بأسباب العصر المتفقة مع عقيدتها والتي تختط طريقها وفق مسالك متميزة
مصطبغة بصبغة الله تعالى، لا بصبغة المناهج والآراء والأساليب المستوردة
كالديمقراطية وأشباهها. إن إشكالية النتيجة هنا مجسدة في المعاول الديمقراطية التي
تهدم المشروع الحضاري الإسلامي خطاباً وحركة.
وأخيراً: فإن إشكالية النتائج كما ذكرتها، وهي ثلاث وعشرون إشكالية
جديرة بالدراسة والاعتبار من قِبَلِ جميع الإسلاميين المنساقين في أنفاق الديمقراطية
المظلمة.