دراسات تربوية
موقف النظرية التربوية الإسلامية..
من النظرية التربوية الغربية
بقلم: عبد المجيد بن مسعود
مقدمة:
لعل من الثوابت التي أصبحت راسخة في وجداننا الحضاري وسلوكنا الفكري
نحن المسلمين في العصر الحديث، وباتت تتحكم بقدر غير يسير في منهج دراستنا
للظواهر، وتحليلنا لمختلف القضايا الفكرية والتربوية، لعل من تلك الثوابت: أن
نعرض الأنساق والنظم الإسلامية المرتبطة بشتى مجالات النشاط النظري والفكري، في سياق المقارنة بينها وبين مثيلاتها في عالم الغرب، ولا شك أن هذا الثابت
النسبي ستستمر مسوغاته وفعالية تأثيره على تحليلاتنا ودراستنا الفكرية والنظرية،
ما دام هناك في واقعنا المعاصر فئات عريضة من الناس تنظر إلى الغرب على أنه
مركز الحضارة والإشعاع الفكري المستنير الذي لا نملك إزاءه إلا أن نطأطئ
رؤوسنا في خشوع! من هنا رأيتني أُقبل على دراسة موقف النظرية التربوية
الغربية ومناقشتها في ضوء معالم التربية الإسلامية؛ بغرض إبراز التصور
التربوي الإسلامي للتربية. والواقع: أن منهجية المقابلة هذه لا يمكن للتصور
الإسلامي إلا أن يخرج منها منتصراً مرفوع الرأس؛ لأنه ينطلق من موقع قوة
يستمدها من ربانية مصدره التي تمنحه التنزه عن التجاوز والضعف، والاهتزاز
والقصور، ولأن منهجية المقابلة تقتضي عرض الصورة كاملة أمام الناس بكلا
طرفيها فيتضح الطرف الهزيل من الطرف القوي، من خلال إبراز العناصر
والمكونات التي تدخل في نسيج كل بناء نظري على حدة.
النظرية التربوية عرض وتقديم:
هناك قواسم مشتركة بين النظريات التربوية الغربية تتمثل فيما يلي:
أولاً: الاعتماد المطلق على العقل:
منذ البداية يمكننا أن نلفت النظر إلى حقيقة أساس مفادها: أن النظريات
الغربية على تعددها وتباينها في بعض الخصائص والصفات، تكاد يجمعها قاسم
مشترك هو: كونها صادرة عن مصدر وحيد في المعرفة هو: العقل البشري في
حركته ومعاناته وقلقه المأساوي في البحث عن الحقيقة، وكونها صادرة عن تصور
واحد للكون والإنسان والحياة.
والجدير بالاعتبار أنه ما من نظرية في التربية إلا وهي انعكاس لمذهب
فلسفي ما، وهذه قاعدة عامة لا يمكن أن يند عنها أي مذهب تربوي.
ولا تعدو الاختلافات التي تظهر بين نظرية وأخرى أن تكون تعبيراً عن
الاختلاف والتنوع في الملابسات والتطورات التاريخية التي مرت بها المجتمعات
الغربية، بكل ما تحمله تلك التطورات من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية
وعلمية وغيرها.
ثانياً: النظريات التربوية الغربية ضيقة الأفق أحادية النظرة:
فالنظرية التربوية المثالية هي صدى للفلسفة الأفلاطونية حيث يقول أفلاطون
بعالمين: (العالم المحسوس) ويتألف من الأجسام أو الماديات، و (العالم المعقول)
وهو يتكون من الموجودات المجردة [1] .
فتلك النظرية تنطلق أساساً من (الصدارة المطلقة للروح على المادة) وهي
تفضي إلى تصرف تأملي يهمل المشكلات الزمنية، وطبيعة الإنسان الأرضية،
وتعنى أساساً بكمال الروح ونجاتها.
وانطلاقاً من هذه المعطيات يتجلى لنا الطابع النظري الذي يكتسيه التعليم في
إطار النظرية المثالية؛ حيث إن الهدف من التربية يرمي بالدرجة الأولى إلى
(تمرس العقل بالتراث الفكري والعقلي الذي خلفته الأجيال السابقة، بل اكتسب هذا
التراث صبغة القداسة وأصبح ينقل بحرفيته، وارتبطت موضوعات الدراسة
بضرورات التراث بدلاً من ضرورات الواقع، وصارت صلتها الوثيقة بالماضي
في تحوّل دون ارتباطها بالحاضر والمستقبل) [2] .
أما المذهب الطبيعي، فإنه على العكس من المذهب المثالي؛ إذ يركز على
الجسد وما به من عواطف وغرائز وميول، فيعطيها الأهمية القصوى على حساب
العقل.
وإن كان من المعلوم أن هذا المذهب قد تجاوز من طرف التيار النفسي في
التربية الذي يستمد أسسه من رائد المذهب نفسه (روسو (، حيث يرى (بأن اللجوء
إلى علم النفس هو الإمكانية الوحيدة لتوفير المعيار الحقيقي لموضوعية البيداغوجيا) [3] .
ومما يؤخذ أيضاً على هذه النظرية تضييق نطاق التربية بحيث ينحصر في
الطفل، الأمر الذي أدركت التربية المعاصرة خطأه وقصوره فوسّعت نطاق التربية
ليشمل المراهق والراشد والشيخ، وهذا ما أكدت عليه الرابطة الدولية (الجديدة)
للتربية الجديدة.
أما المذهب البرجماتي، وهو ذلك المذهب الذي يحوّل (النظر بعيداً عن
الأشياء الأولية والمبادئ والقوانين والحتميات المسلّم بها، (ويوجه) النظر نحو
الأشياء الأخيرة: الثمرات، النتائج، الآثار [4] .
فإن مركز الثقل في اهتمامه لا ينصبّ على الحقائق الثابتة، وإنما على ما
يحصله الإنسان من منافع يستثمرها في حياته العلمية حتى إنه ينظر إلى الحقيقة
على أنها هي المنفعة وفي هذا (خلط واضح بين الحقيقة نفسها، والهدف الأساس
من محاولة الظفر بها، فقد ينبغي أن يكون الغرض من اكتساب الحقائق هو
استثمارها في المجال العملي والاستنارة بها في تجارب الحياة، ولكن ليس هذا هو
معنى الحقيقة بالذات، فإعطاء المعنى العلمي (البحت) للحقيقة، وتجريدها من
خاصية الكشف عما هو موجود وسابق! استسلام مطلق للشك الفلسفي الذي تحارب
التصورية والسفسطة لأجله، وليس مجرد الاحتفاظ بلفظة الحقيقة في مفهوم آخر
كافياً للرد عليه، أو التخلص منه) [5] ، وما دام تيار الحياة متنامياً في سيره، فإن
حقائق جديدة تلغي وتتجاوز الحقائق القديمة، فلا شيء يبقى ثابتاً! ، وفي ضوء
هذه القناعة فإن أصحاب هذا المذهب يرون أن (التربية والنمو صنوان وليس للنمو
غاية تتجاوزه أو تعلو عليه، فغاية النمو هو النمو ذاته) [6] .
إن من عيوب هذا المذهب جعله الحياة الحاضرة محوراً وحيداً للتربية دون
الالتفات للحياة المستقبلية، الأمر الذي جعله يفتقد قاعدة صلبة من المبادئ والأهداف
الثابتة التي تضبط حركة الحياة، وتحمي الإنسان من التيه والقلق والتأرجح بين
أحداث الحياة وتطوراتها المتلاحقة؛ وتلك نتيجة حتمية لإغفاله للجانب الروحي في
الإنسان ورفضه للإيمان بما وراء المادة [7] ، وهذا ما حكم على نظريته التربوية
بالدوران في حلقة مفرغة، فهي تدور مع حركة الحياة المادية حيث دارت من غير
الاستناد إلى مبدأ عميق ومقياس دقيق تفصل بواسطته بين الغث والسمين،
والصالح والطالح ضمن تراث الإنسانية المترامي الأطراف، وتنفذ بواسطته وراء
أسوار الحياة المادية الضيقة.
سمات عامة في التربية الغربية:
وهكذا فإننا إذا تأملنا المذاهب التربوية الثلاثة تبين لنا بوضوح انطباعُها
بطابع النظرة الأحادية الجانب، التي تركز على بُعد واحد من أبعاد الكيان الإنساني
على حساب الأبعاد الأخرى؛ فقد لمسنا كيف يضخم المذهب المثالي جانب الروح
على جانب الجسد بكل ثقله، مستهيناً بما يستشعر ذلك الجسد من حاجات، عازلاً
الإنسان عما تموج به الحياة، مغرقاً إياه في صور وخيالات غريبة لا قِبَلَ له بها،
مخرجاً إياه من فطرته التي فطره الله (تعالى) عليها، وهذا في مقابل المذهب
الطبيعي الذي يفعل العكس تماماً؛ فليس هناك في ظل ذلك المذهب مُثُلٌ عليا يتجه
إليها، غير الانسياق وراء ما تمليه عليه الطبيعة، ولا مكانٌ مرموق لقوى العقل
وضوابط الأخلاق، والثغراتُ نفسها تشكو منها النظرية التربوية البراجماتية؛ إذ
إن إعداد الإنسان عندها هو الإعداد لحياة هادرة يتقلب الإنسان بعنف وراء أمواجها
المتلاطمة دون تحديد لقواعد ثابتة يتم الرجوع إليها وللكمال الذي يأوي إليه.
إن نتيجة مهمة يمكن استخلاصها مما سبق، وهي أن تضارب الأفكار
والمواقف الذي تعبر عنه النظريات الغربية، هو برهان ساطع على أن المنطلقات
التي تصدر عنها تلك النظريات خالية تماماً من اليقين العلمي، وإلا لانتهت إلى
قناعات مشتركة حول قضايا الإنسان والمجتمع، فهذا التخبط الذي تعاني منه هذه
النظريات وغيرها نابع من الجهل بحقيقة الوجود وحقيقة الإنسان محور الحياة فيه،
وهذا ما يؤكد عليه الدكتور (ألكسيس كاريل) في قوله: (إننا لا نفهم الإنسان ككل..
إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا،
فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة) [8] .
من سمات النظرية التربوية الإسلامية: إن التصور الإسلامي في التربية
تجاوز ذلك التخبط الرهيب، الذي ظل يلاحق النظريات الغربية؛ لأنه ينطلق من
أسس وأصول محكمة وفهم شامل حول الكون والإنسان والمجتمع بني على وحي
ممن خلق الإنسان ويعلم حقيقته وجوهره: [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك: 14] ، وهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة، بمكوناته كلها، دون
إغفال إحداها لصالح الأخرى؛ لأن مطبقيه يعلمون أن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل
في الكيان البشري وانعدام التوازن فيه، وبالتالي إفلات الزمام تماماً من قبضة
المربين الذين يتولون تنشئة الإنسان، وتعرّض هذا الأخير للدمار والانتكاس.
فالتربية الإسلامية التي تنبثق من الإسلام ونظرته الشاملة في الكون والإنسان
والمجتمع، تميز في المعرفة بين مجال يرتاض فيه الإنسان بطاقاته العقلية، ويصل
فيه إلى اكتشاف حقائق وأسرار، وهو مجال الطبيعة الفسيح الذي لا قِبَلَ للإنسان
بمعرفته إلا عن طريق الوحي الإلهي: أي عن طريق الدين الصحيح، وهو مجال
(ما وراء الطبيعة) ، والكيان البشري بتعقيده الهائل وتفاعل عناصره جزء من ذلك
المجال، وبتعبير واضح: مجال تنظيم حياة الإنسان وعلاقاته بالآخرين في دوائرها
المختلفة وكيفية معاملته لذاته.
فإصرار الفكر الغربي على أن بوسعه معرفة كل شيء عن الإنسان هو الذي
قاده إلى الطريق المسدود، والأزمة الخانقة التي تضرب الغرب بعنف شديد.
العلوم الكونية بين ذانك المنهجين:
وتقودنا المسألة الآنفة الذكر إلى البحث عن الدافع الذي كرس لدى الإنسان
الغربي هذا الاعتداد بالعقل. ومن الميسور لنا أن نقول بأن التقدم العلمي الذي
أحرزه الإنسان الغربي أدى إلى إصابته بالغرور والانبهار؛ فاعتقد خطأً أن العلم هو
الآلة السحرية التي لا يند عنها شيء؛ ولا يعزب عنها مثقال ذرة، وخيل إليه من
فرط إعجابه باكتشافات العلم أن هذا الأخير أصبح بديلاً عن الدين في تحقيق السعادة
للإنسان.
أما التربية الإسلامية، فإنها تنظر إلى العلوم الكونية على أنها مجال لتعميق
الإيمان بالخالق (عز وجل) ؛ إذ إن المعرفة ليست معزولة عن الحكمة، بل هي
على العكس من ذلك المحراب الذي يقود إليها، قال (تعالى) : [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] [فاطر: 28] ، وقال (تعالى) : [إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ (190) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [آل عمران: 190، 191] .
وإننا بنظرة عميقة إلى كلمة الشهادة التي هي إعلان لدخول الإنسان في
الإسلام نتبين حقيقتين عظيمتين في الوقت ذاته: الحقيقة الأولى: هي مسؤولية
الإنسان الفردية في فعل الشهادة، والحقيقة الثانية: تعني أن تعبيري عن الشهادة
بقولي: (أشهد أن لا إله إلا الله) (لا يحدث في فراغ أو في انعزال عن عالم الطبيعة، وإنما يحدث في عالم الطبيعة وبه، فالمعرفة المطلوبة في الشهادة لا تحدث في
الإنسان وحده كعارف، وإنما تحدث فيه بوجود موضوع المعرفة أو وجود عالم
المخلوقات بما فيها هو نفسه كأحدها) [9] .
أهداف التربية بين المنهجين: إن الخصائص المذكورة التي ميزت النظريات
الغربية في التربية، ومن بينها وقوع الفصام النكد بينها وبين الدين، وبالتالي
التعويل على العقل وتأليه العلم، كل ذلك أوقع التربية الغربية في الذاتية والهوى
ومحدودية الأفق في تحديد الأهداف الكبرى التي تتوخاها، ورغم الشوط الذي
قطعته العلوم الإنسانية في الغرب، فإنها لم ترتق بتلك الأهداف (فعلى الصعيد
الفردي دعت هذه العلوم الإنسان إلى الاعتماد على الذات وتقويتها؛ لأنها منبع القيم
المستقل والمرجع الأخير لوجود الإنسان ووعيه بوجوده، وأصبحت الحرية في
نظر الغرب متساوية مع الممارسة التي لا تخضع لمبدأ أو قانون، بل تصدر عن
الإرادة الشخصية مجردة) ، وقد تأثرت نظرية التربية بهذه النزعة إلى التمركز
حول الذات؛ فأصبحت ترى غايتها في إحداث التجانس في الرغبات بين أفراد
المجتمع الواحد، أما إذا تجانست فلا سؤال ولا استفهام بعد ذلك في خيرها أو شرها [10] .
لقد استقرت التربية الغربية على أن الهدف الأسمى (للتربية) الذي ينبغي العمل على تحقيقه هو إعداد المواطن الصالح، وشتان بين هذا الهدف الضيق والهدف الرفيع الذي ترمي إليه التربية الإسلامية، وهو إعداد الإنسان الصالح (الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مواطن في هذه البقعة من الأرض أو في ذلك المكان؛ وذلك معنى أشمل ولا شك من كل مفهوم للتربية عند غير المسلمين) [11] .
من إيجابيات النظريات التربوية الغربية: وإذا كانت النظريات الغربية
موضوع النقاش تشكو من تلك العيوب والثغرات التي رأيناها، وهي عيوب
وثغرات مترتبة حتماً عن طبيعة الأسس الفلسفية التي يشيد عليها أعلام الفكر
والتربية في الغرب أبنيتهم ونظرياتهم التربوية، فإن الإطار العام لتلك النظريات قد
اشتمل على بعض الاجتهادات في مجال التنظير والتطبيق التربويين، التي مكنت
الفكر التربوي الحديث من تجاوز بعض العناصر المثبطة؛ فاهتداء التربية الحديثة
في شخص أحد أقطابها المرموقين (روسو (إلى أهمية وضرورة تحرير الطفل من
عوائق الآباء والمجتمع، وتحذير (البراجماتية) مستفيدة في ذلك من تراث:
(روسو) من سلب الطفل فاعليته وقصر نشاطه على تقبل آراء المعلم ومتابعة أفكاره، بدل إشراكه بطريقة ديمقراطية في التفكير والبحث والتمحيص ليصل إلى الحقائق
بنفسه [12] ، كل ذلك شكّلَ مكاسب في إطار الفكر التربوي الغربي أزاحت
مجموعة من العوائق التي كبلت الفعل التربوي مما تسبب عنه ارتقاء في المردود
التربوي وتحسن في وتيرته.
ملحوظة مهمة: ومن خلال بحث هذا الموضوع أرى من الأمانة العلمية
والإخلاص للحق أن نورد ما انتهى إليه أحد الباحثين من أن هذا الذي أصبحت
تنادي به التربية الحديثة من ضرورة تخفيف (آثار البيئة وآثار الآباء على نمو
الأطفال من ناحية، وتنظيم البيئة التي تتطابق أكثر من غيرها مع خير نمو لنموهم
العقلي والخلقي من ناحية أخرى) [13] ، إن هو إلا تعبير عما جاء به الإسلام ممثلاً
في مفهوم الفطرة الواردة في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كل مولود
يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ... ) [14]
إن التأمل في واقع الإنسان يدلنا على قابليته للتطبع بعقائد البيئة التي تكتنفه
في مراحله الأولى؛ مما يترتب عنه تشكّل عقليته ونظرته للحياة في قوالبها، كما
يدلنا على حرص الآباء على أن يكون أبناؤهم على غرار النماذج المرضية عندهم
المألوفة لديهم. في خضم هذا الوضع يعلن الإسلام عن مبدأ الفطرة التي تعني أن
مصير الولد في عقيدته وأخلاقه كامن فيه وليس في المجتمع الذي يولد فيه و (هذا
التركيز على ما أوجد في خلق الإنسان من قدرات ترشحه لحب الحق وللتوجه نحوه
وبه، نَقَلَ مهمة التربية نقلاً جذرياً وغيّر غاياتها تغييراً أساساً، فبعد أن كانت
مهمتها نَقْلَ ما توارثه الآباء والمجتمع صارت مهمتها توفير ما يلائم فطرة الإنسان
من نمو عقلي وخلقي ووجداني، وصارت غايتها كمال هذه الفطرة، وبهذا الانتقال
ارتقت التربية من ضيق وتعدد نسبية المجتمعات المختلفة إلى تربية عالمية ترتبط
بحقيقة الإنسان أينما كان وفي أي عصر كان) [15] .
خلاصة واستنتاجات: يَتَبَينُ من المعطيات السابقة أن في الإسلام تصوراً
يمتلك مقياساً دقيقاً يُعْرَض عليه ما توصل إليه التراث الإنساني في المجال التربوي، يقبل منه ما يقبل مما هو داخل في نسيج الحقائق المعبرة عن واقع الإنسان،
ويرفض منه ما يرفض مما لا تتوفر فيه شروط الصدق وموافقة قوانين الفطرة التي
فطر الله الناس عليها؛ ومن هذا المنطلق: فإن التصور الإسلامي يتبنى بكل ثقة ما
تتوصل إليه الإنسانية من كشوف متميزة ومناسبة في عالم التربية بما لا يناقض
أسسها ومنطلقاتها معتبراً إياها جزءاً من نسيجها الشامل على اعتبار أن في ذلك
النسيج ما يدل دلالة واضحة عليها، ويهدي إليها.