مجله البيان (صفحة 2571)

التطورات الاخيرة لعملية السلام (ندوة) (1)

ندوات ومحاضرات

التطورات الأخيرة لعملية السلام

والتوقعات المستقبلية

(1من2)

إعداد/وائل عبد الغني

إيماناً من مجلة البيان بأهمية الدور الإعلامي في معالجة قضايا الأمة معالجة

إسلامية تستند إلى تأصيل شرعي ورؤية علمية، فقد رأينا أن نطرح إحدى قضايا

الأمة في حاضرها على عدد من المختصين ممن عُرِفوا بولائهم للحق ونصرتهم

للدين في ندوة؛ لنحيط بالتطورات الأخيرة لعملية السلام والتوقعات المستقبلية لها

من جميع جوانبها، ونخلص إلى رؤية متكاملة لتلك القضية التي هي قضية

الحاضر والمستقبل في أهم جوانبها.

ضيوف الندوة:

1- الدكتور: محمد عبد المنعم البري رئيس جبهة علماء الأزهر والأستاذ

بكلية الدعوة الإسلامية.

2- الدكتور: جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعتي القاهرة وأم

القرى سابقاً والباحث والمؤلف المعروف.

3- الدكتور: حامد عبد الماجد الأستاذ بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد

والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

4- الأستاذ: كمال السعيد حبيب الكاتب والمحلل السياسي بعدة صحف عربية.

بداية نرحب بالضيوف الكرام في هذه الندوة التي نأمل أن تبلغ آفاقاً من

الرصد والتحليل تغني القارئ عن كثير من التحليلات التي يشوبها غبش في

التصورات وعدم صفاء في المنطلقات.

فهذا العام هو عام 1997م وهذا يعني مرور قرن كامل على مؤتمر بال،

وخمسين عاماً على قيام (إسرائيل) ، وثلاثين عاماً على احتلال القدس، وعشرين

عاماً على أول اتفاقية مع اليهود، والحصاد: تَسَارُعٌ عجيب في الأحداث،

وتضارب في المواقف؛ لذا نحب أن نضع أمامكم القضية بجوانبها لنغطيها جانباً

جانباً، ولتكن نقطة البداية انطلاقاً من عمليات السلام.

* فنريد من الدكتور حامد عبد الماجد رصداً تاريخياً لعملية السلام وتطورها

وأهم الدلالات التي نخرج بها.

* بداية أشكر مجلة البيان ...

إذا أردنا أن نفهم طبيعة عملية (التسوية السياسية) الجارية الآن، فعلينا أن

نعود إلى الاتصالات السرية بين الزعماء العرب والصهاينة في أعقاب نكبة 1967م

التي أدت إلى قبول النظام الناصري لمبادرة روجرز في ذلك الوقت، مروراً

بالمفاوضات التي جرت تحت رعاية كيسنجر بعد حرب 1973م، تلك المفاوضات

التي مهدت لاتفاقية (كامب ديفيد) ؛ لنجد أن القيادات العربية أبدت استعدادها لقبول

الحلول الوسط (مبدأ التوفيق) ، حيث اختفت شعارات (تحرير الأرض المحتلة)

وتواضعت الآمال لمجرد (إزالة آثار العدوان) بالانحساب إلى حدود ما قبل النكبة.

وتم القبول بمرجعية القرارات الدولية ومنها القراران: 242، 338؛ اللذان

يكرسان وجود الكيان الصهيوني وشرعيته، وهذه الخلفية تبرز لنا ثلاث حقائق

استمرت في إطارها عملية التسوية السياسية:

الأولى: تغير الرؤية الطبيعية المصيرية لهذا الصراع على الأقل من قِبَلِ

القيادات العربية واختفاء مرجعية (الحقوق العربية) والأراضي المحتلة والمغتصبة

لتحل محلها (التسويات السياسية) و (التنازلات المتبادلة) من خلال قرارات الأمم

المتحدة.

الثانية: اختيار القيادات العربية لمنهج جديد هو (منهج التفاوض السلمي)

الذي جاء بديلاً عن منطق استمر لقرون طويلة إزاء التعامل مع الصراعات

المصيرية، ألا وهو منطق الجهاد وقوة السلاح؛ وبالتالي اعتبرت حرب 1973

حرباً (تحريكية) .

الثالثة: أن القيادات والأنظمة الحاكمة بدأت التفاوض وهي في أسوأ أوضاعها

من ناحية فقدان الإرادة السياسية واتبعت أسلوب (التفاوض السري) الذي يجري

تحت رعاية المخابرات الدولية، إلى جانب الاجتماعات المعلنة التي تبدو فيها

الأنظمة أمام الرأي العام الداخلي (متماسكة) وأحياناً (متصلبة) .

وكانت اتفاقية أوسلو (التي تعتبر أسوأ اتفاقية (إذعان) عرفها تاريخ

الصراعات المصيرية) أوضح نموذج لذلك.

* البيان: الأستاذ كمال، هل لديك إضافة؟

أ. كمال: نعم أريد أن أجلّي بُعداً خطيراً في الصراع، وهو غياب الجانب

الإدراكي لطبيعة الصراع لدى القيادات العربية، وأعتقد أن من أخطر استراتيجيات

العدو التي طرقتها القيادة الصهيونية في التعامل مع القيادات والجيوش العربية

محاولة هي تغيير إدراكها عن طريق إقناعها باستحالة حسم الصراع مع اليهود إلا

من خلال السلام! وهذا ما تحقق فعلاً، وهذا يدل على أن الأنظمة العربية لم تكن

جادة في حرب إسرائيل، وهذا الشعور تسرب إلى كل الأجهزة التي كانت موجودة

آنذاك بما في ذلك الجيش؛ والسر في ذلك هو تبني القيادات العربية منهجاً في

الصراع قائماً على استبعاد الدين، واستبعاد الرؤية الصحيحة للصراع!

* إذن هذا يدفعنا للوقوف على بنود اتفاقية أوسلو: ما مدى واقعيتها، وما

حدود تطبيقها الآن؟

د. حامد: بداية جاءت اتفاقية (أوسلو (لتشكل تراجعاً عن صيغة (مدريد) .

اتفاقية أوسلو (1) تحدثت عن اعتراف متبادل بين (دولة إسرائيل) كدولة،

و (منظمة التحرير الفلسطينية) كمجرد ممثل للشعب الفلسطيني دون الإشارة إلى وطن

قومي لهم أو (دولة فلسطين) .

كما أن هذا الاتفاق لم يتطرق لمسائل مهمة، مثل: مسألة المستوطنات،

الحدود، اللاجئين، القدس ... إلخ

ثم تبلور ذلك في اتفاق عملي يكون بداية لحكم ذاتي فلسطيني في غزة وأريحا، أما أوسلو (2) فهي خاصة بإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي، وتسلم الفلسطينيين

مهام الحكم الذاتي في بقية مدن الضفة الغربية.

أما ما تم تطبيقه بالفعل من هذه الاتفاقية غير المتكافئة بين جانبين فإنه يكاد لا

يذكر؛ فرغم مرور عامين تقريباً إلا أنه لم يحدث تغير ملموس في الاتفاق الذي لا

يشمل سوى 20% من مساحة فلسطين التاريخية مع مواجهته للعديد من التحديات

في تطبيقه، حيث لم يتم إعادة الانتشار في مدن الضفة في التوقيتات المحددة، بل

زاد الحصار على مناطق السلطة الوطنية لملاحقة عناصر حماس. ومع وصول

الليكود إلى السلطة تكشفت النوايا، واتضحت المواقف التي كان يراوغ فيها بيريز، وأعلن نيتن ياهو عن برنامجه الآتي:

1- (الأمن) هو الاعتبار الأول في أي سلام توقعه إسرائيل.

2- رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة.

3- تمتع إسرائيل بحرية كاملة في الضفة والقطاع لا سيما في معركتها ضد

(الإرهاب) .

4- احتفاظ إسرائيل بسيادتها على المناطق ذات الأهمية الأمنية وأيضاً

المستوطنات اليهودية.

5 - الاحتفاظ بالموارد المائية في الضفة دون تقسيمها.

6 - القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وإنهاء كافة أنشطة السلطة

الوطنية في المدينة.

وبهذا يتضح أن حكومة الليكود تنصلت من كافة الاستحقاقات السياسية التي

نصت عليها كافة الاتفاقيات الموقعة، وجمدت عملية التفاوض من جانب واحد تحت

ذرائع أمنية.

* د. عبد المنعم البري: ما موقف الشرع الإسلامي إذن من هذه الهرولة

التي ملأت الآفاق نحو عملية السلام من قِبَلِ العرب؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فإني أشكر مجلة البيان على

هذا الجهد البناء، وأسأل الله أن يجعل هذا العمل مباركاً نافعاً، وألا يحرمنا أجره.

الهرولة ليست جديدة في تاريخ الصراع؛ ففي القرآن الكريم نرى نظائر لها

في الصدر الأول على يد الضعفاء: [فَتَرَى الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ

يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَاًتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا

عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِين] [المائدة: 52] . واليهود هم اليهود كما صوّرهم

القرآن.. يشهد بذلك تاريخهم وواقعهم، وقد كشفت لنا الأحداث طرفاً من

مخططاتهم لضرب الإسلام والسيطرة على العالم، من أجل ضمان استقرار أبدي

لأمن إسرائيل.

لذا: فالهرولة هي الهرولة في كل وقت، وحكمها محرم بنص الكتاب.

والجديد هو أن جِدهم في قضيتهم أفسح لهم جميع المحافل الدولية، ومكنهم من

التغيير في كل المجالات؛ ولذا طمع ضعاف النفوس في رضاهم!

* وما ثمن هذه الهرولة من جهة إسرائيل أولاً؟

أ. كمال: الصهاينة ثوابتهم لا تتزحزح، ولكن أطماعهم تزيد؛ فهُم جميعاً

بمن فيهم (اليسار والشيوعيون والعلمانيون) يستندون إلى المقولات التوراتية،

ويصيغون صراعاتهم مع العالم الإسلامي على أساس أنه صراع ديني عقدي

مصيري.

أما المهرولون فينظرون للصراع على أنه صراع حدود لا وجود، وأنها

مسألة سياسة لا صلة لها بالأديان؛ ومن هنا نشأ التساهل في الاستسلام لمطالب

اليهود، وبالتالي الهرولة.

أضف إلى ذلك أن استفادة اليهود من المنطلق التاريخي في الحرب كان

مستحضراً من قِبَلِ العقلية الصهيونية بحيث استفادوا منه استفادة عظيمة وهو ثابت

آخر فنرى سيناريوهات الصراع تتكرر بصورة تكاد تكون حرفية؛ فمراسلات

حسين مكماهون تكررت مع السادات بعد 1973م، ثم مع عرفات بعد ذلك، حيث

كان يتم التخاطب مع عقلية القائد الذي يدير الصراع من منطلق قائم على تحليل

نفسية هذا القائد؛ وبذلك يتضح أن اليهود يقبضون ولا يدفعون.

* لا شك أن فاتورة الهرولة مكلفة جداً للعرب؛ فما أهم بنود هذه التكاليف؟

أعني: ما أعظم الخسائر من جرّاء هذه الهرولة؟

أ. كمال: الهرولة نجم عنها خسائر عظيمة بدأت بعزل مصر عن أداء

دورها بوصفها دولة مركزية في النظام الإقليمي العربي وقت أن كان هناك نظام

إقليمي عربي؛ وهذا أدى إلى نوع من التحركات الخفية نحو التطبيع أو على الأقل

محاولة تهيئة الرأي العام المعارض لما تستبطنه باقي الأنظمة؛ والعقلية العربية لم

تكن محصنة؛ مما أدى إلى سهولة اختراقها.

وكانت النتيجة أن دخلت إسرائيل في عام 1982م عاصمة عربية واحتلتها

لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يكن هناك أي رد فعل عربي

موحد، وجرى تشتيت منظمة التحرير بعد ذلك، ثم تدمير المفاعل النووي العراقي، ثم ضرب منظمة التحرير الفلسطينية في تونس.

أما بعد اتفاقات مدريد وغزة وأريحا.. وانتقال الصراع من الحرب إلى

التفاوض السلمي، وما تبع ذلك من مؤتمرات اقتصادية وأمنية وسكانية أدت إلى

خروج إسرائيل من عزلتها الإقليمية وزيادة نفوذها في إفريقيا وآسيا، بالإضافة إلى

إلغاء المقاطعة بدرجتيها (أ، ب) وبالتالي أدى ذلك إلى انتعاش العدو وتحركه في

كل المجالات؛ لأن المقاطعة كانت تكلفه مليارات الدولارات، ومن ثَمّ زادت قدرته

على التوغل في بنية النظام العربي في أسواقه ومجتمعاته حتى أصبح جزءاً من هذه

البنية أتاحت له عقد الاتفاقيات الاستراتيجية، وإقامة التحالفات بما يمكّن له من

إقامة خططه بصورة أدق وأسرع.

* هل يعني ما سبق تغيير التشكيلة السياسية للمنطقة؟

أ. كمال: إسرائيل كانت تخطط منذ أن قامت كيف تصبح جزءاً من بنية

النظام الإقليمي الذي تنتمي إليه من أجل ضمان بقائها. وهذا ما حدث.

فبعد الهرولة والتحلل العربي التابع لها بدأ طرح نظام بديل هو النظام (الشرق

أوسطي) بحيث تصبح إسرائيل مركزه، وتقوم هي بالسيطرة على ما يمكن أن

نسميه بـ (حركة الموارد الاستراتيجية) المتمثلة في المال والاتصالات والأسواق

والمواد الخام؛ بحيث يقدم العرب الأيدي العاملة والمواد الخام لهذا النظام.

* وهل يعني ذلك انتهاء النظام الإقليمي العربي؟

أ. كمال: لا يمكن الآن أن نقول إن هناك نظاماً إقليمياً عربياً؛ لأن إطلاقنا

لفظ (نظام) يفترض معها وجود منظومة تنظم عمله، وأن هناك حداً أدنى للاتفاق

بين أعضائه يكفل لهم اتخاذ موقف موحد إزاء المخاطر التي تتهددهم بل لا يوجد

تصور موحد عن مسألة إدارة الصراع مع اليهود خاصة بعد صعود نتنياهو إلى سدة

الحكم.

وهذا يبرز الضعف العربي الذي يعكس دلالة رمزية لكيفية تعامل الآخرين

معهم؛ وهو مبدأ سارٍ على علاقات الأفراد والدول على حد سواء؛ وهذا علة كافية

لكثير من القرارات الدولية والإسرائيلية الأخيرة؛ لأن قناعة صناع القرار في

إسرائيل أن العالم العربي ضعيف وعاجز ومفكك، وأنه غير قادر على اتخاذ قرار

موحد؛ يغريها على أن تتعامل مع كل دولة على حدة، ويطلق العنان لمخابراتها في

التعامل مع كثير من مخابرات الدول العربية سراً، ويفتح أمامها الطريق للاستمرار

في تنفيذ خططها، بصرف النظر عن الوجود العربي!

* د. حامد: في كتاب: (مكان بين الأمم إسرائيل والعالم) الذي ألفه نيتن

ياهو فرق بين سلامين:

(سلام الديمقراطيات) وينعدم فيه أي طموح للصراع المسلح، وتحميه الإرادة

الشعبية السائدة في النظم.

وسلام يتم مع الأطراف الديكتاتورية في البلاد اللاديمقراطية، وهو (سلام

الروع) الذي يقوم من خلال القوة؛ وهذا واضح في سياساته هو بالذات.

* د. عبد المنعم: القضية الآن ليست في عدونا بقدر ما هي فينا؛ فأضعف

الإيمان أن تُهيأ النفوس المؤمنة لتعي هذه الحقائق استعداداً للمواجهة الحتمية، وعلى

الحكومات تغيير بعض سياساتها التي تقلل المخاطر.

* نترك الهرولة العربية جانباً ونهرول نحن نحو فلسطين المحتلة لنجيب عن

تساؤلات عدة عن الداخل، ونبدأ بتساؤل عن الفرق بين الليكود والعمل؟

د. جمال عبد الهادي: العمل والليكود وجهان لعملة واحدة؛ فليس هناك

حمائم وصقور؛ فهم جميعاً صقور، الجميع لهم هدف مشترك هو قيام إسرائيل

كبرى من النيل إلى الفرات؛ لذلك لا تجد في دستورهم ما ينص على حدود لهم

حتى الآن! وعلينا أن نعي أن سياسة جميع زعماء الأحزاب الإسرائيلية تصب في

اتجاه واحد هو إنشاء دولة صهيونية عالمية تحكم من أورشليم القدس.

أ. كمال: لا يوجد اختلاف حقيقي بين الليكود والعمل أو المعراخ من جهة

الرؤى الأساس؛ وإذا كان هناك خلاف فهو خلاف في التكتيك وليس في القضايا

الاستراتيجية.

* إذن ما تشيعه وسائل الإعلام العربية عن حزب العمل والمعراخ خديعة!

أ. كمال: نعم؛ وأكبر دليل على ذلك أن معظم المستوطنات التي أقامتها

إسرائيل في الأراضي المحتلة تمت أثناء وجود العمل في الحكم، والفَرْق هو سرية

إقامة المستوطنات خلال فترة حكم حزب العمل، وإعلان سياسة: (لا مستوطنات

قبل وجود حل نهائي) مجرد إعلان.

كذلك فإن فتح أبواب الهجرة إلى إسرائيل كان معظمه في ظل حكم العمل،

وكذلك مسألة التربية القتالية والتطور المستمر للترسانة الحربية، وعقد الاتفاقيات

الاستراتيجية مع الدول الخارجية.

فالفرق: أن العمل أكثر دهاءاً وخبثاً، والليكود أكثر صراحة؛ لأنه يتمثل

القضية الدينية، وهو صريح في الإعلان عن مبادئه وأهدافه، إضافة إلى الخلاف

في التكتيك.

* إذن: لماذا صَعَدَ الليكود في هذا الوقت بالذات؟

أ. كمال: صعود الليكود له دلالة هي: أن الاتجاهات الدينية اليمينية

المتشددة التي تستجيب للأسطورة الصهيونية بدأت تتنامى وتؤثر على الرأي العام

بشدة، وتضغط على صانع القرار؛ لذلك فضلت الليكود على غيره، وهذه القوى

كانت هامشية، وانتقلت لتصبح هي القوى الفاعلة لتشكل المجرى الأساس للتيار

العام داخل إسرائيل.

* وهل لاختيار نيتن ياهو دلالة زائدة؟

نيتن ياهو يعبر عن جيل جديد.. فهو يملك جنسية مزدوجة: إسرائيلية

أمريكية، دارس إعلام، صغير في السن نسبياً، رجل مخابراتي وعسكري سابق

وله إنجازاته في ذلك المجال.

وهذا يعكس نوعية إفراز إرادة الرأي العام هناك؛ لإيجاد جيل جديد يغلّب

الحسم العسكري لإيمانه بمعركة هرمجدّون.

لكن نيتن ياهو لا يملك القرار وحده؛ لأن وراءه مؤسسة سياسية تشارك بقوة

في القرار، وتمثل عامل ضغط عليه مما يقلل من مساحة مناوراته السياسية في

التفاوض بالإضافة إلى منطلقاته هو في التعامل مع الواقع، وكذلك الرأي العام.

* نأتي لقضية الأمس واليوم: فالأمس كانت القضية هي القدس، واليوم

القضية هي المستوطنات، وغداً ... فكان لقرار الكونجرس الأمريكي بنقل السفارة

الأمريكية للقدس واعتماد مبلغ 100 مليون دولار لذلك كان له صداه العالمي

ودلالاته من جهة التوقيت ومن جهة متخذ القرار نفسه ومن جهة الوضع العربي.

فنسأل لماذا هذا التوقيت بالذات؟

د. جمال: هذا التوقيت؛ لأن العرب يمرون بحالة من الضعف والتفكك،

ولأن العدو حقق كل ما يريد: هيمنة اقتصادية إعلامية ثقافية.. تعليمية على العالم، وكذلك على أطراف رد الفعل العربية.

وتم تأمين حوض البحر الأبيض المتوسط القرن الإفريقي ومدخل البحر

الأحمر المساعدات الأمريكية المستمرة محطات الإنذار المبكر القوات الدولية

الموجودة في المنطقة؛ لذلك هو يستعجل الحسم العسكري؛ لأنه بطبيعته عدواني

خاصة بعد أن وقّع مع الولايات المتحدة اتفاقية الدفاع الاستراتيجي ليصبح أي تهديد

لإسرائيل معناه تهديد لأمريكا، وأي تهديد لهم بالتالي يعني قرار حرب.

* وما دلالاته على الجانب الأمريكي؟

أ. كمال: هذا القرار صدر قبل ذلك عام 1995م عن مجلس الشيوخ،

وثارت وقتها ضجة. وهذا القرار كان من مجلس الشيوخ فقط، وأعطى الإدارة

الأمريكية فرصة تأجيله 6 أشهر، واستخدمت الإدارة الأمريكية هذا الحق الذي

يتجدد كل 6 أشهر حتى عام 1999م.

هذا القرار الذي اتخذ أخيراً كان بأغلبية كبيرة؛ ولهذا الأمر، فإن له دلالات

عدة:

أن اليهود استطاعوا اختراق أمريكا بالكامل عن طريق دعايتهم ابتداءً من

البروتستانتية التي تعتبر قراءة توراتية للإنجيل.

وبالتالي وجود تيار ديني قوي داخل المجتمع الأمريكي يلعب دوراً في إنجاح

كلينتون؛ ويؤثر بدوره في السياسة الأمريكية التي تشكل عمود السياسة الغربية.

اختراق المؤسسة الحاكمة الأمريكية بالكامل من قِبَلِ اليهود بدءاً من بلاط

كلينتون وبالتحديد زوجته اليهودية هيلاري، ومروراً بكل مواقع صناعة القرار في

الولايات المتحدة بما في ذلك مدير المخابرات المركزية ووزيرة الخارجية وكل

المواقع الحساسة في مراكز القرار. إذن هناك منظومة واحدة تحرك العقل الغربي

إزاء إسرائيل وإزاء القدس بوصفها بزعمهم عاصمةً موحدة وأبدية لإسرائيل.

د. جمال: كلينتون له توجهاته الصهيونية التي تتعدى كل الحدود التي بلغها

الرؤساء الأمريكيون السابقون عليه؛ وهذا الحوار الذي دار في الكنيست الإسرائيلي

مساء 27/10/94 بمناسبة الاتفاق مع الأردن:

تكلم رابين رئيس الوزراء، ثم تكلم نيتن ياهو زعيم المعارضة، ثم تكلم

كلينتون. يقول رابين موجهاً كلامه إلى كلينتون:

تذكر وصية أستاذك في المرحلة الثانوية (القس واو) التي أوصاك بها، وهو

على فراش الموت؛ بأن تحافظ على إسرائيل وترعاها عندما تصبح رئيساً للولايات

المتحدة الأمريكية وهي قوله:

(الإرهاب الإسلامي هو عدو السلام وعدو العالم كله، وعدوكم وسيعبر

البحار والمحيطات ليصل إليكم.

أورشليم كانت وستظل إلى الأبد عاصمة لإسرائيل القلب النابض للشعب

اليهودي) .

ثم كان خطاب كلينتون على ما يلي:

أشعر كأني في بيتي.. لقد حققت إسرائيل أمس جزءاً من حلم الآباء بتوقيعها

للاتفاقات مع الأردن.. هذا السلام هو من أجل الشعب الأمريكي أيضاً.. إننا

نعرف أهمية إسرائيل منذ عهد الرئيس ترومان، وإن بقاءها هو بقاء لكل القيم

العزيزة علينا. أنا ملتزم بالعمل مع الكونغرس لصيانة المستوى الحالي للمعونة

االاقتصادية والعسكرية والتعاون العلمي وتصدير التكنولوجيا المتقدمة لإسرائيل،

كي تبقى في مقدمة التقدم العلمي والتكنولوجي العالمي للتغلب على مخاطر السلام!

لذا سنرسل لإسرائيل خمس عشرة طائرة (15 ف) لتكون قادرة على الدفاع عن

نفسها بنفسها.

لقد أصبحت سوريا جادة للدخول في السلام. إن الجندي الإسرائيلي الذي قتله

الإرهاب مؤخراً، كان أمريكياً أيضاً.. لذا فعلينا مجابهة الإرهاب بصورة حازمة؛

فالتطرف والإرهاب لا زالا يهددانا جميعاً.

نحن نحترم الإسلام وعندنا ملايين من الأمريكيين يستجيبون كل يوم لنداء

الصلاة في المساجد. والصراع هو مع من يثيرون العنف ويريدون تدمير السلام.

الإرهاب يهددنا من الداخل ونقول لتجار الإرهاب لن تحققوا النجاح.

جئت إلى القدس قبل ثلاثة عشر عاماً، وعشت الكتاب المقدس، كتابنا

وكتابكم ... وقلت للقس (واو) الذي أوصاني بشعب إسرائيل وقال لي: (عندما

تصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية فإن الله لن يسامحك أبداً إذا قصرت في

تأمين إسرائيل) ، قلت له: لن أنسى وصيتك بمشيئة الله؛ فإن القدس هي موطن

الكتاب المقدس وستظل إلى أبد الآبدين..

* هل يعني هذا أن القدس خرجت من خيارات التفاوض؟

أ. كمال: في الواقع أن القدس لم تدخل في خيارات التفاوض؛ وإنما الذي

جرى عبارة عن تكتيك لتمرير التهويد؛ فالمتابع لما يجري داخل القدس يومياً يكاد

يُفجع لما يجري لكل البنية الموجودة في القدس الشرقية من أجل تزييفها لتهويدها

بالكامل، وعلى سبيل المثال:

تغيير المناهج الدراسية العربية إلى مناهج إسرائيلية، وإلغاء الإشراف

الأردني عليها، وهو ما يعني تهويد التعليم رغم أن هذا المجال ظل مغلقاً تماماً في

وجههم.

سحب الهويات من المقدسيين بشكل يومي.

الاستيطان؛ وطبعاً مستوطنة أبي غنيم هي التي عرفنا بها وما خفي كثير،

وإلا فإن هناك أربع عشرة مستوطنة أخرى غيرها يجري إقامتها.

التضييق الدائم على التجار العرب عبر سلسلة من الإجراءات: ضرائب

تكسير محلات فرض حصار إجبار على الإغلاق..

الخروج عن حدود القدس القديمة؛ بحيث يجري توسيع حدود القدس الموحدة؛ وهذا طبعاً وأد لأي فكرة للتفاوض.

* إذن: تأخير المفاوضات بالنسبة للقدس كان مجرد لعبة سياسية لا أكثر!

د. حامد: الواقع أن إرجاء المفاوضات بشأن القدس للمرحلة النهائية حتى

تكون إسرائيل قد استكملت خطة تهويدها؛ وبذلك تضع العرب أمام الأمر الواقع!

ولنرجع إلى الوراء قليلاً فقد بادر بن جوريون عام 1948م فور إعلان القدس

الغربية عاصمة لإسرائيل إلى إعمال السيطرة على الجزء الشرقي وتهويده؛ وقد

تمكنت إسرائيل على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من تحويل ملكية أراضي القدس

الشرقية من 90% في أيدي الفلسطينيين إلى 13%فقط، وارتفعت نسبة اليهود في

المدينة إلى 72% مقابل 28% للفلسطينيين.

وقد أقامت الحكومة الإسرائيلية ثلاثة أطواق متتالية من المستوطنات لعزلها

عن بقية الضفة الغربية يضم الخارجي منها 3 مستوطنات كبرى، والأوسط

7مستوطنات موزعة على شمال المدينة وجنوبها وشرقها، ويشمل الطوق الداخلي

المجمعات الاستيطانية القابعة في قلب مناطق سكن الفلسطينيين.

وببناء مستوطنة جبل أبي غنيم تتم الحلقة الأخيرة لإتمام السيطرة على القدس

وهي تنفذ مشروع شارون القديم 26 بوابة حول القدس، وهذا يؤدي إلى الدمج التام

بين شطري القدس، وعزل الأحياء العربية، وإنجاز تطويق القدس بالحزام

الاستيطاني، واستكمال تهويدها.

* وما مستقبل المسجد الأقصى في ظل هذه الظروف؟

د: حامد: بالفعل يجري تنفيذ مخطط هدمه عبر أساليب مختلفة كان آخرها

إجراء حفريات بطول 400 متر بزعم البحث عن قواعد الهيكل، وإنشاء نفق

طولي تحته يصل إلى بيت لحم بحذاء السور الجنوبي بهدف تقويض دعائم المسجد

وأعمدته.

د: جمال: أحجار الهيكل جاهزة ومرقمة في أمريكا، وتنتظر النقل، والعدو

بين آونة وأخرى يقوم باختلاق بعض المصادمات مثل الإساءة التي وجهت للنبي -

صلى الله عليه وسلم- وغيرها بقصد قياس ردة الفعل العربية الإسلامية.

وكون ردود الأفعال العربية ضعيفة ولا تتناسب مع فداحة ما يحدث؛ لأنه

جرى ترويض الأمة وتكبيلها بالأغلال عبر حملات من الإجراءات في الفترة

الماضية، واقترن ذلك بعملية غسيل للمخ العربي في مناهج التعليم، وتزوير

أحداث التاريخ؛ لذلك كله لا أستبعد محاولة هدمه لا سمح الله.

فماذا لو وقف ألف مليون مسلم في الشوارع لمدة يوم كامل وفي وقت واحد

يحملون لافتات تفيد أن القدس إسلامية وقد دُوّن على هذه اللافتات التاريخ الحقيقي

للقدس وقرارات الأمم المتحدة؛ مما يثبت حق المسلمين، ويكذب ادعاءات اليهود؛

وذلك كخطاب أخير للنظام العالمي الجديد؟

* إذن هل حسمت مسألة القدس في حس الأنظمة العربية لصالح إسرائيل؟

د. جمال: نعم، أظن ذلك.. وأذكر أن بيجن عند توقيع اتفاقية السلام أرسل

خطاباً إلى كارتر ضمن ملحقات الاتفاقية بأن الكنيست قد اتخذ قراراً باعتبار القدس

عاصمة موحدة لدولة إسرائيل فحوّله كارتر بدوره إلى السادات للعلم، وضمنوه في

ملحقات الاتفاقية.

إذن منذ اللحظة الأولى لتوقيع اتفاقية (كامب ديفيد) ومسألة القدس خارجة عن

طاولة المفاوضات؛ إنما الذي حدث أنه لم يمكن إعلان هذا القرار في ذلك الحين؛

لعدم تهيئة الرأي العام العربي والعالمي لهذا الأمر؛ ومن جهة أخرى لم تكن

إسرائيل قد تحركت بقوة في سبيل تهويد القدس؛ وهي عملية خداع كبيرة؛ فربما

رضوا بالإعلان عن أن القدس موضع مفاوضات إلا أن بناء المستوطنات مستمر،

والهجرة مستمرة، والاستعداد العسكري مستمر، وبالتالي فإن قضية فلسطين

تقلصت؛ فأصبحت المشكلة تتعلق بمستوطنة أبي غنيم بل تعدتها.. فهل تنتهي

المشكلة لو أوقفوا إقامة هذه المستوطنة وحلوا الأزمة؟ ! وهل تُحرر الأرض ويعود

الحق إلى أصحابه، وتنتهي الهجمة الشرسة؟ ! لا، لا نظن ذلك! !

لكن الموضوع هو مزيد من الوقت لتهيئة الرأي العام لتقبّل كأس السم جرعة

جرعة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015