الورقة الأخيرة
بقلم: د. محمد بن ظافر الشهري
في تعريف الأشياء مزية عظيمة تبرر الوقت والجهد الذي يبذل في سبيل
الوصول إلى تعريف جامع مانع لبعض المصطلحات، وكما أنه لا مشاحة في
الاصطلاح؛ فإنه ينبغي ألا يكون اصطلاح مع المشاحة، فليس هناك كبير فرق
بين أن نعبر عن (الكمبيوتر) بـ (الحاسوب) أو (الحاسب الآلي) ، ولكن المشكلة أن
نستعمل مصطلح (الدين يسر) مثلاً ونحن غير متفقين بل متناقضين أحياناً في فهمنا
للمعنى المراد.
لقد أصبح العالم اليوم مثل المدينة الواحدة، وليس ذلك لتوفر وسائط النقل
السريعة فحسب؛ بل لأن التداخل الثقافي المتسارع بوصفه نتيجة حتمية للثورة
الإعلامية العارمة يكرس هذه الحقيقة يوماً بعد يوم، وهكذا، فقد انتشرت
مصطلحات كثيرة على ألسن الناس، أو في أذهانهم على أقل تقدير، دون أن يكون
لها تعريفات موحدة تُلْزِم المتحدث بالموضوعية وتعطي السامع حق التمحيص.
فلنأخذ مصطلح (التشدد) على سبيل المثال، وهو من الألفاظ التي كثر تداولها
في هذا الزمن، ففي بيئةٍ ما يكون المتشدد في الدين هو الذي لا يأخذ بالرخص التي
يحب الله أن تؤتى كما يحب أن تؤتى العزائم، وفي بيئة أخرى: يكون المتشدد بل
ربما المتطرف هو الذي يصلي المكتوبات في المسجد.. وتكمن الخطورة في أن
هذا البون الشاسع (المشاحة) في تعريف (التشدد) يمكن أن يختزله غزاة الفكر
بالتركيز على المصطلح وإهمال التعريف.
ولكي يكتسب المجتمع المستهدف (المسلم طبعاً!) القدرة على تمييز السموم
الفكرية فيتجنبها، ينبغي أن تنمى لديه ملكة التمحيص؛ حتى لا يكون كالمريد
الصوفي الذي لا يحق له أن يراجع الولي (زعموا!) في شيء مما يقول أو يفعل،
ولا بد للتمحيص أن يكون موضوعيّاً، حتى لا يتحول إلى رفض مطلق لكل طرح
تشم فيه رائحة الآخر، والموضوعية تقتضي وجود موازين مرجعية يمكن بواسطتها
تحديد الموقف من كل شيء، قبولاً أو رفضاً.
إن تميز الإسلام بوجود هذه الموازين وبراءتها من الخلل، يؤهل المسلم
ليكون أبعد الناس عن الانسياق الأعمى وراء الشعارات المضلة مهما كان بريقها..
وصلى الله على الصادق المصدوق إذ يقول: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) [1] .