تأملات دعوية
الدعاة والبعد الزمني الغائب
بقلم: عبد الله المسلم
حين خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف ليبحث عن مجال أنسب
وأخصب للدعوة، وفعل معه أهل الطائف ما فعلوا، وصف هذه الحال بقوله:
(فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي
فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع
قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم،
فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت
أن أُطْبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن
يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) [1] .
لقد قال هذه المقالة عقب هذا الحدث وآثاره لمّا تزل بعدُ ماثلة، ولم يقلها وهو
في جلسة تفكير هادئة.
والأمر نفسه نجده في سيرة نوح (عليه السلام) حين لبث يدعو قومه ألف سنة
إلا خمسين عاماً، وحين دعا ربه على قومه قال: [وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً]
[نوح: 27] ، إذ كان (عليه السلام) يؤمل بذريتهم وأولادهم، فلما يئس من هذه
الذرية دعا ربه عليهم.
إن هذين الموقفين ليعطيان المسلم دلالة على البعد الزمني في تفكير الأنبياء
(عليهم السلام) وتخطيطهم للدعوة، وهو بُعْدٌ تعاني الأمة اليوم من فقده كثيراً، إنه
مرض ورثه بعض الدعاة والخيِّرين من عقلية المجتمعات الإسلامية التي لا تفكر إلا
فيما تزرعه اليوم وتحصده في الغد وتأكله في اليوم الثالث.
ولقد كان من نتائج غياب البعد الزمني في تفكير الدعاة:
1- الابتعاد عن الأعمال المنتجة العميقة الأثر التي تحتاج إلى وقت وجهد
للقيام بها، ولا تظهر آثارها في الزمن القريب، والعنايةُ أكثر بالأعمال سريعة
الأثر وقريبة النتائج، وهي مهما علا شأنها لا يسوِّغ أن تكون بحال هي الميدان
الوحيد الذي يفكر فيه الدعاة.
2- غياب الرؤية البعيدة والنظر الاستراتيجي العميق للواقع، وعدم دراسة
المتغيرات التي تحكمه واتجاهاتها، مما يوقع المجتمعات الإسلامية أمام المفاجآت،
ويحرمها من التوقع المسبق للمشكلات، ومن ثم الإعداد لها ومواجهتها، وذلك
واجب ينبغي أن يقوم بأعبائه الدعاة إلى الله (عز وجل) .
3- التسرع في التقويم، والحكم على كثير من الجهود الدعوية التي ربما
لاتظهر آثارها في الزمن القريب المنظور، وترتب على ذلك اعتبار الابتلاءات
التي تصيب الدعوة دلائل فشل وإخفاق، وافتراض ثبات الأوضاع القائمة بكل
متغيراتها وظروفها.
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في طريقة تفكيرنا، وإعطاء الأمور ما
تستحقه من الوقت مما يؤمل معه أن تنتقل الدعوة إلى مواقع ومساحات كانت قد
حرمت منها، وأن تتسع النظرة ويبعد الأفق.
إننا حين نتأمل شاباً مستجمع القوى والنشاط، يملك قدرات وخبرات،
وحيوية وفتوة، ندرك أن عقدين من الزمان كانت على الأقل هي فترة بنائه توافر
عليها عوامل ومؤثرات عدة لا يمكن أن ينفرد عامل منها في مسؤولية عن جانب
واحد من جوانب شخصيته، فهل نحن نفكر اليوم ولو على الأقل على مدى عقدين
من الزمان؟ فليت الذين عمرهم في الصحوة ربما يقصر عن هذه الفترة يدركون أن
عمر الأجيال والمجتمعات لا يقارن بعمر الأفراد، فكيف، والأمر كذلك، نطالب
المجتمعات بنضج في وقت ربما لا ينتظر فيه نضج فرد من الأفراد؟
وواقع المجتمعات الإسلامية اليوم لم يكن نتاج قفزة هائلة إنما هو نتاج عوامل
عدة أثرت وساهمت مجتمعة في صياغته، يضاف إلى ذلك عشرات من السنين،
فكيف يراد إصلاح هذا الواقع في سنيات عدة؟