مقال
بقلم:محمد إدريس
وقفت أمام يوميتي لأنزع آخر ورقة بها لآخر يوم من عمر العام المنصرم
1417هـ، وعلى غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة، وهي تمتد إليها، وانتابني
إحساس نبه في وجداني شعوراً، ما كنت أأبه له على مدى أكثر من 350 يوماً قد
انتهت! ! ، لقد أحسست بإشفاق عليها، وقد تراءت لي كأنها تحتضر، وترنو إلى
يدي في فزع وذل؛ كأنها تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه الحياة! ! ،
فعدلت عن نزعها، ورحت أتأمل هذه الورقة الأخيرة، واعترتني رهبة عندما
عرفت أنني في الحقيقة بنزعها، قد نزعت حزمة من أيام عمري، لأطوي بها في
سجلي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وبما فيها من خير وغيره.
إن هذه اليومية (الشاهد) المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق، وإنها تتناقص
أيامها مثلما تتناقص أعمارنا يوماً بعد يوم، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسنين
عمرُ الزمان، وكل المخلوقات في تناقص مطّرد حتى تنتهي إلى الزوال؛ [كُلُّ مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإكْرَامِ] [الرحمن: 26، 27] .
إن كل المخلوقات تنتهي أعمارها، وتمضي حيث شاء الله لها، وتُطوى! ،
إلا هذا المخلوق (الإنسان) فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله من هذه الدنيا،
وموقوفاً للحساب والجزاء.
عدت من ذهولي، وأخذت استحث ذاكرتي القاصرة؛ علّها تسترجع بعض
ما رسب وعلق بها من أحداث العام المنصرم، قبل أن تغمرها دوائر النسيان،
ووقفت طويلاً أستعرض ذلك الشريط الطويل (العمر) ، يا سبحان الله العظيم! ! ..
إنه شريط عجيب حقّاً، فقد اكتظ اكتظاظاً، وأفعم إفعاماً؛ لقد اكتظ بالحوادث
المختلفة، والأحداث المتباينة، والأعمال الحقيرة والجليلة، عنّي وعن غيري ممن
لا حصر لهم، من الذين مرّوا أمام عدسة هذا الشريط بالصوت والصورة! ! .
ثم مرّت أمامي لقطات متتالية مؤلمة مؤلمة وحزينة حزينة، من واقع كثير
من المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها.
أحبائي القراء المحترمين، إن استرجاع وعرض كل لقطات شريط عامنا
المنصرم عن أحوال أمتنا في هذه العجالة وفي هذه المساحة المحددة صعب جدّاً،
كما لا أحب أن أثقل به عليكم أكثر، ولنتركه مستوراً ليوم العرض الأكبر، ندعوه
(تعالى) ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنه البر الرحيم، ولكني أحبّ أن أذكر
بنزر قليل مجملٍ من غير تفصيل، وإن الذكرى تنفع المؤمنين.
وعليه: فإن ما أحزنني عن حالنا كان كثيراً كثيراً؛ وإن ما أسرّني منه كان
قليلاً! ! ، ولست أدري من أين أبدأ الكلام؟ ! ، وعمّ أتكلّم؟ .
المبدأ بأرض الكنانة؟ ، أم عن ضفاف النيلين الأبيض والأزرق؟ ، أم عن
الجبل الأخضر؟ ، أم عن جامع الزيتونة المقهور؟ ، أم عن موطن ابن باديس
المستلب؟ ، أم عن جامع القرويين النائم؟ ، أم عن معاقل الشناقطة الأعلام
المتخلف؟ ، أم عن بلاد الرافدين المغلوبة على أمرها؟ ، أو عن الشام المهيضة
الجناح؟ ، أم عن فلسطين السليبة؟ ، أم عن اليمن السعيد؟ ، أم عن بخارى
والسند؟ ، أم عن أخوات البوسنة؟ ، أم عن مسلمي الهند؟ .. أَم.. أَم.. أَم..
لكني رأيت فيها كلها عجباً عجاباً، رأيت فيها ليلاً أغدف، ونهاراً أكلف،
أرضاً صلعاءَ، وسماءً جلواء؛ ورأيت فيها باطلاً عسوقاً [1] ، وظلماً عنوقاً، عِزة
بالأثم وجوراً، وحقّاً مقهوراً، وباطلاً منصوراً! ! ، ورأيت ردّةً وشركاً واغتراباً،
ومسخاً وفجوراً، وتَجِنِّياً وسفوراً! ! ! .
رأيت فيها استكانة وذلة! ! ، ودَعَةً واستمراءً وغفلة! ! ، وصمتاً مهلاّ! ! .
نعم.. لقد رأيت فيها طواغيت قد عادوا بطغواهم، والمستضعفين المغلوبين
يعانون من جبروتهم وظلمهم، ولا ملجأ لهم إلا الله.
نعم.. لقد رأيت فيها قابيل يقتل هابيل ظلماً وعدواناً.
رأيت فيها نوحاً (عليه السلام) يواصل رسالته، ومع القلة المؤمنة يصنع
سفينته، ليرحل عن دنيا الناس، والغرباء ينتظرون الطوفان ليجرف المتجبرين..
فطوبى للغرباء الصابرين! .
ورأيت فيها النمرود يحاول حرق إبراهيم (عليه السلام) ، وإبراهيمَ، وإبراهيمَ، وإبراهيمَ، ويعتدي على عرضهم وأهلهم، وينفيه من أرضه، والقوم من جبروته
مبهورين ومقهورين، بل هم يتفرجون! .
ورأيت فيها قارون لم تكفِه خزائن الأرض كلها، ومع عصابته خطفوا كل
مفاتيح الخزائن، فأفلسوا البلاد، وعاثوا فيها الفساد، وأهلكوا الحرث والنسل..
قومه يتضورون جوعاً، ويمجدونه كذباً وزوراً! ! .
رأيت فيها فرعون لا يزال معانداً متألهاً، يكفر بموسى (عليه السلام) ، وبرب
موسى، وبرسالة موسى، ويأتي الطاغوت يعلن على الملأ بِقِحَة وصفاقة المتجبرين: بأنه لا ربّ سواه؛ وقومه له يسجدون، وهم راغمون، ولا ساكناً يحرّكون، ولا
واقعهم إلى الأحسن يغيرون.
رأيت العزيز يسجن الصديق، ويرمي به في غياهب السجون، ولكنه يمضي
في طغيانه، لأن البطانة تطريه، وإذا غضب ترضيه! ! .
ولكن الذي ملأني رعباً وغيظاً، وهلعاً وحنقاً، عندما رأيت، وكما يراه كل
المسلمين، عندما رأيت الإسلام لا يزال مكبّلاً بالسلاسل في كثير من ديار الإسلام،
يرسف في قيوده، ويساق إلى قفص الاتهام، للمرة السبعين، منذ عشرات العقود
من السنين لا يزال مُداناً، وفي كل عام بدون اتهام، ليطيلوا محاكمته، ويمدّدوا في
عقوبته وسجنه! ! ، فلقد أجمع المحلفون، والقانونيون، وفقهاء السياسة.. بحكم
المتحضرين والمتنورين، وبشهادات الشهود الموثقين، لقد أجمعوا على اتهامه في
هذا العام بأخطر اتهام، بأنه عين التطرف والإرهاب.. والهتيفة يُؤمِّنون.
وهنا أتوقف؛ فالحديث ذو شجون.... . وإن الأمر جدّ مهول، جدّ مهول،
جدّ مهول، دعاة الإسلام يحاكمون، أم إن دين الله أصبح في عهد ادعياء
الديمقراطية في (قفص الاتهام) ؟ ! .
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهالني الأمر، وأشفقت على أولئك
المضطهدين، تلك الفئة الصالحة المبتلاة، وأشفقت عليها من صبرها الطويل
الطويل! ! ، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
مددت يدي وانتزعت الورقة الأخيرة؛ لتبدأ البداية الجديدة.
لعام جديد، بأمل كبير، ودعاء صادق أن يقيض الله لهذا الدين مَن ينصره،
ومن يتبناه ويحكِّمه في أمتنا المأسورة في كثير من البلدان بالقوانين التي ما أنزل الله
بها من سلطان، سائلاً الله (عز وجل) أن ينصر الإسلام، وأن يعز المسلمين، وأن
يرينا في أعداء دينه وشانئيه يوماً أسود، وما ذلك على الله بعزيز.