المسلمون والعالم
خمسون عاماً من الفشل..!
أجواء الحرب.. في أحلام السلام
(3من3)
بقلم: عبد العزيز كامل
مرّ الكاتب في مقالين سابقين على محطات الفشل العلماني في إدارة الصراع
العربي الإسرائيلي، فكان من محطات الحرب: نكبة 1948م، والعدوان الثلاثي
1956م، ونكبة 1967م، وحرب التحريك 1973م، ومن محطات الفشل في
السلام: مؤتمر جنيف 1974م، وكامب ديفيد 1978م، ومؤتمر فاس 1982،
ومشروع إعلان الدولة الفلسطينية، ومؤتمر مدريد 1991م، ويواصل الكاتب
الوقوف على محطات أخرى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
المحطة السادسة: محادثات المسارات المتعددة في واشنطن:
بعد الانتهاء من مؤتمر مدريد، اختيرت واشنطن لتكون مقراً لاجتماعات
مسارات التفاوض الثنائية، ودارت المحادثات على مسارات منفصلة كما هو متفق
عليه أو كما أرادت (إسرائيل) فقد كانت تخطط لإضاعة الوقت في هذه المفاوضات
لتشتيت جهود العرب والاستفراد بكل طرف على حدة، لكي تستثمر هذا الوقت
لصالحها بتنفيذ برامج ومخططات تحتاج إلى تغطية، وقد ظهرت هذه النية بعد ذلك
على لسان (شامير) الذي قال: (كنت أريد للمفاوضات في واشنطن أن تمتد عشر
سنوات، حتى تستكمل خطط الاستيطان، وحتى لا تبقى أرض فلسطينية يتم
التفاوض عليها ... ) ! ! نعم أليسوا يهوداً؟ .
لقد حرص هؤلاء الأعداء على إضاعة الوقت فعلاً، حتى إن بعض (القضايا)
التي جرت مناقشتها بين الوفد الإسرائيلي والأردني مثلاً، كان منها: التعاون من
أجل مقاومة توالد البعوض في وادي الأردن! وكان منها ضرورة التنسيق للتوصل
إلى حل في مشكلة الحمام البري الطائر الذي يطير من الأراضي الأردنية ليتغذى
على الغلال في الصوامع الإسرائيلية! !
أما القضايا الجادة على كل المسارات فكانت تؤجل باستمرار، وكانت وفود
اليهود تردد دائماًَ قناعتها بأن من أصول التفاوض الصحيح حل المشكلات الصغيرة
أولاً ثم التفرغ للمشكلات الكبيرة. ومع كل هذا الهوان، فقد كان المفاوض العربي
والفلسطيني يشعر في نفسه بذلك الهوان، بغض النظر عن القضايا التي تناقش،
يعبر عن ذلك (د. حيدر عبد الشافي) بقوله: (نحن وفد منقسم على نفسه، وفي
الحقيقة فنحن أربعة عشر عضواً فلسطينياً وكل عضو فينا وفد مستقل، وكل واحد
منا يمثل نفسه، وله اتصالاته وله ميادينه) ! ! وكان من الطبيعي مع كل هذا أن
تكون نتائج مسارات واشنطن.. الفشل! !
المحطة السابعة: اتفاقيات أوسلو:
بعد فشل محادثات المسارات المتعددة في واشنطن، اتجهت الأنظار إلى (أوسلو) عاصمة النرويج، وكان ذلك عقب ظهورعدد من المستجدات على الساحة العربية والدولية منها:
1- انتقال رئاسة الوزراء في (إسرائيل) إلى حزب العمل برئاسة (إسحاق
رابين) بعد سقوط (إسحاق شامير) زعيم حزب الليكود.
2- أن منظمة التحرير من خلال محادثات واشنطن ظهر أنها مستعدة نفسياً
وعملياً لإعطاء كل شيء مقابل الاعتراف بها، وأنها سوف ترحب بأي تعاون من
شأنه ألا ينقل الوصاية على القضية الفلسطينية من يد المنظمة إلى أيدي (حماس) .
3- حرص كل أجهزة المخابرات ومراكز الدراسات في إسرائيل وغيرها
على إظهار وإبراز أن هناك قوة إسلامية عارمة يمكن أن تكتسح أكثر من ساحة
عربية ومن ضمنها فلسطين في ظل التشرذم والفشل العربي، وأن تلك الموجه
الإسلامية يمكن لها أن تقفز إلى واجهة الأحداث ليرى اليهود أنفسهم وجهاً لوجه أمام
مبارز جديد لم يتعودوا على منازلته، وقد عبر عن هذا التخوف أحد الوزراء في
حكومة رابين عندما قال: (إن الحركة الإسلامية ستتصاعد، وستؤدي إلى تقوية
التيار الديني في (إسرائيل) نفسها، وأستطيع أن أقول: إن المتشددين الإسلاميين
والمتشددين اليهود سيلتقون في ساحة المواجهة هنا على أرض فلسطين، وعندها
سيخرج الأمر من أيدينا تماماً) !
وكان (رابين) يرى لأجل ذلك أنه لا مانع من الاعتراف بالمنظمة بعد اعترافها
بـ (إسرائيل) وبحقها في حياة آمنه ضمن حدود معترف بها، وكان في ذلك مخالفاً
لسلفه (شامير) وقد سوّغ وجهة نظره بقوله: (إن المنظمة إذا وضعت بصمتها على
ورقة الاستسلام، فلن يستطيع أحد أن يزايد على (أصحاب الشأن (! ...
وبدأ الفلسطينيون عبر قنوات اتصال سرية في التفاوض مع الإسرائيليين
لإبرام اتفاق (منفرد) ، وأثمرت هذه الاتصالات في الوصول إلى اتفاق مبدئي أطلق
عليه: (غزة وأريحا أولاً) وكان المفاوضون قد اتفقوا في أوسلو على ألا يكرروا
الخطأ الذي حدث في واشنطن من الوفد الفلسطيني وهو المطالبة بالبدء
بالموضوعات الصعبة الرئيسية مثل: حق تقرير المصير، والمستوطنات،
ومستقبل القدس. واختاروا أن يكون البدء بأمور عملية تقبل التنفيذ، ووقع الاختيارعلى (غزة وأريحا أولاً) بمعنى تمكين الفلسطينيين من حكم هاتين المنطقتين حكماً ذاتياً، وكانت هذه مبادرة إسرائيلية صرفة، صادفت هوىً لدى القيادة الفلسطينية،وقد تم التوصل إليها بينهما دون شراكة من أي طرف ثالث.
وقد أراد الإسرائيليون بهذه الاتفاقية أن يضربوا عدداً من العصافير بحجر
واحد في هذه المرحلة وذلك بما يلي:
1- التخلص من قطاع غزة المزدحم والمزعج، والمليء بأسباب التوتر
الأمني والعلل الاقتصادية والكثافة السكانية العربية.
2- إرضاء غرور القيادة الفلسطينية المتطلعة إلى زعامة وهمية على دولة
غير واقعية لن تفيد الشعب الفلسطيني، ولن تضر الشعب الإسرائيلي.
3- إيهام العالم بعدالة الصفقة اليهودية في آخر فصول القضية الفلسطينية.
4- عزل القوى العربية غير الراغبة في السلام إن وجدت بإعطاء البرهان
على أن أصحاب القضية قد ألقوا البندقية.
5- احتواء التيار الإسلامي المتصاعد في غزة على يد الشرطة الفلسطينية بعد أن عجزت الشرطة الإسرائيلية عن القضاء عليها.
وبعد خمس جولات من المباحثات في أوسلو، تم التوصل في (8/5/1993م)
إلى ما يسمى وقتها بـ (اتفاق إعلان المبادئ) المتعلق بمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً
في غزة وأريحا، وكان بيريز متحمساً للإسراع في إبرام ذلك الاتفاق الذي تفتقت
عنه قريحته، فقد كان يراه فرصة تاريخية لا تعوض في مثل ذلك الظرف الذي
كان يقتضي الاعتراف بالعدو الذي لم يعد عدواً (منظمة التحرير) ؛ لأن البديل هو
كابوس لا يمكن تصوره، ولذلك قال: (إن البديل الوحيد لمنظمة التحرير إذا
تجاوزناها هو (حماس) وحماس لن تعترف أبداً بإمكانية السلام معنا..) !
وما كان لاتفاق أوسلو أن يخرج إلى الوجود، إلا بعد أن تم تأجيل كل القضايا
الأساسية وهي: (القدس) (الحدود) (المستوطنات) . وبالرغم من أن الاتفاق أسوأ
مما كان ينتظره المتشائمون، حيث إنه لا يحقق الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية، إلا أن ياسر عرفات كان يحب أن يطلق عليه: (سلام الشجعان) .
وفي مقابل قبول الاتفاق على مضض من بعض العرب بسبب إجحافه
بالفلسطينيين في أرضهم، فإن الإسرائيليين عمهم الفرح به، حتى إن أحد الوزراء
الإسرائيليين وهو (يوسي ساريد) علق عليه قائلاً: (إن إسرائيل اليوم خلقت من
جديد، فمنذ إنشائها لم تكن الدولة شرعية في المنطقة التي قامت فيها، واليوم (13
سبتمبر 1993م) اكتسبت إسرائيل شرعية الاعتراف بها) هذا على مستوى العارفين
بالأمور من الإسرائيليين، أما قطاعات الشعب التي ساءها أن ترى (عرفات) داخل
أرض الميعاد مرة أخرى، فقد هالهم هذا التغيير، ولكن رابين طمأنهم وهدأ من
روعهم، وخاطبهم ولما يجف مداد الاتفاق قائلاً: (إنه لن يكون هناك انسحاب
إسرائيلي، ولكن: إعادة انتشار، و (السلطة) للفلسطينيين سوف تكون تحت
سيطرة (الدولة الإسرائيلية) وحتى الأرض، فليس هناك اتفاق بشأنها، ولكن بشأن
البشر الذين يسكنون عليها.
أما الأموال التي ستأتي لتلك السلطة الفلسطينية، فلن تصل إلى أيديها مباشرة
بل ستمر عبر قنوات دولية تضمن سلامة مصارفها) !
ثم بدأ تنفيذ بعض بنود الاتفاق، واستقدمت أعداد من المقاتلين الفلسطينيين
السابقين الذين كانو قد تفرقوا في عدد من البلدان العربية، لتتشكل منهم كتائب
شرطة لمكافحة الشغب أو بالأحرى: مكافحة الشعب، إذا أراد أن ينتفض مرة
أخرى، ومع كل هذا التنازل.. فإن الطرف اليهودي كان يتعامل مع الطرف
الفلسطيني بالازدراء كله، والمكر والخداع كله، وكعادة اليهود في التملص من
العهود، فإنهم لم يصبروا على (اتفاق أوسلو) رغم حيفه وجوره، وعادوا إلى
التمثيلية المكرورة وهي (تعدد فهم النص) تلك التمثيلية التي درجوا على اللجوء
إليها كلما أرادوا التحريف أو التزييف، فيقولون: النص هكذا، ولكننا نفهم منه كذا.. وأنتم تفهمون منه كذا، وبهذا في كل مرة يتخلصون من أي التزام، ويتبرؤون
من كل مسؤولية، لقد قال رابين قبل مصرعه: (إنني اكتشفت أن هناك قراءتين
لاتفاق أوسلو: قراءة فلسطينية وقراءة إسرائيلية، ونحن أمام تفسيرات مختلفة
لقضية كنت أظنها واضحة في الاتفاق، وقال: (إن فجوة الاتفاق بيننا وبين عرفات
واسعة) .
بمثل هذه التصريحات، وفي ظل تلك المواقف التي توجهها الرغبة في
التلاعب، تجري فصول العملية السلمية، فما كان يفهم (شامير) من قواعد اللعبة،
يمكن أن يختلف غداً عما فهمه (بيريز) ، وما كان مسلّماً به عند رابين، يمكن أن
ينقلب على أعقابه في مفهوم (نيتنياهو) ! وما تعاهدت عليه حكومة (الليكود) اليوم،
ليس ملزماً لحكومة العمل غداً. وهكذا تتوالى الفصول في عملية السلام المهزول
نقضاً للوعود، ونكثاً للعهود.
وبهذا تم التوسع في بناء المستوطنات، وبهذا تقرر الانتهاء من أمر (مصير
القدس) قبل أن يأتي موعد التفاوض بشأنها، وبهذا يجري الآن العمل لنقل السفارة
الأمريكية إليها، ليمثل هذا أرضية دولية للاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية
لإسرائيل.
والظاهر أن أوان الفصل الأخير من فصول عملية السلام قد آذن بالأفول،
حيث نعاه عرفات إلى العالم في تصريح له في زيارته الأخيرة إلى فرنسا (1يوليو
1997م) قال فيه: (إن نتنياهو قد اتخذ قراراً وسوف ينفذه، وهو إعادة احتلال
غزة وأريحا) ! فهل سيبدأ بغزة وأريحا.. أولاً؟
نقول للقيادات العربية التي وضعت نفسها في واجهة القضية الإسلامية: ليتكم
قرأتم أو فهمتم من كتاب الله وصفين وخصلتين من اليهود لم ولن يتخلوا عنهما: -
الأولى: أنهم لا عهد لهم مع أحد. قال الله تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ
فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] [البقرة: 100] .
والثانية: أنهم لا أمان لهم. قال تعالى: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً] [المائدة: 64] .
إذن، فقطار (السلام) ، لا يركبه اليهود إلا للوصول عبر محطاته إلى ميدان
الحرب؛ وهذا أمر واضح لمن راقب أحوال القوم في القديم والحديث. [وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِياً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ
عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا] [النساء: 45، 46] اللهم كف عنا بأسهم
في الحرب، ومكرهم في السلام.