الورقة الأخيرة
بقلم: حسن أحمد قطامش
ذكر ابن كثير في تاريخه، أن السائب بن الأقرع قدم على عمر بن الخطاب
(رضي الله عنه) يبشره بنصر المسلمين في معركة (نهاوند) ، فسأله عمر عن قتلى
المسلمين، فعدّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال لعمر: وآخرون من
أفناد الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين.. فجعل عمر يبكي ويقول: (وما ضرهم ألا
يعرفهم أمير المؤمنين؟ ! لكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون
بمعرفة عمر؟ !) [1] .
قسم الله (تعالى) الناس إلى مؤمنين وكافرين، وغَلّب الكفار في العدد [وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] [يوسف: 103] ، ومن هذا القسم مَنْ هم أهل
رأي وفكر وسيادة، وهم فيهم قلة قليلة جدّاً، وعند المسلمين كذلك أهل حكمة وعلم
ورأي ووجاهة، وهم قلة كذلك، وهذا مُشَاهَدٌ معلوم، فترى أهل التراجم والسير
يختمون أحداث السنة بذكر من توفي فيها من (الأعيان) ! ! .
وجيوش المسلمين التي كانت تخرج للغزو والجهاد بألوف مؤلفة لا تذكر كتب
التاريخ لنا منهم إلا القادة والأمراء وأهل الرأي، فماذا عن بقية الجيش؟ ماذا إذن
عن بقية الناس الذين هم (أفناد الناس) الذين ليسوا بأهل حلٍّ ولا عقد ولا رأي ولا
إمارة؟ من هم خارج دائرة السلطة والذين يمكن تسميتهم بـ (الرأي العام) على حد
المصطلح الشائع.
خرجوا في سبيل الله، وكُتبوا في ديوان أهل الجنات شهداء [عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ] [آل عمران: 169] ، قاموا بأشرف الأعمال وأجلها ولم يُشَر إليهم ببيان
ولا بنان، وما دعوا إلى مؤتمر أو اجتماع محترم، بل كانوا ناساً وسط الناس
يعملون لله وحده وما ضر أحدهم أن يكون هكذا، ما اشترط يوماً لعمله أن يكون
رئيساً موجِّهاً ولا أميراً مطاعاً، بل كان همه: رضا الله، وأولئك النفر من الناس،
ومما قال فيهم سيد الناس (عليه الصلاة والسلام) : (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في
سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرّ قدماه، إن كان في السّاقة.. كان في الساقة، وإن
كان في الحراسة.. كان في الحراسة، إن استأذن ... لم يؤذن له! ! ، وإن شفع..
لم يُشفّع! !) [2] .
إذن ما الذي يُضير أولئك إن لم يعرفهم أمير المؤمنين؟ من الممكن أن
يضيرهم إن كان عملهم لذات أمير المؤمنين، ولكن يكفيهم أن الله يعرفهم ويعرف
سرائرهم.
ما الذي يضيرنا إن عبدْنا الله وحده، ولم نعبُد ذواتنا حين نَشْرُطُ للعمل لله أن
نكون في موقع القيادة والإمارة ظناً أننا أصحاب قدرات ومواهب خاصة، ولا
يمكننا العمل وسط (العامة) ! ! .
إن وقفة مهمة نحتاج إليها لإعادة النظر في ذواتنا، وإلى النظر إلى (أفناد
الناس) بمنظار الوعي، فهم بحاجة إلى (أعيان الناس) ليعُبِّدوهم لله وحده، ولا
يضيرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين.