دراسات تربوية
فضيلة الشكر
العُملة النادرة في هذا العصر
(2من2)
بقلم: د. محمد عز الدين توفيق
تطرق الكاتب في الحلقة السابقة إلى توضيح حقيقة الشكر، فبيّن أنه شعبة من
شعب الإيمان، وصفة من صفات الله، وخلق من أخلاق الأنبياء والمؤمنين، ثم
بيّن قلة الشاكرين. وبعد أن ذكر كفر النعمة الذي يقابل الشكر وضح درجات الشكر
ودوائره ... وفي هذه الحلقة يتابع بيان جوانب أخرى من الموضوع.
- البيان-
شكر اللسان:
ولسان المرء يعرب عما في قلبه، فالكلام اللفظي يترجم ما في النفس ويظهره؛ فإذا امتلأ القلب شكراً لله (تعالى) لهج اللسان بذلك، وقد جاء الإسلام ليعلم الناس
كيف يشكرون ربهم بألسنتهم كما يشكرونه بقلوبهم، جاء يعلمهم ماذا يقولون.
وهذه أمثلة لأذكار وأدعية تتضمن الحمد والثناء على الله (تعالى) وشكره على
نعمه وآلائه:
أولاً: إذا أفاق من نومه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه
النشور) [1] .
ويقول: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد عليّ روحي وأذن لي بذكره) [2] .
ثانياً: وإذا أوى إلى فراشه لينام يقول: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي) [3] .
ثالثاً: ومن أذكار الصباح والمساء يقول: (اللهم ما أصبح بي من نعمة أو
بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، من قاله حين
يصبح فقد أدى شكر يومه، ومن قاله حين يمسي فقد أدى شكر ليلته) [4] .
رابعاً: وإذا أراد أن يستغفر فسيد الاستغفار أن يقول: (اللهم أنت ربي لا إله
إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من
شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت، من قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة، ومن قاله حين
يصبح فمات من يومه دخل الجنة) [5] ، والاعتراف بالنعمة والاعتراف بالتقصير
في شكرها، في قوله: أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي.
خامساً: وإذا أراد أن يدعو أي دعاء افتتح بالحمد لله أولاً والثناء عليه بما هو
أهله، ثم الصلاة على نبيه، ويذكر بعد ذلك حاجته.
سادساً: وإذا أراد أن يخطب في جمعة أو نكاح أو أي أمر ذي بال افتتح
بالحمد لله كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل، وتسمى خطبته
الافتتاحية بخطبة الحاجة.
سابعاً: وإذا صلى فالحمد في دعاء الاستفتاح وفي سورة الفاتحة وفي الرفع
من الركوع وفي أذكار ما بعد السلام.
فمن أذكار الاستفتاح: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة
وأصيلاً [6] .
ومن أذكار الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمداً
كثيراً طيباً مباركاً فيه [7] .
أو (ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء
بعد. أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد. وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما
أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) [8] .
ومن الذكر عقب الصلوات المفروضة أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده
ثلاثاً وثلاثين، ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقول تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من قال ذلك غفر ذنوبه
وإن كانت مثل زبد البحر [9] .
ومن أدعية التهجد: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن،
ولك الحمد أنت قَيّام السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات
والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق
والجنة حق والنار حق ومحمد حق والساعة حق [10] ... إلى آخر الدعاء.
ثامناً: وإذا أكل أو شرب أو أفطر أو سافر أو سئل عن حاله أو عطس يقول: الحمد لله.
تاسعاً: وإذا أراد أن يحمد ربه في أي ساعة من ليل أو نهار حمده؛ لأنه من
الأذكار المطلقة: (كل تحميدة صدقة) [11] .
ولو مكث العبد يومه كله يلهج بالحمد لله (تعالى) ما وفّى شكر نعمة واحدة من
النعم الإلهية عليه، فكيف وهي نعم كثيرة لا تحصى؟ وما أهدف الدعاء النبوي
الذي رواه مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: افتقدت النبي -صلى الله عليه
وسلم- ذات ليلة، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما
منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من
عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) .
لا يستطيع أحد أن يحصي الثناء على ربه؛ لأنه لا يستطيع أن يحصي نعمه
عليه، فليسأل العون من ربه، وليقل كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(يا معاذُ! إني أحبك؛ فلا تَدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك) [12] .
شكر الجوارح:
والقلب واللسان معدودان في الجوارح والمقصود ما سواهما من بقية أعضاء
الإنسان وحواسه التي يكسب بها أعماله، والحقيقة: أنه ما من عمل يعمله ابن آدم
إلا وهو فيه شاكر لنعم الله أو كافر لها، ويتصور شكر الأعمال باستعمال النعم فيما
يرضي الله (تعالى) وهذا يحتاج إلى فقه في دين الله (تعالى) ؛ لأن العمل الصالح
الذي يرضاه الله (تعالى) يعرف من طريق الوحي قال (تعالى) : [حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ] [الأحقاف: 15] ، فسأل العمل الصالح الذي يرضاه الله
عقب سؤاله التوفيق إلى شكر النعمة؛ وهذا دليل أن الشكر باللسان وحده لا يكفي.
وقد جاء في السنة النبوية أن كل آدمي يصبح معافى في بدنه؛ فهو مطالب
بثلاثمئة وستين صدقة يتصدق بها في ذلك اليوم بعدد مفاصل جسمه؛ وتكون هذه
الصدقات هي الشكر اليومي الذي يفك به رقبته من النار.
وعند النظر في روايات الحديث الوارد في ذلك نجد أنه وَسّع معنى الصدقات
فلم يحصرها في الصدقة المالية، بل جعلها أنواعاً من الأعمال الصالحة فيها أذكار
وعبادات، وفيها أعمال اجتماعية، وفيها أعمال مهنية، وفيها أعمال دعوية..
يجمعها وصف البر والخير أو العمل الصالح، فصارت هذه الأعمال الصالحة
المتنوعة فداءً يفدي به العبد نفسه من النار كل يوم.
أخرج مسلم من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خُلق
ابن آدم على ستين وثلاثمئة مفصل، فمن ذكر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح
الله، وعزل حجراً عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظماً، أو أمر
بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمئة السلامى أمسى يومه وقد
زحزح نفسه عن النار) [13] .
وقد تتبع ابن رجب الحنبلي (رحمه الله تعالى) روايات هذا الحديث وألفاظه
في شرحه للحديث السادس والعشرين من الأربعين النووية واستخرج منها أنواعاً
كثيرة من الأعمال سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقات، كما تتبعها النووي
(رحمه الله تعالى) في الباب الثالث عشر من رياض الصالحين وجعل عنوانه: باب
في بيان كثرة طرق الخير.
واللافت للنظر في هذه الأحاديث هو التصريح بأن تلك الصدقات (أو
الأعمال) تؤدي عن صاحبها شكر يومه، وقد قسّم ابن رجب في شرحه للحديث
السادس والعشرين المشار إليه آنفاً الشكر إلى: واجب ومستحب، فحمل ما ذكر من
الفرائض واجتناب الكبائر على الشكر الواجب، وحمل ما سوى ذلك من أنواع البر
على المستحب.
ولم يكن قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- حصر الصدقات في الأعمال التي
ذكر رغم كثرتها بمجموع الروايات؛ وإنما قصد التمثيل، والقاعدة هي أن كل عمل
صالح فهو صدقة تضاف إلى الصدقات الأخرى التي يؤدي بها العبد شكر يومه
ويجب أن يجاوز في مجموعها ثلاثمئة وستين، وهو شكر يتجدد كل يوم فلا يغني
شكر يوم عن شكر يوم غيره؛ والدليل أن الأمثلة ليست للحصر هو حديث جابر
(رضي الله عنه) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (كل معروف صدقة) [14] .
لا تعارض بين شكر الله وشكر الناس:
لأن الله (عز وجل) هو الذي أذن بشكرهم إذا استحقوا الشكر قال (تعالى) :
[أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ] [لقمان: 14] .
ولا يخفى الفرق بين شكر العبد وشكر الله، فلا أحد في قلب المسلم يعدل ربّه
وخالقه لكنه يعرف لكل ذي فضل فضله، ويكافئ كل صانع معروف بما يستحقه؛
فإن لم يستطع مكافأته شكره ودعا له وقال: جزاك الله خيراً.
هناك من يشكر المخلوق ولا يشكر الخالق، وهناك من يشكر الخالق ولا
يشكر المخلوق؛ وهدي الإسلام أن يشكر الخالق والمخلوق، وفي الحديث [15] :
(لا يشكر الله من لا يشكر الناس) ، أن الله (تعالى) لا يقبل شكر عبده له إذا لم يشكر
من أجرى النعمة على يديه، أو يكون المعنى: أن من كان من طبعه كفر نعمة
الناس كان من عادته كفر نعمة الله.
لا تنظر إلى ما ليس عندك وتنسى ما عندك!
تعرف النعم بدوامها، وتعرف بزوالها، وتعرف بالمقارنة، وتعرف بالتفكر.
ومن الآفات التي تضعف شكر العبد كثرة نظره إلى ما عند غيره من النعم فينسى ما
عنده أو يحتقره، والمنهج السليم أن ينظر ما عنده ويقارنه بما ليس عند غيره؛
فيحمد الله على ما أولاه وآتاه، ويسأل ما ليس عنده من الله وحده، قال الله (عز
وجل) : [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] [ابراهيم: 7] وقال
(تعالى) : [وَلا تَتََمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا
اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ] [النساء: 32] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛
فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله) .
وحتى لا يحيك في صدر المؤمن شيء إذا رأى من يفضله في النعم فإنه ينبغي
أن يذكر بأن النعم ابتلاء يتبعه حساب فعليه أن يُقبل على ما آتاه الله منها فيؤدي
شكره ويسأل الله من فضله والإعانة على الشكر، قال (تعالى) : [وَهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ
خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ
العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [الأنعام: 165] .
وقال (تعالى) : [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] [التكاثر: 8] .
الشكر ووسطية الإسلام:
قد يشتط بعض الناس في فهم شكر ما أسبغ الله عليهم من النعم إلى الدرجة
التي يشددون فيها على أنفسهم ويحملونها على التقشف الشديد والحرمان من الطيبات
بدعوى العجز عن الشكر والخوف من الحساب، وهذا مخالف لهدي الإسلام؛
فالشكر لا يتعارض مع الانتفاع بالنعم إذا كان في حدود الاعتدال؛ قال (تعالى) :
[كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأََرْضِ مُفْسِدِينَ] [البقرة: 60] ، وقال
(تعالى) : [يَا أََيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأََرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ] [البقرة: 168] ، ومن اتباعه التبذير والإسراف،
وقال (سبحانه) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن
كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ] [البقرة: 172] ، فليس الشكر بتحريم الحلال بل بإحلال الحلال
وتحريم الحرام: [لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن
رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ] [سبأ: 15] .
ولو كان شرطاً في الانتفاع بالنعمة أداء ثمنها من الشكر لما وفّت أعمال العبد
كلها بنعمة واحدة؛ فالاعتراف بالنعمة والاجتهاد في شكرها هو المطلوب، والله
(سبحانه) هو الذي يحب إذا أنعم على عبد أن يرى أثر نعمته عليه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.