دراسات دعوية
بقلم: عبد العزيز بن ناصر الجليل
إن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه، أما بعد:
فإن الناظر اليوم بعين البصر والبصيرة في واقع الأمة الإسلامية وما حل بها
من مصائب وويلات وفتن عظيمة على مستوى كثير من الأفراد والمجتمعات ليأخذ
به الأسى والتوجع مأخذاً بعيداً حتى إن اليأس ليوشك أن يحيط به لولا عظيم الأمل
في وعد الله عز وجل على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه:
(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر
الله وهم كذلك) [1] . ومما يُذهب اليأس ويعزي النفوس أيضاً معرفة المسلم بسنن
الله عز وجل، في عباده، وإدراك أن ما أصابنا من المصائب والفتن العظيمة إنما
هو من عند أنفسنا، وبسبب ذنوبنا، وبما طرأ على حياتنا من بُعد عن الله عز
وجل، ونسيان للآخرة، وانغماس في الملذات، وإقبال على الدنيا والجري وراءها
والانغماس في متاعها، مما انتشر بسببه كثير من المعاصي والفتن التي انجرف
فيها الكثير إلا من شاء الله.
وما دام أن الداء قد عرف والمرض قد شُخّص فلا يبقى أمام من ينشد النجاة
لنفسه ولأمته إلا مباشرة العلاج؛ وذلك بالفرار إلى الله عز وجل، والإنابة إليه،
والاعتصام به سبحانه كما أمر في كتابه العزيز بقوله: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم
مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] [الذاريات: 50] ، وهذا الفرار يعني ترك أسباب سخطه إلى
أسباب مرضاته، والفرار من عقوبته إلى معافاته، ومنه إليه سبحانه كما جاء ذلك
في دعاء سيد المرسلين والمتقين -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (اللهم إني
أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) [2] .
من أجل ذلك جاءت فكرة الاهتمام بهذه القضية المهمة من الوقفات التربوية
القرآنية، وعلى هدي من تلك الآية الكريمة. ودافعي لذلك أسباب لعل من أهمها:
1- انفتاح الدنيا الشديد، وتغلب الجانب المادي على حياة أكثر الناس وما
ترتب على ذلك من لهث وتكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام،
وطيب وخبيث؛ فحصل التنافس الشديد على حطامها، وصار الحب والبغض من
أجلها، بل والقتال عليها. نسأل الله السلامة.
وحصلت الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا، وتحولت
هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة ومملوكة إلى أن تكون مالكة مخدومة. لذا فمن
موجبات النصيحة التحذير من فتنة الدنيا وغرورها، والفرار منها إلى الله عز وجل
والدار الآخرة، وتنبيه الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد للرحيل إلى دار البقاء
والحياة السرمدية.
2- ظهور المنكرات في أغلب البلدان، وانتشار الفساد بشكل ينذر بالخطر
والعقوبة إن لم يتدارك الله عز وجل عباده ويرحمهم بالرجوع إليه وإحياء شعيرة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك ببعث الناصرين لدينه والصابرين على
ما أصابهم في ذلك ابتغاء رضوان الله عز وجل.
3- ظهور الفتن المتلاطمة في هذا الزمان والتي يرقق بعضها بعضاً، ورؤية
المتساقطين فيها ما بين هالك فيها بقلبه أو بلسانه أو بيده؛ حتى أصبح المسلم يخشى
على نفسه في أي لحظة أن يزل فيها ويسقط، وصار هجيراه قولَ: (ربّ سلّمْ سلّمْ)
و [لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ] [هود: 43] وغدت هذه الفتن من
الكثرة بحيث أصبح من يريد لنفسه النجاة لا يدري بأيها يبدأ بالمقاومة، أم مِن أيها
يفر إلى الله عز وجل: أمِن فتنة الدنيا وزينتها ومناصبها، أم من الفتنة بالعلم وآفاته
ومبطلاته، أم من فتنة البدع والمعاصي التي طمت وعمت، أم من الفتنة العمياء
التي تدور رحاها اليوم بين المسلمين حيث دب فينا داء الأمم من الفرقة والشحناء
والأهواء والحزبيات الكريهة، حتى صار كل حزب بما لديهم فرحين؟ وإن مما
يزيد هذه الفتنة عمًى وشدة أنها في صفوف الطائفة المنصورة: طائفة أهل السنة
والجماعة. وإن لم يتداركنا الله برحمته، ويسعى المخلصون من أهل السنة في
إخماد هذه الفتنة فإن أمام الأمة ليلَ فتنةٍ طويلاً ثقيلاً يفرح به أعداء الإسلام
ويستبشرون بذلك في مزيد من التسلط والاستعلاء. ولعل في طرح هذا الموضوع
إسهاماً متواضعاً في التماس أسباب النجاة من هذه الفتنة الصماء والداهية الدهماء،
وغيرها من الفتن.
4- الغربة الشديدة على الإسلام وأهله في أكثر بلدان المسلمين، حيث نُحّيَ
شرع الله، وتسلط الأعداء على أهل الغربة بالنكال والأذى؛ فقلّ النصير والمعين،
ونجم النفاق؛ حتى استوحش أهل الغربة من هذه الحال؛ فكان لا بد من التواصي
معهم على الحق والصبر، لعل الله عز وجل، أن يثبت القلوب، وينجي من الفتن، ويكشف الكربة، وينصر حزبه المؤمنين.
5- التأكيد على الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد -صلى الله
عليه وسلم- في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات، ولفت الأنظار إليهما بعد
أن ابتعد كثير من الناس عنهما، والتأكيد أنه ما من خير إلا دلاّ عليه، وما من شر
إلا حذّرا منه. قال تعالى: [مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ] [الأنعام: 38] ، كما
أن السنة النبوية ما تركت من فتنة ولا شر يأتي على هذه الأمة إلى قيام الساعة إلا
وألمحت إليه، وحذرت منه، وحددت سبيل النجاة منه؛ فلا عذر لنا في ترك ما
فيه حياتنا وسبيل نجاتنا: كتابِ الله عز وجل وسنةِ نبيه.
وشيء آخر يتعلق بهذا الأمر ألا وهو لفت الأنظار إلى ذلك الانقياد العظيم من
سلفنا الصالح لهدي الكتاب والسنة في الفرار من الشرور والفتن وضرورة الاطلاع
الدائم على تلك المواقف العملية الموفقة من سلفنا الصالح إزاء الفتن، والزوابع،
وضرورة الاقتداء بهم في تلك المواقف النبيلة المهتدية بالكتاب والسنة، وهذا ما
سيرد ذكره في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وقفة مع تفسير قوله تعالى: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ] :
قال الله عز وجل في سورة الذاريات: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ
مُّبِينٌ] [الذاريات: 50] يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: ... لما تقدم ما جرى من تكذيب الأمم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى ...
لنبيه: قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ]
أي فروا من معاصيه إلى طاعته.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى معلقاً على الآية نفسها:
(فلما دعا العباد إلى النظر إلى آياته الموجبة لخشيته، والإنابة إليه، أمر بما
هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه. أي: الفرار مما يكرهه الله، ظاهراً
وباطناً؛ إلى ما يحبه، ظاهراً وباطناً، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى
الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى الذكر. فمن استكمل هذه
الأمور؛ فقد استكمل الدين كله، وزال عنه المرهوب، وحصل له غاية المراد
والمطلوب) .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (منزلة الفرار) :
(قال الله تعالى: [فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ] فحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى
شيء. وهو نوعان:
فرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل. وفرار الأشقياء: الفرار منه لا
إليه) [3] .
وأغلب أقوال المفسرين لا تخرج عن تلك المعاني السابقة في تفسير الآية،
فكلها ترجع إلى معنى واحد في أن المقصود هو: الفرار من المعصية إلى الطاعة؛
أي: الفرار من أسباب غضب الله تعالى إلى أسباب رحمته. والمراد منه الفرار
من غضب الله عز وجل وما يترتب عليه من العقوبة، إلى رحمته وما يترتب عليها
من المعافاة.
ومن الآيات التي تدخل في معنى الفرار واللجوء إلى الله عز وجل:
- قوله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: -
[حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن
لاَّ مَلْجَأََ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ] [التوبة: 118] .
· وقوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: [وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ
إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] [الصافات: 99] .
· وقوله تعالى: [وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] [آل عمران: 133] .
فاللجوء إليه سبحانه والذهاب والهجرة إليه، والمسارعة إلى مغفرته وجناته:
كلها من معاني الفرار والهجرة إليه سبحانه؛ وذلك بتوحيده والسعي إلى مرضاته
وجنته هرباً من سخطه وعقوبته؛ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
(وله في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل
والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار
في كل نفس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث
تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته) [4] . 1هـ.
ومن الأحاديث الواردة: في معنى الفرار إلى الله عز وجل واللجوء إليه:
قوله: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك،
وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) [5] .
ومنها أيضاً: ما رواه الإمام البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه عن
أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله: (يوشك أن يكون
خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) [6] .
وسيأتي شرح الحديث عند الكلام عن العزلة وضوابطها إن شاء الله تعالى.
الفتن وأسباب السقوط فيها:
وقوع الفتن سنة ربانية لا تتبدل كما في قوله تعالى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن
يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ] [العنكبوت: 2] . وقد كتبها الله عز وجل
على عباده لحكم عظيمة: منها تميز المؤمنين من غيرهم، ومنها تكفير السيئات
ورفع الدرجات، ومنها غير ذلك مما لا نعلمه. فعن حذيفة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تُعرض الفتن على القلوب
كالحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها
نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة
ما دامت السموات والأرض، والآخر مرباداً، كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا
ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) [7] . والحديث عن الفتن وأسبابها يتطلب إفراد
كلمة (الفتن) بالتعريف والشرح، وتوضيح الفرق بين مدلولاتها.
(فالفتن) : وهي بكسر الفاء وفتح التاء، جمع فتنة، قال الأزهري: جماع
معنى الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان، وأصلها مأخوذ من قولك: (فتنت
الفضة والذهب) أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد، ومن هذا قول الله عز وجل: [يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ] [الذاريات: 13] .
أي يحرقون بالنار، وقال ابن الأنباري: فتنت فلانة فلاناً، قال بعضهم:
أمالته.. قال تعالى: [وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ] [الإسراء: 73] أي يميلونك ...
فتنت الرجل عن رأيه أي أزلته عما كان عليه.... والفتنة: الإثم في قوله تعالى:
[وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا] [التوبة: 49] وأما قول
النبي: (إني أرى الفتن خلال بيوتكم) [8] فإنه يكون القتل والحروب والاختلاف
الذي يكون بين فرق المسلمين إذا تحزبوا، ويكون ما يبلون به من زينة الدنيا
وشهوتها فيفتنون بذلك عن الآخرة والعمل لها. والفتنة الإضلال في قوله تعالى: -
[مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ..] [الصافات: 162] يقول ما أنتم بمضلين إلا من أضله
الله.. والفتنة العذاب نحو تعذيب الكفار ضعفة المؤمنين في أول الإسلام ليصدوهم
عن الإيمان، والفتنة الاختبار، والفتنة المحنة، والفتنة المال، والفتنة الأولاد،
والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة الإحراق، وقيل: الفتنة:
الغلو في التأويل المظلم. يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها.
وجماع الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان) [9] اهـ.
مما سبق بيانه يتحصل لدينا أن الفتنة تطلق ويراد منها معان كثيرة تدل على
كل معنى منها، ويعرف حسبما ورد بالسياق والقرائن، ومن هذه المعاني:
1- الابتلاء والامتحان. 2- الميل عن الحق. 3- الإثم.
4- القتل والحرب. 5- الاختلاف والفرقة. 6- الإضلال.
7- الكفر. 8- العذاب، وغير ذلك من المعاني المذمومة.
والآن وبعد أن تبين لنا معنى الفتنة وما يتفرع عنها من المعاني، وبعد أن
تبين لنا خطرها وذم الشرع لها، وجب الحذر منها والهرب والفرار والفزع إلى الله
عز وجل من شرورها. ومما يساعد على البعد عنها والنجاة منها إذا وقعت معرفة
أسبابها والطرق المؤدية لها؛ لأن معرفة أسباب السقوط فيها تعين على النجاة منها
بإذن الله عز وجل.
أسباب السقوط في الفتن:
الأسباب المؤدية إلى ملابسة الفتن والسقوط فيها كثيرة؛ لكنها لا تخرج في
مجموعها عن سببين هامين يرجع إليهما جميع الأسباب. وقد ذكر هذين السببين
الإمامان الجليلان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله تعالى، وعبرا عن ذلك
بأسلوبين مختلفين لفظاً لكنهما متفقان في المعنى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر
بالصبر. فالفتنة إما مِنْ تَرْك الحق، وإما من ترك الصبر) [10] .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (الفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهي
أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبدِ. وقد ينفردُ بإحداهما) .
وهما ما ذكره شيخ الإسلام نفسه من الأسباب. فالشبهة إنما تنشأ من ترك
الحق والجهل به، بينما تنشأ الشهوة من ترك الصبر أو ضعفه.
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك
فسادُ القصد، وحصول الهوى.
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فَهْمٍ فاسدٍ، وتارةً من نقلٍ كاذب، وتارةً من حق
ثابت خَفيَ على الرجل فلم يَظْفر به، وتارةً من غرض فاسد وهوى مُتبع، فهي من
عمى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة.
وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: [كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ
مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ] [التوبة: 69] .
أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها. والخلاق هو النصيب المقدر، ثم
قال: [وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا] [التوبة: 69] فهذا الخوض بالباطل، وهو
الشبهات.
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من
الاستمتاع بالخلاق، والخوضِ بالباطل؛ لأنّ فساد الدين إما أن يكون باعتقادِ الباطل
والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
فالأول: هو البدع وما والاها، وهو فساد من جهة الشبهات. والثاني: فسقُ
الأعمال، وهو فساد من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون: (احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه
هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه) وكانوا يقولون: (احذروا فتنة العالم الفاجر،
والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) [11] .
ويمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي:
1- ترك الحق وعدم السعي للعلم به أو عدم إصابته بسبب شبهة أو تأويل
فاسد؛ ومن هنا تنشأ الفتنة بسبب الجهل أو الفهم الفاسد.
وهذا ما عبر عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: (ترك الحق) ، وعبر
عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: (فتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة
العلم) .
2- ترك الصبر: وأصل الفتنة في هذا السبب هو عدم الصبر على الحق؛
فصاحب هذه الفتنة لا ينقصه العلم بالحق بل يعلمه ولا يجهله؛ ولكنه تركه ضعفاً
وشهوة، وهو يعلم من نفسه أنه تارك للحق.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى،،،