من قضايا المنهج
(1من2)
بقلم: د.محمد أمحزون
لقد وجه القرآن الكريم المسلمين نحو الوعي بعالم الشهادة، فحثهم على النظر
والتدبر والاستقراء؛ للكشف على قوانين المادة وسنن الاجتماع، كما نبّه إلى أهمية
التعرف على السنن التاريخية، والإفادة من ذلك في الاعتبار وبناء الحضارة وكيفية
المحافظة عليها من السقوط.
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه السنن، فذكرها نصّاً في بعض الأحيان [1] ، ولم يذكرها أحياناً أخرى نصّاً، وإنما فهمت من النص دلالة وفحوى [2] ، ...
وذكرها تارة مضافة إلى الله (تباركت وتقدست أسماؤه) [3] ، وذكرها تارة أخرى
مضافة إلى أقوام [4] .
وللإشارة، فإن هذه السنن تعمل مجتمعة ومتسلسلة، فيكون في حصيلتها في
الحياة البشرية ما هو كائن بقدر الله (عز وجل) .
وقد نبه الله (جل ثناؤه) المسلمين إلى أن هذه السنن صارمة؛ تتسم بالاطراد
والشمول والثبات، كما في قوله (تعالى) : [فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتََ الأَوَّلِينَ فَلَن
تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] [فاطر: 43] ، وقوله (تعالى) :
[سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً] [الإسراء: 77] .
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله (تعالى) :
[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ...
[النساء: 26] .
ومن خلال السنن في كتاب الله (تعالى) وسنة رسوله نفهم التاريخ على حقيقته، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف
والانحطاط والتخلف.
على أن هذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان
والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذا أتى الأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود
الله، أصاب خير السنة الربانية، وإذا أهمل الأمر وخالفه وارتكب المنهي عنه
ووقع في حدود الله، أصاب شر السنة الربانية [5] .
وقد انتبه إلى أثر السنن في المجتمعات والاعتبار بها (ابن تيمية) (رحمه الله)
فقال: (ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد
فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم
نظيره كالأمثال المضروبة في القرآن) [6] .
إن معرفة أثر السنن في الأنفس والمجتمعات ضروري لمعرفة طبيعة هذا
الدين وطبيعة الجاهلية المقابلة.
... وقد جاء الحديث عنها في القرآن المكي، في مواضع كثيرة، وجاء
تصويرها في مواقف كثيرة؛ ليفهم المسلمون طبيعة الصراع بين الجاهلية والإسلام
على حقيقته، وليكونوا على بيّنة من مباينة السبل واختلاف المناهج والتوجهات
والأهداف بينهم وبين الكافرين.
ومن أمثال ذلك: قوله (تعالى) : [وَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ
أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ] [ابراهيم: 13، 14] .
وقوله (تعالى) : [قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ
افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ
فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ] [الأعراف: 88-89] .
ومن هنا تأتي أهمية ربط عمل الدعاة بالجهد والعمل وفق السنن التي لا
تحابي فرداً على حساب فرد آخر، أو مجتمعاً على حساب مجتمع آخر، فالنتائج
التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيماناً وأشدهم ورعاً وتقوى
سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً وأشدهم فسقاً وفجوراً، إذا وافق المقدمات
الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المؤمن ارتكازاً
على إيمانه وحده واعتماداً على ورعه وتقواه، دون أن يطلبها من مقدماتها التي
خلقها الله (عز وجل) طريقاً إليها، فأنى يستجاب له! [7] .
ومرجع ذلك إلى أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، منتظمة
أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تجامل ولا تحابي، ولا تتأثر بالأماني وإنما
بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء [8] .
سنن: الابتلاء، التمحيص، التمكين:
ومن أهم هذه السنن التي نبّه إليها القرآن الكريم: سنة الابتلاء، فهي تضع
المؤمن على محك الاختبار، لقوله (تعالى) : [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (?) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الكَاذِبِينَ] [العنكبوت: 2، 3] ، وقوله (جل ثناؤه) : [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ] [الأنبياء: 35] ، وقوله (عز من قائل) : [إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ] [المؤمنون: 30] .
ومن ثبات تلك السنة أنها قد بسطت في وحي الله وعلمها أناس قبل أن تقرأ
في القرآن الكريم، فهذا (ورقة بن نوفل) الذي كان لديه علم بما عند أهل الكتاب
يقول للنبي بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: (يا ليتني فيها جذعاً، ليتني
أكون حيّاً إذ يخرجك قومك) ، فيسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعجب:
(أَوَمخرجي هم؟ !) ، قال: (نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)
(الحديث) [9] .
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: (سألتك كيف كان قتالكم
إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل: تبتلى، ثم تكون لهم
العاقبة) [10] .
وجاء في الحديث الصحيح: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك
كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: ربي، إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استَخْرِجْهم كما استخرجوك،
واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن
أطاعك من عصاك) [11] .
في هذا الحديث دلالة اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة
التكليف وبدء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية، ومنها سنة
اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض، مع سنة العهد الرباني بنصر
دينه وأوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في
نهاية المطاف [12] .
ولعلم الله (عز وجل) أن الابتلاء هو الوسيلة لتمييز الصفوف وتمحيص
القلوب، جعله سنة ماضية، فحملُ الأمانة لا يصلح له كل الناس، بل يحتاج إلى
قوم مختارين، وهم الصفوة الذين يعدّون لهذا الأمر إعداداً خاصّاً ليحسنوا القيام به.
ويضرب (محمد قطب) مثلاً لذلك قائلاً: (أرأيت لو أنّ قائداً أراد إعداد جنوده
للفوز في معركة صعبة ضارية، أيكون من الرحمة بهم أن يخفف لهم التدريب
ويهوِّن لهم الإعداد، أم تكون الرحمة الحقيقية بهم أن يشدد عليهم في التدريب،
على قدر ما تقتضيه المعركة الضارية التي يعدِّهم من أجلها؟ والمؤمنون هم حزب
الله وجنوده ولله المثل الأعلى والمعركة التي يعدهم من أجلها هي المعركة العظمى:
(معركة الحق والباطل، التي ينصر فيها الله الحق على يد أولئك الجنود حسبما
اقتضت مشيئته وجرت سنته) [13] .
ومن النتائج المترتبة على سنة الابتلاء لاحقاً: سنة التمحيص، فالمؤمن من
جهة يتعرض للمحنة، فيُصقل معدنه من أثرها، وينضج بها كما ينضج الطعام
بالنار، والمنافق من جهة ثانية لا يستطيع الصمود أمام الفتنة فتخور قواه وتنحل
عراه وينكص على عقبيه؛ ولهذا جعل الله (تعالى) التمحيص مَعْبراً لتنقية الصف
المؤمن من أدعياء الإيمان، فيقع به التمييز بين الدر الثمين والخرز الخسيس، كما
في قوله (تعالى) : [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ] [آل عمران: 179] ، وقوله (تعالى) : [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] [آل عمران: 154] .
وعلى ضوء سنة التمحيص تتحقق سنة أخرى، وهي سنة التمكين، إذ يمكّن
الله (عز وجل) للمؤمنين في الأرض بعد أن يثبتوا جدارتهم واستحقاقهم للنصر
بلجوئهم إليه وحده في وقت المحنة، وتجردهم له، وتطلعهم إليه في زمن الشدة،
مستيقنين من نزول نصره بعد الأخذ بكافة الأسباب المأمور بها شرعاً من صبر
وتقوى وإعداد.
وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة؛ فعندما سئل الإمام الشافعي
(رحمه الله) : (أيما أفضل للرجل: أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى) [14] .
ومحصّلة هذه السنن: أن بعضها يمسك برقاب بعض كحلقات السلسلة يشد
بعضها بعضاً، فلا تمكين بلا تمحيص، ولا تمحيص بلا ابتلاء؛ إذ متى تحققت
أوائلها تحققت أواخراها، إنها سنن ساطعة وحقائق ثابتة.
وجدير بالإشارة أن الحكمة من صرامة وثبات السنن الربانية هو أن تنضبط
الموازين وتستقر معايير الحكم على الأشياء والمواقف والأحداث والرجال؛ لكن من
ناحية أخرى: لا ينبغي أن يغتر المؤمن بهذا الاطراد والاستمرار؛ لأنه قد يورث
الغفلة، قال (تعالى) : [لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ] [آل عمران: 196-197] .
فحين يشاهد المؤمن الكفار وهم يسعون في الأرض ويمكّنون اقتصاديّاً
وسياسيّاً وعسكريّاً، وتفيض عليهم كنوز الأرض وخيراتها، فليعلم أن ذلك ليس
(تمكين الرضا) ، بل يندرج ضمن (تمكين الاستدراج) أو سنة الإملاء؛ فمن سنن
الله الجارية أن يملي للكفار قبل أن يهلكهم: [وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإلَيَّ المَصِيرُ] [الحج: 48] .
كما ينبغي ألا يغتر المؤمن بديمومة وامتداد النعم، فدوامها ينسي عادة أنها قد
تزول في الدنيا بسبب من الأسباب، أو تضمحل وتذهب بموت الإنسان، ولذلك
نبّه القرآن الكريم إلى الاعتبار بفنائها وزوالها: [أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ]
[الشعراء: 205: 207] .
وللحديث بقية،