في دائرة الضوء
د. محمد يحيى
هناك اتجاه خبيث يُرَوّجُ له الآن من بعض الدوائر العلمانية؛ وبعضها للأسف
الشديد رسمي الصفة، يرمي إلى خلق وترسيخ عقد النقص والدونية عند جماهير
المسلمين التي نمت فيها في العقود الماضية روح الاعتزاز بالدين والافتخار به،
وتربت فيها نزعة العزة بعد سنين طوال من الانتكاسات والتراجعات التي عكست
نفسها فيما أصبح يعرف بالنزعة الدفاعية والاعتذارية والتبريرية في الفكر
والخطاب الإسلامي. وفي ظل هذه النزعة الدفاعية تحوّل الخطاب الإسلامي في
مجمله تقريباً إلى مجرد ترديد كلمة (أنا بريء) كما يفعل المتهمون بالحق أو بالباطل
في أقفاص الاتهام. وبعد أن تخلص الفكر الإسلامي من هذه النزعة وانطلقت
أطروحاته الإيجابية تقتحم مجالات الحياة المختلفة من سياسية إلى اقتصادية، ومن
فلسفية إلى أدبية وغيرها ظهر مؤخراً ذلك الاتجاه الخبيث واستمد علة وجوده من
الحملات الضارية التي دأبت أجهزة الإعلام والبحث والسياسة في الغرب على
توجيهها ضد المسلمين. وهكذا سمعنا فجأة من بعض الرؤساء والزعماء ذوي
المشارب اللادينية والذين ارْتَدَوْا فجأة مسوح الورع وادعاء الخوف والغيرة على
الإسلام مقولة: إن أفعال المسلمين المزعومة من تطرف وإرهاب ورجعية وتشدد
هي المسؤولة عن إثارة تلك الحملات الغربية، وإنه لو أراد المسلمون إنهاء
الحملات الإعلامية وتحسين صورتهم في الغرب (وهو الأمر الذي تحوّل في الآونة
الأخيرة إلى الأولوية القصوى والوحيدة للخطاب الإسلامي عند بعضهم) فعليهم أن
ينبذوا تلك التصرفات المتطرفة، لا.. بل عليهم أن يظهروا للغرب في الصورة
الوحيدة التي تعجبه وهي صورة الإسلام المعتدل (السمح) أي المتغرب المتعلمن
المتبني كل ما تطرحه الثقافة الغربية (المسيحية في جوهرها) من تصورات.
وقد تغلغل هذا الاتجاه المشبوه إلى حد أننا قرأنا في الآونة الأخيرة تصريحات
لمفتي الحكومة المصرية ووزير الأوقاف بها وكلاهما من دارسي الإسلام وعلمائه
فيما يقال يعلن فيها الأول أن المسلمين وحدهم هم سبب الصورة المشوهة عن
الإسلام في الغرب، ويقول الثاني: إن المسلمين يعيبهم أنهم لا يقرؤون ما يكتبه
المستشرقون؛ ولذلك يسارعون بالطعن فيهم، بينما المطلوب أن يلتقي المسلمون
المعتدلون والمستشرقون على كلمة واحدة، ويتعرف كل على ما عند الآخر. وقد
أثار استغرابي أن يسارع مفتٍ حكومي بهذه السهولة الغريبة إلى رمي المسلمين
بأنهم سبب الحملات الغربية عليهم؛ وتساءلت مثلاً عما فعله مسلمو البوسنة (الذين
اشتهروا بالاعتدال على مذهب الدفاعيين الجدد) أو مسلمو كشمير وغيرهم حتى
يصب عليهم العذاب والقتل من جانب الصرب والهندوس، ثم.. أي مسلمين هؤلاء
المسؤولون عن تشويه الصورة؟ هل هم المسلمون البسطاء الذين يعيشون في
حجاب عن الظهور، ويستظلون بكنف الستر لا يعرف أحد عنهم شيئاً، أم هي
النخب المسيطرة والحاكمة في بلدان إسلامية عديدة طابعها العلمانية والتغرب
والانخلاع من نظام وأحكام الإسلام إن لم يكن من عقيدته؟ إن هذه النخب المسيطرة
من سياسيةٍ وعسكرية وثقافية واقتصادية شاع فيها الفساد والنهب لموارد البلاد، كما
مارست الدكتاتورية المتسلطة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان (حسب مفاهيم الغرب
وحسب مفاهيم الإسلام) كما تلاعبت بالقوانين، واحتكرت ساحات العمل الاجتماعي
لها وحدها، ضاربة الخصوم بعرض الحائط حتى لو كانوا ينتمون إلى التوجه
العلماني نفسه. وكانت هذه النخب بحكم مواقعها وبحكم قربها إن لم تكن عمالتها
للغربيين في بؤرة الاهتمام والتغطية الإعلامية الغربية؛ ونتيجة لذلك فقد ظهرت
فضائحها التي ألصقت بتعمد وبزيف مسف بالإسلام والمسلمين: إذن النخبة
العلمانية هي المسؤولة عن الصورة المشوهة للإسلام.
لكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد؛ فالغرب ليس بحاجة إلى تصرفات شائنة
من المسلمين حتى يشوه صورتهم، وهو ليس بحاجة إلى أحداث إرهابية مزعومة
أو حقيقية ترتكب هنا وهناك (ويرتكب أضعافها شدة وعدداً في الغرب نفسه) ،
وليس بحاجة إلى تصرفات مسفة من أفراد مسلمين (يرتكب أفظع منها وأكثر من
قِبَلِ الغربيين) حتى يطلق حملاته على الإسلام والمسلمين. إنهم يفعلون ذلك بداراً
ومبادأة دونما استفزاز أو مثير في إطار حملة مخططة تسير حثيثاً للنيل من الإسلام. وقد قال أحد فلاسفة الغرب في القرن الثامن عشر الميلادي: (لو لم يكن الإله
موجوداً لوجب اختراعه) وهذه المقولة تطبق بالنص وإن بمعنى آخر: (لو لم يكن
ما يسيء للإسلام موجوداً لوجب اختراعه) وبمعنى آخر: إنهم يفتعلون أشياء وهمية
ويضخمونها ويكررونها حتى يصدق الناس أنها موجودة، ثم يبنون عليها حملاتهم
ضد الإسلام والمسلمين، تلك الحملات التي يتلقفها البعض ومنهم أرباب المناصب
الرسمية ليخرجوا منها وبسهولة مريبة إلى القول بأن المسلمين كل المسلمين مدانون؛ وعليهم الاعتذار والتوبة لسادة الغرب الإعلاميين والسياسيين. فإذا لم يكن هذا
التكريس لعقد النقص والدونية بلا مسوِّغ (ونحن لا نذكر ناحية سوء النية) فماذا
يكون؟
والمسلمون لا يطلب منهم فقط الشعور بالدونية والاعتذار عن الجرائم
المزعومة التي تسببت في غضب الغرب عليهم عند المفتي الحكومي، بل يُطْلَبُ
منهم فوق ذلك عند قرينه الوزير أن يقرؤوا كتب المستشرقين ويفهموها (لا للرد
عليها، بل لكي يستوعبوها) وكأن قراءة هذه المصنفات المكتوبة بلغات أجنبية حية
وميتة قد أصبح فرضاً على كل مسلم ومسلمة، وليس هذا فحسب بل يجب أن يحشد
المسلمون (المعتدلون) (ولا يعرف أحد من المسؤول عن فرزهم وتحديدهم) لكي
يلتقوا بالمستشرقين ويتعلموا منهم دينهم أو على الأقل ليكيفوا دينهم حسب ما يريد
هؤلاء.
وهكذا وبسهولة أيضاً يُنَصّبُ المستشرقون على يد وزير في حكومة دولة
إسلامية وكأنهم سلطة روحية وفكرية تخضع لها الجباه وتعلو على النقد والمساءلة
(ونذكر بأن الكاتب المسيحي المشهور إدوارد سعيد قد انتقد هؤلاء حتى النخاع في
كتابه المعروف (الاستشراق) ويطلب من المسلمين (المعتدلين) أن يتكيفوا مع
أفكارهم حتى وهم في بلادهم الغربية وكما يعرف القاصي والداني فإن هؤلاء
يصبحون كمّاً مهملاً لا وزن لهم في دوائر الفكر والفلسفة والعلم وإن كان لهم وزن
في دوائر التنصير والتخطيط السياسي لضرب الإسلام في بلدانه بعد دراسته على يد
هؤلاء المستشرقين.
ومرة أخرى: بِمَ يمكن أن نسمي هذا! ... إلا بأنه تكريس لعقد النقص
والدونية حينما يُجعل المسلمون تابعين أذلاء لفكر وتصورات طائفة لا أهمية فكرية
لها في الغرب لكنها طائفة انتحلت لنفسها دراسة الإسلام زعماً وادعاءً، وهي
المطعون في دراستها من جانب الغربيين أنفسهم ثم يأتي وزير مسؤول ليطلب من
المسلمين كل المسلمين قراءة ما يكتبه هؤلاء عن دين المسلمين والتعلم منه، وكأنه
نسي أن هناك علماء للإسلام على طول وعرض العالم الإسلامي (ويفترض أنه
واحد منهم) يتلقى المسلمون دينهم منهم بثقة، بل وكأنه نسي أنه كان يتحدث في
حضن أقدم الجامعات الإسلامية في دراسة الإسلام والتفقه فيه. فأي دونية ونقص
يفوق ذلك؟ وما هو بُعد ذلك الاتجاه الخبيث الذي يريد للمسلمين أن يعيشوا
كمجرمين متهمين لا همّ لهم سوى ترديد كلمات البراءة أو تعلم دينهم ودراسته من
غير المؤمنين به من فرقة لا وزن لها علمياً في بلادها ذاتها؟