دراسات شرعية
هل يمكن التعاون بين المسلمين
مع وجود الاختلاف؟
بقلم: هيثم بن جواد الحداد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه من والاه،
وبعد:
فقبل الخوض في غمار هذه القضية الشائكة لا مناص من البدء بالتأكيد على
أصلين عظيمين لا بد أن يستصحبهما من يتناول هذا الموضوع قراءة أو بحثاً:
أما الأصل الأول: فهو وجوب الاجتماع، ونبذ التفرق.
وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام تضافرت في الدلالة عليه بطرق شتى
آيات وأحاديث كثيرة جداً، وفاضت به كتب علماء الإسلام قديماً وحديثاً، ولا أظن
أحداً يخالف فيه، فلا داعي لإطالة الكتابة بذكر أدلته وأقوال العلماء فيه ويكفي أن
نذكّر بقول الله (عز وجل) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا]
[آل عمران: 103] ، قال القرطبي (رحمه الله تعالى) : (.. فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة؛ فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك إذ يقول:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا) [1] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (وهذا الأصل العظيم، وهو
الاعتصام بحبل الله جميعاً، وألا يتفرق: هو من أعظم أصول الإسلام، ومما
عظمت وصية الله (تعالى) به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب
وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة
أو خاصه، مثل قوله: (عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة) .. وباب الفساد
الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها: هو التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين
أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم وإن كان
بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحيه، أو
توبته، أو غير ذلك لكن ليعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام) [2] .
وأما الأصل الثاني: أن من صَدَقَ عليه وصف الإسلام لا بد أن ينال من
الحب والولاء:
ولوازمهما بقدر ما معه من الإسلام والإيمان، وفي المقابل يجب أن ينال من
البغض والتبري بقدر ما معه من عصيان، وأن الولاء والحب لا يزولان بالكلية،
إلا بخروج الإنسان بالكلية من الإسلام، فعندئذ فقط يستوجب كمال البغض والتبرؤ، يقول ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر،
وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من
الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص
الواحد موجبات الإكرام والإهانة كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما
يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم
الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم..) [3] .
بعد ذلك لا بد من بيان بعض الأمور:
أولاً: لا بد من بيان حكم التعاون بين المسلمين؛ والأصل فيه قوله (تعالى) :
[وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة: 2] وما
في معناها من آيات وأحاديث، وهي ظاهرة في وجوب التعاون بين المسلمين فهم
المخاطبون بتلك الآية على البر، وظاهرة في تحريم التعاون على الإثم والعدوان.
وهنا نقول: إن كل من صدق عليه وصف الإسلام، وجب التعاون معه على
كل ما يصدق عليه أنه بر وتقوى؛ عملاً بعموم الآية الكريمة، ولا شيء يخصص
هذا العموم.
والأخذ بهذا الأصل، بشروطه المذكورة في الآية بهذه البساطة والوضوح
يريح المسلم من كثير من التعقيدات والإشكاليات حول موقف المسلم من المخالفين له.
ولنضرب لذلك مثالاً يعتبر من أكبر الإشكاليات في هذا الوقت وهو التعاون
مع أهل البدع، فنقول: إذا لم يكن أهل البدع ممن يكفرون ببدعتهم، كبعض
الصوفية، والأشاعرة وغيرهم، ممن لا يزال وصف الإسلام صحيحاً عليهم، وكان
التعاون معهم في أمر يصدق عليه أنه من البر والتقوى، مثل أمر بمعروف أو نهي
عن منكر، أو دعوة إلى الله، أو بناء مسجد، أو غيرها، فما هو المحذور
الشرعي من ذلك التعاون؟
فالجواب: عندئذ لا يعد التعاون مع هؤلاء على مثل تلك الأمور تعاوناً على
البر والتقوى، بل أصبح تعاوناً على الإثم والعدوان، ونحن منهيون عنه.
فإذا اشتمل التعاون على بر وإثم في آن واحد، رجعنا إلى الأصل الشرعي
المتفق عليه وهو إذا تعارضت مصلحتان أخذ بالأعلى منهما، كما أنه إذا تعارضت
مفسدتان قدم الأخف منهما، فيصدق على ما يقدم في كلتا الحالتين أنه من البر
والتقوى.
قال ابن تيمية (رحمه الله تعالى) ( ... فإذا تعذر إقامة الواجبات، من العلم
والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان
تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس، ولهذا كان
الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل..) [4] .
بعد هذا البيان المقتضب الخالي من التعقيد لا شك أن كثيراً من المسلمين لن
يروق له ذلك في بادئ الأمر، وسيعترض عليه، بل ربما رفضه، ولكنه لو تأمل
لوجد أن هذا الإشكال الكبير الذي دوّخ كثيراً من المسلمين، وأدخلهم في دوامات لا
نهاية لها، وزجّ بهم في صراعات متنامية، هذا الإشكال ينتهي ويُحل إذا فهمنا هذه
الآية فهماً دقيقاً حسبما تقدم ذكره؛ إذ لا معارض لها من آيات أو أحاديث أو أصول
عامة.
وبهذه المناسبة أقول: إن وجود هذا الإشكال بهذا الحجم، حدث بسبب
التقصير في الاعتماد على نصوص الوحي في الاستدلال، والتقصير كذلك في
الاعتماد على أصول الاستنباط المتفق عليها، التي من أهمها فهم النصوص
الشرعية في ضوء قواعد الشريعة العامة المتفق عليها، واستبدال ذلك بالموازنة
بأقوال العلماء، حتى أصبح كلامهم كالنص، يجب العمل به، ويُحمل على عمومه.
بل ربما أصبح كلام بعض العلماء وبعض مواقفهم، هو الأصل وأن الآيات
والأحاديث تُحمل عليه، ولم تعد الوقائع، أو أفعال الصحابة أو مواقفهم، وكذلك
أقوال العلماء تُرجع إلى الأصول العامة المتفق عليها وتقارن بها، وإنما تُجتزأ
اجتزاء، وكل فريق يجتزئ من النصوص والأقوال ما يدعم مذهبه، ويرد كل على
الآخر، ويتكلف كل فريق في الاستدلال وإيراد الأقوال الدالة على مذهبه، ويكثر
اللغط؛ فتظهر تلك القضية كأنها من القضايا الكبرى المصيرية، التي تنبني عليها
الموالاة والمعاداة، وتحدث الفرقة، ويغيب الحق، ويزج بالدعاة في دهاليز مظلمة، يصعب عليهم الخروج منها وينصرفون عن واجبهم الأول وهو الدعوة إلى الله،
إلى صراعات حزبية لا تزيد الأمة إلا وهناً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ونعود الآن إلى ما نحن بصدده.
ثانياً: لا بد من التفريق بين التعاون الذي أُمرنا به وبين الحب والبغض،
والولاء والبراء الذي أمرنا به كذلك؛ فحينما نقول: يجب أن نتعاون مع المسلمين
على البر والتقوى، فإن هذا لا يعني أن الحب الكامل والولاء الكامل يجب أن
يتوجه إلى كل المسلمين؛ فالتعاون شيء، والحب والبغض شيء آخر، فنحن
نتعاون مع الفاسق في بناء مسجد مثلاً مع أننا نكره ونبغض في الله ما يأتيه من
فسق، وربما يُمَثّل لذلك بأننا أُمرنا بالجهاد مع البر والفاجر من الأمراء، مع أننا
نبغض الفاجر لفجوره، ومن لازم بينهما أعني التعاون والمحبة، فعليه الدليل
والتعليل.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن الأصل المتقدم من جواز اجتماع الخير
والشر في الرجل الواحد، وأنه ينال من الحب بقدر ما معه من خير، وينال من
البغض كذلك بقدر ما معه من الشر، هذا الأصل دال على هذا وشاهد عليه.
وكما ذكر ابن تيمية في الفقير السارق: (تقطع يده لسرقته، ويعطى من
الزكاة أو الصدقة لفقره) .
وبهذا يزول قدر أكبر من الإشكال، فلا مانع من التعاون مع المخالف على
البر والتقوى، ونحن في القلب نكره ما فيه من مخالفة، ونتبرأ منه بقدر ما معه من
مخالفة.
وهنا قد يقول قائل: ولكن التعاون مع المخالف مثل أهل البدع؛ قد يتضمن
الرضا ببدعتهم، أو قد يصور للناس أن المتعاون معهم هو منهم، وموافق لهم على
بدعتهم؟ !
والجواب: ينظر حينئذ في المصالح والمفاسد المترتبة على هذا التعاون؛
فأيهما غلبت كان لها الحكم؛ فإن كان ظهور الإنسان بمظهر الموافق لهم على
بدعتهم ينطوي على مفسدة أكبر من المصلحة المترتبة على ذلك التعاون، مُنِعَ
التعاون، وإلا فلا، وكذلك الأمر إذا كان نشر البدعة وإظهارها وحض الناس عليها، له مفسدة وهو في الغالب كذلك أكبر من المصلحة المترتبة على ذلك التعاون
أصبح هذا التعاون من التعاون على الإثم والعدوان؛ فهو داخل في النهي، فيزول
بذلك الإشكال.
أما مسألة الرضا ببدعتهم: فلن يرضى عنها إلا من هو موافق لهم وعلى
مذهبهم، أو يرى أنها ليست بدعة، أو من كان متساهلاً في أمر البدع؛ وهذا كله
راجع إلى أمر قلبي في ذات الشخص، فكأنه أصبح منهم، فليس هو عندئذ ممن
يسأل هذا السؤال.
وقد يثار هنا إشكال آخر وهو: ألا يعتبر التعاون مضاداً لهجر المخالفين الذي
أُمرنا به؟
والجواب: أولاً: لا بد أن نعلم أن الهجرَ خلافُ الأصل واستثناءٌ منه؛ إذ
الأصل وجوب الألفة والمحبة بين المسلمين والآيات والأحاديث ونصوص العلماء
سلفاً وخلفاً على ذلك متضافرة، قال الله (تعالى) : [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ]
[الحجرات: 10] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تباغضوا، ولا
تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق
ثلاث) [5] قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث من الفقه: أنه لا يحل التباغض؛
لأن التباغض مفسدة للدين، حالقة له، ولهذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بالتواد، والتحاب ... ثم قال: فمعنى: تدابروا، وتقاطعوا، وتباغضوا، معنى متداخل
متقارب، كالمعنى الواحد في الندب إلى التآخي، والتحاب، فبذلك أمر رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في معنى هذا الحديث وغيره، وأَمْرُ رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - على الوجوب حتى يأتي دليل يخرجه إلى معنى الندب) [6] .
كما أن الهجر إن عملنا به لا يكون إلا مدة يسيرة عابرة، قال النووي: (قال
العلماء: وفي هذا الحديث لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ... تحريم الهجر بين
المسلمين أكثر من ثلاث، وإباحتها في الثلاث، الأول بنص الحديث، والثاني
بمفهومه) [7] .
ثم إن الأصل في الهجر المصلحة، كما نص على ذلك جمع من العلماء [8] ؛
فحيث وجدت المصلحة جاز الهجر، أما إذا انتفت المصلحة، أو كانت المفسدة
المترتبة على الهجر أكبر من المصلحة المترتبة عليه حرم.
قال ابن تيمية (رحمه الله تعالى) : (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في
قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور عنه وتأديبه،
ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي
هجره إلى ضعف الشر وخِفْيَتِه كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع
بذلك، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع
من التأليف؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قوماً، ويهجر
آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان
أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم،
وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين،
وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
وجواب الأئمة كأحمد وغيره، في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا
كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم
بخرسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين
وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق [9] .
وقال في موطن آخر: (فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد، ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأموراً بها، كما ذكره
أحمد عن أهل خرسان إذ ذاك، أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن
إظهار العداوة لهم، سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر
عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي، وكذلك لما كثر
القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار
المحفوظة فيهم ... ) [10] .
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الهجر لا ينافي مبدأ التعاون، فإذا
قبل المخالف التعاون على أمر فيه مصلحة للمسلمين مع إصراره على التمسك بما
هو عليه من مخالفة لو تصورنا ذلك فما المانع من التعاون معه، إذا كانت المصلحة
في الأمر المتعاون عليه هي الغالبة.
وبهذا يظهر أن أمر التعاون مع المخالف، قد يكون في كثير من صوره أمراً
خاضعاً للاجتهاد؛ وذلك حسب كل حالة والظروف المحيطة بها، وأنه منوط
بالمصلحة، وعندئذ فلا يجوز لأحد أن ينكر على من خالفه في الأخذ بمبدأ التعاون
في بعض الصور إذا كان يظهر أن المصلحة ربما تكون فيها راجحة ولو من وجهة
نظر المخالف.
وفي ظل هذا نستطيع فهم كثير من مواقف السلف الصالح، والعلماء، حول
هذه القضية، ففي بدر مثلاً حكى الله (عز وجل) عن الصحابة: [مِنكُم مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ] [آل عمران: 152] ولا شك أن الرسول - صلى
الله عليه وسلم - كان عالماً بمن هو من أصحابه ممن يريد الدنيا، أو لإعلام الله له
بذلك إن كان فيه ضرر عليهم، ومع ذلك فقد جاهد الجميع في خندق واحد.
ولذا أمرنا بالجهاد مع البر والفاجر من أمراء المسلمين [11] ، وعلى مر
التاريخ جاهد علماء المسلمين مع أمرائهم وأئمتهم ولو خالفوهم في بعض مسائل
الاعتقاد؛ لأنهم رفعوا راية إعلاء كلمة دين الله بصدق.
ولا بد من أن نؤكد هنا بناء على ما تقدم على أن مواقف الأئمة وأقوالهم في
المخالفين، يجب أن تُفهم في ضوء هذا الأصل، وهو أن الموقف من المخالف
منوط بالمصلحة؛ فكل زمن له وضعه وأحواله؛ فليس زمن قوة الإسلام كزمن
ضعفه؛ فلا يجوز أبداً اجتزاء بعض أقوال العلماء بعيداً عن هذا الأصل، ومن ثم
الاحتجاج بها، فضلاً عن أن تجعل أدلة قائمة بذاتها، لتسويغ الفرقة الحاصلة بين
المسلمين، وما أجمل كلام شيخ الإسلام إذ يقول: ( ... وكثير من أجوبة الإمام
أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل، قد علم المسؤول وحاله، أو خرج
خطاباً لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول -
صلى الله عليه وسلم - إنما يثبت حكمها في نظيرها، فإن أقواما جعلوا ذلك عاماً،
فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما
تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك
بالكلية فلم يهجروا ما أمر بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض،
لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها ... ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي
عنه. والله أعلم) .
وأخيراً فقد يقال: لكن يبقى أن المخالف مخالفة سائغة يكون المسلم أقرب إلى
التعاون معه، وكذلك النصرة له من المخالف مخالفة غير سائغة، ولا مقبولة، أو
قد تحتم بعض الظروف معرفة درجه المخالف والمخالفة.
وهذا ولا شك صحيح يضاف إليه ما ذكرنا مما يجب أن يقوم في القلب من
حب وبغض وولاء وبراء بحسب المخالف، وهذا ما نتناوله في المسألة التالية:
ثالثاً: بقي النظر في المخالف، ودرجة مخالفته، وموقف الإنسان منه: محبة
وبغضاً، وولاء وبراء؛ وهذه المسألة ذات شقين:
الشق الأول: وهو الحديث عن الخلاف، والمختلفين.
وأما الشق الثاني: فهو الحديث عن الموقف من الخلاف، والمختلفين.
فبالنسبة للشق الأول، فإنه لا بد أن نحرر أقسام الخلاف وأنواعه تحريراً
دقيقاً.
والذي يظهر لي أننا يمكن أن نقسم الخلاف بين المسلمين، بحسب الموقف
منه إلى خلاف سائغ، وخلاف غير سائغ.
والأساس الذي بني عليه هذا التقسيم، بل وأكثر مسائل الخلاف وما ينبني
عليها: متى يكون المخالف لنا، مخالفاً لأمر الشارع جل وعلا عاصياً بفعله وهذا
بالطبع فيما يظهر لنا فعندئذ يستوجب ما يستوجبه العاصي من نكير، وبغض وتبرؤ
من عصيانه، ومتى لا يكون كذلك؟
والأصل في هذا كله قوله (تعالى) : [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] [النساء: 59] وما في معناها من
آيات وأحاديث. وحاصل ذلك بعبارة موجزة: أن من انتظم في سلك هذه الآية،
بمعنى أنه يصدق عليه أنه راد الأمر إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه
فاعل ما أمر به، فهو معذور، وأما من لم يرد إلى الله ورسوله -صلى الله عليه
وسلم-، فإنه ولا شك مخالف أمر الله، وهو عاص مستحق للعقوبة، مستحق
للبغض والهجران بقدر ما حصل منه من مخالفة.
وتقسيم الخلاف إلى سائغ، وغير سائغ، مبني على ذلك؛ فمن انتظم في
سلك الآية، فخلافه سائغ، ومن لا فلا.
وعليه؛ فإذا فهم هذا الدليل، ووجه الاستدلال به، اتضح ما يأتي من تفصيل، وظهر وجهه؛ كما سنبينه في الحلقة القادمة إن شاء الله.