دراسات دعوية
النقد الذاتي خطوة على الطريق
بقلم: يوسف عمر قوش
النقد الذاتي هو إحدى العمليات الأكثر ضرورة وإلحاحاً في حياة الفرد
والجماعة ويقصد به: المراجعة الدائمة، والتقييم المستمر الذي يجب أن يقوم به
الفرد أو الجماعة دون توقف ضمن مجموعة من الضوابط السليمة التي تكفل لهذه
العملية أن تنمو وتتطور وتتواصل بشكل كامل وموضوعية تامة.
ولذا فإننا لا نعجب حين نجد القرآن يُقسِم بتلك النفس التي تعيش دوماً عملية
اللوم والمعايبة، والمراجعة لذاتها، أو بالأحرى لصاحبها؛ تحاسبه، وتدفعه إلى
تصحيح أخطائه، والندم عليها، والعزم على تلافيها في المستقبل أملاً في النجاة
يوم الحساب الأعظم.. يوم القيامة: [لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 1، 2] .
إن المعطيات والمقدمات الصحيحة توصل إلى النتائج الصحيحة، ذلك قانون
من قوانين هذا الكون، وسنّة من سنن الحياة، وإن على من يُخفق أو يصل إلى
نتائج خاطئة تخالف الأهداف التي وضعها نصب عينيه، عليه أن يبحث جيداً
وبعمق وصدق في أسباب إخفاقه وهزيمته، لكن مثل هذا كان عليه ألا ينتظر
الإخفاق، بل كان من الواجب عليه أن يتابع باستمرار، ويتفحص أولاً بأوّل مدى
صلاحية المواد المتفاعلة (المدخلات) وشروط التفاعل (الوسائل والإمكانيات
وظروف الواقع) ، وذلك كي لا يتوقف هذا التفاعل فجأة أو ينحرف عن مساره
فيؤدي ذلك إلى كارثة قد لا يدركها إلا بعد فوات الأوان.
إننا أمام سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تنحرف، بل تسير بشكل ثابت
وفي مسارٍ ثابت، [فَلَن تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
[فاطر: 43] ، وإن هذه السنّة، بل وجميع السنن الكونية لم تخلق للمسلم فحسب لكنها خلقت للإنسان الذي يعيش في هذا الكون، فالأقدر على فهمها ووعيها واستيعابها هو دون شك الأقدر على تسخيرها لنفسه والاستفادة منها لصالحه؛ فسنن الله ليس
حكراً على فرد دون غيره أو جماعة دون أخرى، وفي حين أنها تصطدم بمن يسير
في عكس اتجاهها أو يناقضها فإنها أداة طيّعة في يد من يعيها ويستوعبها ويسير
وفقها.
ضرورة النقد الذاتي:
وعملية النقد الذاتي مهمة وضرورية في التغيير والبناء سواء على صعيد
الفرد أو الجماعة؛ لأن عملية التغيير التي تتم دائماً وعلى مراحل تتطلب بعد كل
مرحلة وقفة مراجعة وتأمّل وتقييم يتمّ من خلالها اكتشاف الخلل وتشخيصه، ووضع
العلاج المناسب له بغية تعديل الانحراف وتقويم الاعوجاج.
إن السير وفق السنن الكونية يقتضي إرساء منهج للنقد الذاتي يهدف إلى منع
حالة الفوضى والترهّل التي قد تصيب الفرد أو الجماعة في حال غياب هذه العملية
الحيوية.
إنني على قناعة تامة أننا نعيش ومنذ وقت ليس بالقليل أزمة النقد الذاتي،
وأزمة استخلاص العبر. إننا نعيش إشكالية التناقض مع نظرياتنا وقناعاتنا ومبادئنا
وأفكارنا رغم أننا نمتلك أو ندّعي امتلاك المنهج الذي يدعونا دائماً إلى التفكّر
والتأمل، والقراءة والنظر، واكتساب الخبرة واستخلاص العبر، والاستفادة من
قصص التاريخ وأحداثه وأمثاله!
إن الكثير من التساؤلات التي تبدو معقدة وصعبة تجد جواباً لها إذا وعينا
حركة التاريخ، ونواميس الكون، وسنن الحضارات.
وعملية النقد الذاتي لكي تأخذ شكلها المتكامل لا بد أن تشمل باستمرار مراجعة
النظرية (الاستراتيجية) التي ننطلق أو انطلقنا منها، وكذلك مراجعة أسلوب العمل
(التكتيك) أو وسائل العمل وأدواته، وذلك رغبة في الوصول إلى الصواب وتلافي
الأخطاء.
خصائص النقد الذاتي:
لعملية النقد الذاتي سمات مهمة يجب أن تتوفر فيها كي تحقق هذه العملية
أهدافها وتخرج في صورتها الرائعة، هذه الصفات هي:
1- الشمولية. 2- الاستمرارية. 3- الموضوعية.
1- الشمولية: وهذا يعني: أن النقد الذاتي يجب أن يكون شاملاً بحيث
يتعرض لكل عناصر الصحوة وقياداتها دون استثناء، ولتاريخها بأكمله، وواقعها
وحاضرها، ومنهجها وأهدافها، وأساليبها ووسائلها، واستراتيجياتها وتكتيكاتها،
ورؤيتها المستقبلية، كل ذلك وغيره يجب أن يخضع لعملية النقد التي يجب أن لا
يُعفى منها أحد أو شيء؛ فيصبح فوق النقد أو خارج الدائرة.
2- الاستمرارية: إن النقد الذاتي عملية دائمة ومستمرة ومتواصلة ويجب أن
تكون كذلك، ويجب الحفاظ على ذلك بأيّ ثمن، أي يجب عدم إيقافها في أيّ زمان
ومكان ولأي سبب كان، سواء على صعيد الفرد أو الجماعة؛ وذلك لضرورتها
وأهميتها وحيويتها فهي كالماء والهواء والغذاء للإنسان والجماعة، وإذا تمّ الاستغناء
عنها أو تعطيلها فإن الجسد يصاب بالمرض والموت والتعفن والتحلل.
إن عملية النقد الذاتي يجب أن لا تكون خاضعة في توقيتها للأهواء والأمزجة
بحيث يتم الاستنفار لها في المناسبات المختلفة وللمناسبات المختلفة، بل يجب أن
تلازمنا حتى نشعر بأنها جزء منّا لا نستطيع التخلي عنه في أي وقت من الأوقات.
3- الموضوعية: وهي تعني التزام جانب العدل في الحكم، والنزاهة في
الموقف، وعدم التحيّز أو التعصب بدون حق.
والموضوعية أهم صفات النقد الذاتي؛ لأن النقد إذا خرج على الموضوعية
كان نقداً ظالماً وسلبياً وغير بنّاء؛ ومن هنا فإننا أمام نوعين من النقد:
1- نقد موضوعي غير متحيز ولا متعصب يهدف إلى البناء، والتغيير
والتقدم نحو الأفضل.
2- نقد غير موضوعي وهو متحيز ومتعصب لا يعمل على البناء، بل على
الهدم والتراجع إلى الأسوأ؛ لأن الإصرار على الخطأ خطيئة.
صفات الناقد:
وحتى يكتمل حديثنا عن النقد الذاتي لا بد من التطرق إلى الصفات التي يجب
أن يتحلّى بها الناقد، ومن هذه الصفات ما يلي:
1- الوعي: والمقصود بالوعي هنا أن على الناقد أن يكون عالماً بطبيعة
الظاهرة التي يريد نقدها، ويفضّل أن يكون خبيراً بها [فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً]
[الفرقان: 59] ، [وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] (فاطر: 14) .
ولا يمكن أن يكون واعياً وخبيراً بها إذا لم يدرس تاريخ الظاهرة فيربط
ماضيها بحاضرها مما يمكّنه من تصوّر الظاهرة في شكلها الكلّي المتكامل والمتداخل
والمتشابك، ويمكّنه بالتالي من تشخيص الخلل الذي يريد انتقاده ويحاول علاجه.
إن رؤية الأحداث كلاّ على حدة، والنظر إلى الأمور منفصلة عن بعضها،
والتفكير في الأشياء منفردة، أو باختصار: ما يطلق عليه المفكر الجزائري (مالك
ابن نبي) مصطلح: (الذريّة في التفكير) يقود بلا شك إلى ضياع الوقت، ويؤدي
إلى عملية نقد غير مجدية يدور فيها صاحبها حول نفسه، ويراوح مكانه دون أن
ينطلق بنفسه أو بجماعته خطوة واحدة.
2- الإخلاص: إن الدافع لذكر الإخلاص هنا هو أن الوعي أو العلم أو
الخبرة قد لا يجدي نفعاً إذا صاحبته الأهواء والمطامع والشهوات؛ فالأهواء
والمصالح الخاصة تدفع بالأفراد أحياناً إلى نقدٍ غير نزيه وغير عادل، أما إذا كان
الإخلاص هو الدافع وأعني بالإخلاص: الحرص على المصلحة العامة والتفاني في
سبيلها فإن النقد هنا وبدون شك لن يهدف إلى إرضاء جهة معينة أو مجاملتها، كما
أنه لن ينبع من كراهية جهة أخرى أو الحقد عليها.
وكما أن النقد إذا لم يرافقه الوعي والعلم قد يتحول إلى ضربٍ من اللغو
والهراء والمراء، فإنه إذا لم يرافقه الإخلاص والتجرد عن الهوى قد يتحول إلى
شيء من الطعن والتجريح والتشويه والتشهير.
3- الالتزام: فعلى الناقد أن لا يمارس عملاً ينقده لفظاً، وإلا ذهب نقده
أدراج الرياح، لذا يجب عليه أن يعمل بما يقول فقد [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا
مَا لا تَفْعَلُونَ] [الصف: 3] ، فمن انتقد عملاً مّا، وجب عليه اعتزاله.
مجالات النقد الذاتي:
تتم عملية النقد الذاتي على صعيدين: صعيد الفرد وصعيد المجموعة، فالفرد
قد يوجّه النقد لنفسه على أخطاء ارتكبها، والمجموعة أيضاً قد تتناول في داخلها
نقداً لعناصر ثلاثة هي:
1- المنهج. 2- القيادة. 3 الأفراد.
فأيّ مرضٍ أو خلل أو انحراف ينشأ في مجموعة ما، فإنما يكون ناتجاً عن
خللٍ في أحد العناصر الثلاثة المذكورة: (المنهج، القيادة، الأفراد) .
والنقد يجب أن يوجه أولاً إلى منهج المجموعة؛ لأنه هو الذي يصنع القيادات
والأفراد، فإذا كان المنهج سليماً وخالياً من النقائص والثغرات والتناقضات، فإن
النقد يجب أن يتجه إلى القيادة نفسها من حيث كفاءتها وقدراتها والتزامها وإخلاصها، فإذا كانت القيادة خالية من العيوب، بعيدة عن الانحراف فإن النقد سيوجّه إلى
أفراد الجماعة على اعتبار أن الخلل كامنٌ فيهم أو كائنٌ بينهم.
من هنا أقول: إن النقد الذاتي يجب أن يطال منهج الصحوة الإسلامية
ودعاتها وأبناءها بحيث لا يبقى أحدٌ فوق النقد، أما أن يبقى المنهج والقيادة خارج
دائرة النقد خوفاً من خدش قدسيتهما، فإن ذلك يحوّل هذه العملية الرائعة البنّاءة إلى
عملية ترقيعية تؤدي مع مرور الوقت إلى تفاقم المرض وانفجار الموقف.
النقد الذاتي والجماعات الإسلامية:
إن النقد الذاتي لا يعفى منه الإنسان المسلم كما لا يعفى منه كُثُرٌ من المنتسبين
للدعوة، فالنقد الذاتي ليس منحة تمنحها أي جماعة لأبنائها وتمنّ عليهم بها، إنه
حقّ منحنا الله إياه، أو بالأحرى هو واجب كلّفنا الله (سبحانه وتعالى) به، وأمرنا
أن نقوم به، وهو عبادة نتقرب بها إلى الله، وإذا فرّطنا في هذه العبادة فسوف
نُحاسَب من قِبَلِ الله (تعالى) عليها.
يجب أن ننقد منهجنا وقيادتنا وأنفسنا، وربما يسأل سائل هنا: كيف ينقد أبناء
الحركة الإسلامية منهجَها، ومنهجُها هو الإسلام؟ ! وكيف ينتقدون قادتهم، وهم
يمثلون الإسلام؟ ! ! .
وللإجابة على هذه التساؤلات وغيرها أقول: إنه جائز للمنضوين في سلك
الدعوة، بل واجب عليهم أن يوجهوا نقدهم لمنهجهم ولقادتهم ولا يخافوا في ذلك
لومة لائم، وعليهم أن يدركوا أن منهج الله شيء ومنهج غيره شيء آخر؛ فمنهج
الله هو الإسلام كما أنزل على محمد، ومنهج الجماعة أياً كانت هو المنهج الذي
وضعه مؤسسوها وقادتها؛ إذ أخذوا من الإسلام ما أخذوا ووضعوا من اجتهاداتهم ما
وضعوا، واجتهاد البشر قد يخطئ وقد يصيب.
لذا فإنني أؤكد هنا أن لا قدسية لمنهج غير منهج الله، ولا عصمة لأحدٍ بعد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأخيراً: فإن النقد الذاتي عملية مهمة وضرورية ولازمة لكل زمان، وهي
عملية لها خصائصها التي يجب ألا تفارقها، كما أن للناقد أيضاً صفاته التي يجب
أن تلازمه، وللنقد الذاتي أيضاً مجالاته التي يتمّ فيها.
وأعود مؤكداً: أن على كل فرد أن يمارس النقد الذاتي داخل نفسه، وداخل
أسرته وبيته، وداخل جماعته ومجتمعه، ويعمل على التشجيع عليه باستمرار،
وإن من يدّعي أن النقد يثير الفتن ويمزّق الصفوف لا بد له أن يعلم جيداً أن
الصمت والسكوت أشد خطراً وهو الذي يمزّق ويهدم، أما النقد الذاتي الموضوعي
والمنصف فيوحّد ويبني.
والله، نسأل للجميع التوفيق والسداد،