دراسات شرعية
الضحك من منظور شرعي
بقلم: عبد الله عثمان الماضي
تمهيد:
إن عالم الضحك عالمٌ كالبحر واسع الجنبات، يمتد من جانب حتى يصل
بالملحة والنادرة المحبّبة اللطيفة الظريفة إلى عالم الظرف والرّقة، ويمتد من جانب
آخر حتى يصل بالتهكم والهجاء والسخرية إلى عالم المأساة والترويع، ويشتمل فيما
بين ذلك على ألوان من الابتسام، وصنوف متفاوتة في درجات الخِفة والثقل،
ومقادير الحلاوة والمرارة، ومراتب الرفق والعنف، وعناصر الفكر والعاطفة
والنشاط، وأساليب التلميح والتصريح، وما إلى ذلك [1] .
تفسير الضحك:
لقد شغلت ظاهرة الضحك الناس جميعاً على حد سواء: المفكرين منهم أو
القادة أو السواد الأعظم من الناس القديم منهم والحديث، كلّ نظر إلى هذه الظاهرة
متعاملاً معها من خلال اهتمامه واختصاصه.
ورغم كثرة نظريات تفسير الضحك إلا أنها في الغالب لا تخرج عن المعالم
الآتية:
1- المفارقات والجمع بين المواقف المتناقضة.
2- وضع الشيء في غير موضعه.
3- التعبير عن السعادة.
4- المحاكاة والتجاوب مع ضحك شخص آخر (ابتسامة المجاملة) .
5- حدوث بعض الوقائع المفاجئة التي تتجاوز التصور المنطقي.
مراتب الضحك:
بتتبع هذه المراتب نجدها لا تخرج عن حالات ثلاث هي ما يلي:
أولاً: التبسم:
ويعتبر مبتدأ الضحك، وهو انفراج الفم بلا صوت؛ إذ يمثل أقل الضحك
وأحسنه؛ ويكون غالباً للسرور. قال تعالى: [فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا]
[النمل: 19] . قال الزجاج: التبسم أكثر ضحك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وكانت البسمة أقرب ما تكون إلى قلب الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-
وشفتيه، بل كانت من ضمن وصاياه للناس؛ حتى رفع قدرها إلى مستوى الصدقة
فقال: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) [2] .
وجعل -صلى الله عليه وسلم- لقاء الناس بوجه طليق أي بوجه باسم من قبيل
المعروف فقال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه
منبسط) [3] .
ينبغي أن تكون الابتسامة وسيلة لجمع القلوب على الحب وتجديد النفس
للإقبال على الحياة والتعبير عن حمد الله تعالى على نعمائه، وما أوثق علاقة التبسم
بالتسامح إزاء كل الناس وكل الطبقات لتكون السعادة حقاً للجميع.
والابتسامة: هي مفتاح مؤكد النتيجة لفتح حوار محبوب صامت مع الآخرين.
والوجه المبتسم: هو من نعم الله تعالى على الإنسان، وينظر إلى صاحبه
بشيء من الثقة التي لا توحي بها الملامح المتجهمة المنكرة تحت وطأة الآلام
والأحزان.
والمبتسم: يكون في حالة ارتياح نفسي، فهو أقدر على التفكير واختيار
الكلمات الملائمة التي يتعامل بها مع الناس واتخاذ قرار مّا في وقته المناسب.
ثانياً: الضحك:
وهو أعم من التبسم، فكل تبسم ضحك وليس كل ضحك تبسماً؛ ولذلك قال
ابن حجر رحمه الله: فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بُعد فهو القهقهة وإلا
فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم.
وتسمى الأسنان في مقدم الفم: الضواحك، وهي الثنايا والأنياب وما يليها،
وتسمى النواجذ وهي التي تظهر عند الضحك.
صفة الضحك: خلق الله سبحانه وتعالى الضدين: الضحك والبكاء في محل
واحد قال تعالى: [وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى] [النجم: 43] كما خلق الموت والحياة
والذكورة والأنوثة في مادة واحدة [4] ، وهذا دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى فهو
خالق لقوتَيِ الضحك والبكاء، كما أنه سبحانه خالق لفعلَيِ الضحك والبكاء [5] .
استعمالات الضحك:
1- يستعمل الضحك للتعجب المجرد؛ وهذا المعنى قَصْدُ من قال بأن الضحك
يختص بالإنسان دون سواه قال تعالى: [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ..] [هود:71] فضحكها كان للتعجب.
2- يستعمل الضحك في السرور المجرد كما في قوله تعالى: [وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ] [عبس: 38، 39] .
3- يستعمل الضحك عند التهكم. قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ
الَذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ] [المطففين: 29، 30] .
ومن أنواع ضحك التهكم:
أ) ضحكة الازدراء.
ب) ضحكة الهزء.
ج) ضحكة السخرية.
4- يستعمل أيضاً عند الغضب: وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد
غضبه. وسببه: تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب، وشعور نفسه بالقدرة
على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكه لملكِهِ نفسَه عند الغضب،
وإعراضه عمن أغضبه، وعدم اقتدائه به [6] .
5- يستعمل كذلك عند الملاطفة أو الترحيب.
6- ويستعمل عند الانتصار.
7- وكذا عند التسلية.
8- ويستعمل الضحك في الحالة الهستيرية والجنون.
الضحك المندوب: من الأمور المحمودة:
1- مضاحكة الزوجة وملاعبتها قال -صلى الله عليه وسلم-: (تزوجتَ ياجابر؟ فقلت: نعم! فقال: بكراً أم ثيّباً؟ قلت: بل ثيّباً، قال: فهلاّ جارية
تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك ... ) [7] .
2- لقاء الناس بوجه طلق لإدخال السرور عليهم كما في حديث جرير ابن
عبد الله، قال: ما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت إلا تبسم في
وجهي ... [8] .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ( ... تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) [9] .
من فوائد الضحك والتبسم:
1- كونه باباً من أبواب الخير والصدقة: عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
قال رسول الله: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) الحديث [10] .
2- كسب مودة الناس: كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لن تَسَعُوا الناس
بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه) [11] .
فينبغي لمن كان عبوساً منقبض الوجه أن يتبسم، ويحسّن خلقه، ويمقت نفسه
على رداءة خلقه، فكل انحراف عن الاعتدال مذموم، ولا بد للنفس من مجاهدة
وتأديب.
قال الجاحظ في مقدمة كتاب البخلاء، شارحاً بعض فضائل الضحك: (وكيف
لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء من
أصل الطباع ومن أساس التركيب؛ لأن الضحك أول خيرٍ يظهر من الصبي، وبه
تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه الذي هو علّة سروره ومادة قوته) .
ولفضل خصال الضحك عند العرب فإنها تسمّي أولادها ب: الضحاك وبسام.
ثالثاً: القهقهة:
القهقهة هي الضحك بصوت مرتفع بحيث يُسمع من بُعد.
قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مستجمعاً ضاحكاً قطّ حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم) [12] .
واللهوات جمع لهاة وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم يعني: ما
يكون ضاحكاً تاماً مقبلاً بكليته على الضحك، بحيث تبدو اللهاة التي في آخر
الفم [13] .
ولذلك كان هذا النوع من الضحك مخالفاً لهدي الرسول -صلى الله عليه
وسلم- حيث كان لا يكثر الضحك ولا يقهقهه، أي لا يرفع صوته به، بل كان
وقوراً متزناً هادئاً كما وصفه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (إن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان طويل الصمت قليل الضحك) [14] .
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث المتعلقة
بالتبسم والضحك: (والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه -صلى الله عليه وسلم-
كان لا يزيد في معظم أحواله عن التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك؛ والمكروه
في ذلك إنما هو الإكثار منه أو الإفراط؛ لأنه يُذهب الوقار.
آداب الضحك:
1- أن يكون الضحك تبسماً:
كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه السابق في وصف رسول الله ( ... وكان لا يضحك إلا تبسماً ... ) .
2- الإكثار من التبسم، والإقلال من الضحك:
كما في حديث عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه أنه قال: (ما
رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله) [15] .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (التبسم دعابة [16] وهو أبلغ في
الإيناس من الضحك) .
أما من روى عنه أنه لم يضحك ولم يبتسم مطلقاً، فهو خلاف الأفضل
فالأفضل الضحك اليسير والتبسم.
وأهل العلم في هذا على قسمين:
أ- يكون فضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة،
واستشعاراً لما بعد الموت.
ب- يكون مذموماً لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً [17] .
3- الإقلال من الضحك:
فإن كثرته تميت القلب، والإفراط فيه يُذهب الوقار والهيبة.
ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي: (أقِلّ الضحك؛
فإن كثرة الضحك تميت القلب) [18] .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن
أكثر من شيء عُرِفَ به [19] .
ولذلك حذر من كثرته العلماء، فقال الماوردي [20] : أما الضحك فإن اعتياده
شاغل عن النظر في الأمور المهمة، مُذْهِبٌ عن الفكر في النوائب الملمة، وليس
لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وُسِمَ به خطر ولا مقدار.
4- خفض الصوت في الضحك ما أمكن.
5- أن يضحك مما يُضحَك منه، وهو ما يُتعجب من مثله ويُستغرب وقوعه
ويندر.
فلا تروى الطرف المكذوبة التي لا أصل لها؛ بقصد الإضحاك فقط.
فلقد روي النهي الشديد عن ذلك في الحديث الذي رواه بهز بن حكيم عن أبيه
عن جده قال: قال رسول الله: (ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك به الناس، ويل
له، ويل له) [21] .
بعض المناسبات التي ابتسم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ضحك:
1- قصة نعيمان وسويبط رضي الله عنهما:
عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر في تجارة إلى
بصرى قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعام ومعه نُعيمان وسويبط بن
حرملة، وكانا شهدا بدراً، وكان نُعيمان على الزاد، وكان سويبط رجلاً مزاحاً،
فقال لنعيمان: أطعمني. قال: حتى يجيء أبو بكر. قال: فلأغيظنك. قال:
فمروا بقوم، فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم. قال: إنه عبد
له كلام، وهو قائل لكم: (إني حر) فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا
تفسدوا عليّ عبدي. قالوا: لا، بل نشتريه منك. فاشتروه منه بعشر قلائص [22] ، ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً! فقال نُعيمان: إن هذا يستهزئ بكم
وإني حر لست بعبد! ! ! فقالوا: قد أخبرنا خبرك. فانطلقوا به، فجاء أبو بكر.
فأخبروه بذلك، قال: فاتبع القوم ورد عليهم القلائص وأخذ نعيمان. قال: فلما
قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبروه، قال: فضحك النبي -صلى الله
عليه وسلم- وأصحابه منه حَوْلاً! [23] .
2- تبسمه -صلى الله عليه وسلم- على قول صهيب الرومي رضي الله عنه:
عن عبد الحميد بن صيفي عن أبيه عن جده صهيب، رضي الله عنه، قال:
قدمتُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين يديه خبز وتمر. فقال النبي: (ادنُ
فكل) فأخذت آكل من التمر، فقال النبي: (تأكل تمراً وبك رمد) [24] ؟ قال:
فقلت: إني أمضغ من ناحية أخرى! فتبسم رسول الله [25] .
قلت والله أعلم: يظهر من سياق الحديث أنه كان مرمداً في إحدى عينيه فلما
قال -صلى الله عليه وسلم- ذلك أجاب بأنه يمضغ من ناحية أخرى: أي إن كان
في العين اليمنى فهو يمضغ من ناحية اليسرى، وكذا بالعكس.
3- السباق على الرّجل:
عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، قالت: خرجت مع النبي في
بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: (تقدموا) ، فتقدموا
ثم قال لي: (تعالَيْ حتى أسابقك) . فسابقته فسبقته فسكت عني، حتى إذا حملتُ
اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: (تقدموا) فتقدموا ثم
قال: (تعالي حتى أسابقك) . فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: (هذه
بتلك) [26] .
فيه: حُسن معاشرته -صلى الله عليه وسلم- لأهله ومداعبته، ولم يتزوج
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكراً غير عائشة رضي الله عنها، وكانت جارية؛ ففي هذه السن تحب المرأة الضحك والمزاح واللعب كما صح عنه.
العلاج من كثرة الضحك:
تعالج كثرة الضحك بعدة أمور، منها:
1- الإكثار من ذكر الله تعالى.
2- تذكر عظمة الله تعالى.
3 - تذكر الموت واليوم الآخر.
4- مجاهدة النفس في كتم الضحك.
5- عدم الإكثار من مخالطة الشخصيات الهزلية.
6- محاولة اعتياد الجدية [27] .
وأخيراً:
فإن موضوع الضحك أوسع من أن تحيط به هذه العجالة، وما ذكرته إنما هو
إضاءات لبعض زواياه، وومضات في بعض جوانبه.