مجله البيان (صفحة 2444)

وقفات متأنية مع آراء د. القرضاوى حول ...

متابعات

وقفات متأنية مع آراء د. القرضاوي

حول العلاقة مع أهل الكتاب

بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني

نشرت مجلة المجتمع في عددها رقم (1233) خبرا نسبت فيه أقوالاً

لفضيلة الدكتور الشيخ (يوسف القرضاوي) حول مقابلته مع المفكر الفرنسي المسلم

(رجاء جارودي) ، الذي أُثيرت حول بعض آرائه عن الإسلام شبهات وصلت إلى

الحكم بردته، لقد نفى الشيخ (القرضاوي) ما زُعم من ردة (جارودي) ، وقد أوردت

المجلة في سياق خبرها أقوالاً نسبتها لفضيلة الشيخ (القرضاوي) لا يمكن تجاهلها،

حيث إنها تتعارض مع المفاهيم الأساس للعقيدة الإسلامية حول علاقة الإسلام

باليهودية والنصرانية، ولكون هذه الأقوال منسوبة لعالم من العلماء المشهورين،

الذين لهم مواقف مشكورة محمودة تجاه الإسلام والذب عنه، فإن مناقشة ما نسب

إلى فضيلته يعود إلى أمرين:

الأول: وجوب اتباع المنهج الذي أمر به رسول الله من واجب أداء النصح

وفق ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن تميم بن أوس الداري (رضي الله عنه)

أن النبي قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ ، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة

المسلمين وعامتهم) .

الثاني: أن ما ورد من أقوال نسبت إلى عالم جليل ونشرت في مجلة يقرؤها

جمع غفير من المسلمين وفيها مخالفة لمفاهيم إسلامية ترتبط بالعقيدة من ناحية،

وبالولاء والبراء من ناحية أخرى.. مما لا يصح تجاهله مهما كان قدر قائله، فإن

الله قد أوجب على كل من يعرف الحق أن يظهره ولو كان في منزلة أقل ممن

صدرت عنه هذه المخالفة، يقول (تعالى) : [إنَّ الَذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ

وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ]

[البقرة: 159] ، وقبل الدخول في مناقشة ما ورد في تلك الأقوال أود أن أسجل

عدة أمور أساس لحواري هذا؛ حتى لا يساء الفهم، وهي:

أولاً: أنني أكن احتراماً شديداً لفضيلة الشيخ (القرضاوي) ، ولقد استفدت من

علمه من خلال كتبه، وما نشره، وإن لم أحظ بمقابلته، وإن ما سوف يتم من

معارضة لبعض ما نسب إليه لا يقلل من شأنه، ولا من علمه، ولا من حاجة الأمة

إلى آرائه، ولا من فضله، ولنا فيما فعله وقاله شيخ الإسلام (ابن تيمية) عند رده

بعض آراء الفقيه الإمام (محمد بن حزم) أسوة، فقد جاء في الفتاوى قوله: (وأبو

محمد مع كثرة علمه وتبحره، وما يأتي به من الفوائد العظيمة له من الأقوال

المنكرة الشاذة ما يعجب منه، كما يعجب مما يأتي به من الأقوال الحسنة ... الفائقة) [1] .

ثانياً: أن واجب النصح لكتاب الله، وسنة رسوله، ولعلماء الأمة، وعامتهم

يقتضي عدم السكوت على أي شيء يمس الثوابت الدينية، وأن هذا الواجب لا

يقتصر على فئة معينة، وإنما يتعدى ذلك إلى عموم الأمة، حيث يجب إظهار الحق

ممن يعرفه، والالتزام به، والاستماع إليه وقبوله من قائله، ولو كان الاعتراض

على قول صادر ممن له منزلة علمية أعلى من المعترض، فلنا في صحابة رسول

الله أسوة، فقد ورد في الأثر أن الخليفة (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) عزم

على تحديد المهور وأعلن ذلك على المنبر، ولكن امرأة من سائر أفراد الأمة

اعترضت عليه وأدلت بالدليل، فما كان من عمر (رضي الله عنه) إلا أن عدل عن

رأيه وأعلن خطأه.

إن الاعتراضات التي سأتناولها والتي وردت فيما نُسب إلى فضيلته تتمثل في

الأمور التالية:

أولاً: ما ذكر من أن رسالة الإسلام في جوهرها أخلاقية بالدرجة الأولى، فقد

ورد هذا القول عندما أشار فضيلته عند رده لتهمة الردة التي وجهت إلى (جارودي) ، حيث قال وفق ما نسبته المجلة: (إن الرجل ما زال على خطه الأول الذي يعبر

عن الإسلام الصحيح الذي يُدين الحضارة الغربية ويؤيد الشعوب المستضعفة،

ويقف في صف الفقراء ضد الطواغيت المستكبرين في الأرض، فالرجل ضد الظلم

والطغيان، ومع العدل والإحسان والرحمة، وهي أخلاقيات من جوهر الإسلام الذي

هو رسالة أخلاقية بالدرجة الأولى) .

إن القول بأن رسالة الإسلام في الدرجة الأولى هي رسالة أخلاقية غير

صحيح، ويتناقض مع ما جاء في القرآن الكريم، حيث إن الرسالة الأساس

والأولى للإسلام هي: إخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده لا شريك

له، أما الأخلاق فهي تبع ولازم من لوازم الإيمان بالله، فالقول بأن رسالة الإسلام

أخلاقية في الدرجة الأولى يتناقض مع حقيقة دعوة الإسلام، فموضوع الأخلاق وما

يندرج تحته أمر فلسفي تحكمه الأعراف الإنسانية والمجمعة على كثير من الفضائل، حيث يشترك في الإقرار بها والدعوة إلى الأخذ بها: المسلم الموحِّد، والملحد

الكافر الذي لا يؤمن بأي إله، والوثني الذي يعبد مع الله آلهة أخرى، وأهل الكتاب

الذين بدلوا تعاليم أنبيائهم من اليهود والنصارى فعبدوا غير الله وشرعوا شرائع لم

يأمر الله بها، فمنع الظلم، والإحسان إلى الفقراء، والرحمة بالضعفاء.. وغير

ذلك من الصفات الأخلاقية الحسنة مقبولة، وجميع البشر يدعون إليها؛ فميثاق

الأمم المتحدة، ومبادئ حقوق الإنسان المقرّة من قِبَل هيئة الأمم المتحدة، وما

يعرف بالشرعية الدولية.. فيها أمور أخلاقية لا يعترض عليها أي فرد مسلم أو

غير مسلم، فهي أمور مشتركة؛ ولهذا: لا يمكن أن يقال إن رسالة الإسلام أخلاقية

في الدرجة الأولى، والنصوص من القرآن الكريم قد أوضحت أن رسالة الإسلام

الأولى هي توحيد الله (تعالى) وإفراده بالعبادة، يقول الله (تعالى) : [قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ

أََتَّخِذُ وَلِياً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأََرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أََنْ أََكُونَ أََوَّلَ

مَنْ أََسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ] [الأنعام: 14] ، لقد فسر ابن كثير هذه الآية

بقوله: (لا أتخذ وليّاً إلا الله وحده لا شريك له؛ فإنه فاطر السماوات والأرض، أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق [هُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ] أي: وهو الرزاق

لخلقه من غير احتياج إليهم) [2] ، ولتأكيد أن رسالة الإسلام هي تحقيق عبادة الله

وحده وأن على أهل الكتاب تصحيح عقيدتهم، جاءت آية سورة النساء تؤكد هذا

المعنى في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا

مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نّطْمِسَ وجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ

السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ

لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْماً عَظِيماً] [النساء: 47، 48] ، وقد

عقب ابن كثير على هذه الآية بعد أن أشار إلى أن الله (تعالى) أمر أهل الكتاب

بالإيمان بما نزل على رسوله محمد من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي

بأيديهم، عقّب بقوله: (.. ثم أخبر (تعالى) أنه لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به،

ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء أي: من عباده) [3] ، ثم أورد

أحاديث حول أهمية الإيمان بالله وأنه أساس الأمر في الإسلام، ومن تلك الأحاديث: ما رواه النسائي عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً

متعمداً) ، وحديث ابن مسعود الذي ورد في الصحيحين أنه قال: قلت: يا رسول

الله، أي الذنب أعظم؟ ، قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك) ، وهذه النصوص

وغيرها تؤكد أن رسالة الإسلام في الدرجة الأولى ليست أخلاقية فقط، وإنما هي

إخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده، وأن الأخلاق تبع لذلك،

ولهذا: فقد فهم الصحابة (رضوان الله عليهم) هذه الحقيقة، يقول ربعي بن عامر

(رضي الله عنه) حيث أجاب رستم على سؤاله (عمّ جاء بالمسلمين لمحاربة ... الفرس؟) بقوله: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) .

ثانياً: ما ذكره من أن الحرب مع اليهود في فلسطين ليست حرباً دينية،

بمعنى أنها ليست من أجل العقيدة، وقد نسبت المجلة إليه قوله: (إنه يفهم قصد

جارودي ويؤيده في أن حربنا مع اليهود ليست حرباً دينية، بمعنى أنها ليست من

أجل العقيدة، فنحن نحارب اليهود لأنهم استعمروا أرض فلسطين لا لكونهم يهوداً،

فاليهودية دين سماوي يعترف به الإسلام، وقد عاش اليهود في ظل الدولة الإسلامية

من عهد النبي وحتى اليوم في حرية لم يجدوها في ظل أي دين آخر) ، فإن كان

فضيلته يقصد أن اليهود لا يقاتلون ولا يضطهدون لكونهم يهوداً، وأن قتالهم في

فلسطين ليس دينيّاً، بمعنى: أن كونهم يهوداً ليس سبباً وحيداً في قتالهم، فهذا لا

غبار عليه وإن كان قتالهم ودفعهم باعتبارهم معتدين على أرض إسلامية جهاداً

إسلاميّاً مشروعاً وواجباً يقوم به المسلم ثمرة لإيمانه، وليس الأمر عند المسلم مجرد

منازلة عسكرية أو سياسية ضد مستعمر احتل وطنه فحسب، ولقد حاربهم الرسول

وجاهدهم، ولكن لم يشن المسلمون ضدهم حرب إبادة عنصرية بسبب الدين، بل

بقي في ظل الإسلام وتحت سلطان شريعته يهود ونصارى بوصفهم أهل ذمة

يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، أما إجلاء الرسول لهم، فلكون ذلك

خصوصية لجزيرة العرب التي أمر الرسول ألا يجتمع فيها دينان.

وفيما يتعلق بهذا الأمر فهناك جانبان:

الجانب الأول: أن واقع الصراع الحالي مع اليهود هو صراع قائم على فكر

لا يلتزم بالإسلام، وبالتالي: فهي حرب غير دينية ولم تقم على أساس إزالة الحكم

اليهودي وإحلال الحكم الإسلامي محله، وإنما الصراع معهم قائم على أساس

الأرض، ونحن نتفق معه في هذا الجانب إذا كان يقصد مجرد وصف حالة الصراع

القائم، ولهذا كانت حصيلة الفكر الذي يصارع اليهود على أرض فلسطين الانهزام

والاستسلام لهم في الأخير.

الجانب الثاني: أن الحرب مع اليهود من الناحية العقائدية أمر يوجبه الإسلام

ويأمر به، وينبغي أن يقوم صراعنا مع اليهود في هذا العصر على أساسه، حيث

إن لهم صولة وجولة، والإسلام لا يعترف ولا يسلم بقيام دولة يهودية تمارس

السلطة والحكم على ديار المسلمين، وما حرب الرسول لليهود وإجلاؤهم عن

المدينة وقتاله لقريظة عام الأحزاب، وما جاء من أمر بقتالهم في سورة الأحزاب،

ومحاربة بني النضير وما نزل فيهم في سورة الحشر، ومحاربة يهود خيبر بعد

صلح الحديبية، وما جاء في ذلك من ذكر في سورة الفتح.. إلا دلالات عملية

بوجوب إزالة شوكة اليهود، تنفيذاً لأمر الله بقتال أهل الكتاب في قوله (تعالى) : ... ... [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] ، يقول ابن كثير مفسراً لهذه الآية [4] : (وهذه الآية الكريمة أول أمر بقتال أهل الكتاب بعدما تهدمت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستقامت جزيرة العرب.. أَمَرَ الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى) .

وقد أوضح (ابن تيمية) قضية مقاتلة أهل الكتاب تعليقاً على هذه الآية بقوله:

(وقد خرج الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقتالهم بنفسه عام تبوك، واستنفر

لقتالهم جميع المؤمنين، ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف، ومن

تخلف لأنه لم ير قتالهم واجباً كان كافراً، وإن أظهر الإسلام كان منافقاً ملعوناً، بيّن

الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم، وأنزل في ذلك جمهور سورة

براءة بالنقل المتواتر، حتى بيّن كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال

النصارى) [5] ، وقد سبق غزوة تبوك أن بعث الرسول إلى زعماء النصارى في

الشام ومصر رسله بكتبه (عليه الصلاة والسلام) ، والتي دعاهم إلى دخول الإسلام،

ثم أعقب هذه الكتب بعث مؤتة، فكانت أول مناوشة حربية مع النصارى، وبعد

انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى واصل خليفتاه من بعده ... أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) محاربة النصارى في الشام حتى تمكنت دولة الخلافة من نشر الإسلام وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، أما حرية ممارسة الدين فهي مكفولة لمن يعيش في ظل الحكم الإسلامي، لكن مقاتلة أهل الكتاب الذين يناهضون المسلمين ويحيكون المؤامرات لهم ويستذلونهم ويمنعون نور الإسلام من أن يستضي به من يريد هداية الله.. أمر مجمع عليه من قِبَل سلف هذه الأمة.

ثالثاً: لقد نُسب إلى الشيخ (القرضاوي) أنه قال: (لا مانع في الإسلام من أن

يقف أتباع الديانات السماوية الذين يتبعون إبراهيم الخليل (عليه السلام) في خندق

واحد، وقد يختلفون في بعض الأمور، لكن بينهم من الأصول المشتركة ما يجمعهم

ضد الذين ينادون بوحدانية الدولار، ووحدة السوق، ويعتبرون أنه لا إله إلا المادة) .

إن هذا القول يناقض أصول الإسلام وحقائق التوحيد التي جاء بها الإسلام،

ومن هنا فلا بد من محاورة فضيلته، وما نسب إليه من هذا القول لا يُقَر عليه،

وهو قول لم يكن من الممكن تصور صدوره من عالم فقيه من علماء المسلمين،

وقبل مناقشة هذا القول لابد من إيضاح حقيقة أساس، وهي: أن أصل الدين

الصحيح واحد منذ آدم (عليه السلام) وحتى رسولنا محمد، وهو دين الإسلام، فقد

أكد القرآن هذه الحقيقة في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله (تعالى) : [وَمَن

يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ

لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ (131) وَوَصَّى

بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم

مُّسْلِمُونَ] [البقرة: 130 132] ، وقد أوضح القرآن الكريم تحريف اليهود للتوراة

وتحريف النصارى للإنجيل، بحيث ابتعد اليهود والنصارى عن أصل الدين،

فابتدع كل منهم ديناً جديداً يختلف في أصوله وقواعده عن دين الإسلام، وبالتالي:

فليست هناك أي أصول مشتركة بين الإسلام واليهودية والنصرانية فيما يتعلق

بأصول الاعتقاد.

إن محاورة فضيلته فيما نسب إليه من هذا القول يتمثل في الآتي:

ذكره أن الديانات السماوية والمقصود بها اليهودية والنصرانية والإسلام كلها

تتبع إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ، وبالتالي: فأتباعها يشتركون في ذلك، قول

يخالف صريح القرآن الكريم، يقول (تعالى) في سورة البقرة: [أََمْ تَقُولُونَ إنَّ

إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأََسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أََوْ نَصَارَى قُلْ أََأََنتُمْ أََعْلَمُ

أََمِ اللَّهُ وَمَنْ أََظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] [البقرة:

140] ، لقد علق ابن كثير على هذه الآية بقوله: (ثم أنكر (تعالى) عليهم في

دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما

اليهودية وإما النصرانية، فقال: [قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ] ، يعني: بل الله أعلم،

وقد أخبر أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى) [6] ، وقد ذكر ابن كثير عن ابن عباس

(رضي الله عنهما) أنه قال: (اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله

فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديّاً، وقالت النصارى: ما

كان إبراهيم إلا نصرانيّاً، فأنزل الله (تعالى) : [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي

إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [آل عمران: ... 65] ) [7] ، وفي سياق تفسيره لقوله (تعالى) : [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ... ]

[الحج: 78] نسب ابن كثير لمجاهد قوله: (الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب

المتقدمة وفي الذكر؛ [وَفِي هَذَا] : يعني: القرآن، وكذا قال غيره) ، وقد علق

ابن كثير على ذلك بقوله: (قلت: وهذا هو الصواب؛ لأنه (تعالى) قال: [هُوَ

اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به

الرسول (صلوات الله وسلامه عليه) بأنه ملة أبيهم الخليل، ثم ذكر منته (تعالى)

على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في

كتب الأنبياء، يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن ... قَبْلُ] ، أي: من قبل هذا القرآن) ، ثم أورد بعد ذلك حديث حارث الأشعري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ ، قال: نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله) [8] ، وعلى ضوء هذا الحديث النبوي: فلا ينبغي أن يطالب باجتماع اليهود والنصارى في خندق واحد؛ حيث إنهم ليسوا من أتباع إبراهيم (عليه السلام) كما رد الله عليهم في كتابه، وإن الاجتماع معهم إنما يتم وفق قوله (تعالى) : [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ... [آل عمران: 64] .

ليس هناك أصول مشتركة مع اليهود والنصارى، فهم مشركون كفرة، قد

حكم الله عليهم بالكفر، وإن من يدرس التوراة والتلمود والأناجيل ليعرف معرفة

تامة أن اليهودية والنصرانية قد انحرفتا عن دعوة موسى وعيسى (عليهما السلام) ،

وقد أوضح القرآن الكريم شرك كلا الديانتين بعد التحريف، وأن أتباعهما قد ... ضلوا، يقول (تعالى) : [وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً وَاحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] [التوبة: 30، 31] ، فما هي الأصول المشتركة بين الإسلام واليهودية والنصرانية المحرفتين بعد توضيح أن اليهود والنصارى مشركون وأن أقوالهم تتفق مع أقوال المشركين.

إن الاختلاف بين الإسلام والنصرانية واليهودية اختلاف جذري وليس اختلافاً

في بعض الأمور كما نُسب ذلك إلى فضيلة الشيخ (القرضاوي) ، بل إن الاختلاف

حاصل في حقيقة أصل الإيمان ومفهومه، حيث يفترق الإسلام عن المسيحية

واليهودية.

الاختلاف بين الإسلام واليهودية اختلاف لا يشمل فقط أصل الاعتقاد، بل

يشمل الشرائع والحلال والحرام والأخلاق.. وغير ذلك، فاليهود كما ذكر (ابن

تيمية) : (يُشَبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق، التي

يجب تنزيه الرب (سبحانه) عنها، كقول من قال منهم: إنه فقير، وإنه بخيل،

وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض.

والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي

ليس له فيها مثل، كقولهم: إن المسيح هو الله، وابن الله، وكل من القولين يستلزم

الآخر، والنصارى أيضاً يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب

عنها، ويسبون الله سبّاً ما سبه أياه أحد من البشر ... واليهود تزعم أن الله يمتنع

منه أن ينسخ مما شرعه، كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة، أو ما ينافي العلم

والحكمة، والنصارى يجوِّزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله،

فيحللوا ما حرم، كما حللوا الخنزير وغيره من الخبائث، بل لم يحرموا شيئاً،

ويحرمون ما حلل، كما يحرمون في رهبانيتهم التي ابتدعوها وحرموا فيها من

الطيبات ما أحله الله، ويسقطون ما أوجب، كما أسقطوا الختان وغيره، وأنواع

الطهارة من الغسل وإزالة النجاسة وغير ذلك، ويوجبون ما أسقط كما أوجبوا من

القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه ... واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات وتحريم

الطيبات، والنصارى استحلوا الخبائث وملابسة النجاسات) [9] .

تنبيه مهم:

قد يُستدل ببعض الآيات الواردة في القرآن عن علاقة أهل الكتاب بالمسلمين

وأن الإسلام مدحهم في بعض آيات القرآن، فمن ذلك قوله (تعالى) : [مِّنْ أَهْلِ

الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ

وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ] [آل عمران: 113، 114] ، وقد علق (ابن تيمية) على

هذه الآية بقوله: (فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى، بل هي مذكورة بعد قوله

(تعالى) : [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ... الفَاسِقُونَ ... ] [آل عمران: 110] ) ، إلى أن قال: (والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود، والله (تعالى) إنما أثنى على مَن آمن مِن أهل الكتاب، كما قال (تعالى) : [وَإنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ ... إلَيْكُمْ ... ] [آل عمران: 199] ، وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الآخرى (في آل عمران) نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لم تمكنه الهجرة إلى الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا العمل بشرائع الإسلام؛ لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام، وقد قيل: إن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما صلى عليه لما مات ... لأجل هذا..) [10] .

ومن الآيات التي تثير الأشكال في أذهان بعض الناس: قوله (تعالى) : [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ

آمَنُوا الَذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ]

[المائدة: 82] ، فقد يستدل بهذه الآية بأن أفعال النصارى حسنة، وأن الله نفى

عنهم الشرك بقوله [الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والذين

قالوا إنا نصارى أقربهم مودة، لقد رد (ابن تيمية) (رحمه الله) على من احتج بهذه

الشبه بقوله: (والجواب أن يقال: تمام الكلام: [وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ

تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ

الشَّاهِدِينَ ... ] [المائدة: 83] فهو (سبحانه) لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء

الذين آمنوا بمحمد الذين قال فيهم: [وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ

تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] ،

والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول

الله، وهم الشهداء الذين قال فيهم: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدََاءََ عَلَى

النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] ) [11] ، (فإن كان دينهم حقّاً

لزم كفر اليهود، وإن كان باطلاً لزم بطلان دينهم، فلا بد من بطلان أحد الدينين،

فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما وقد سوت بينهما، فعلم أنها لم تمدح واحداً منهما بعد

النسخ والتبديل، وإنما معنى الآية: أن المؤمنين بمحمد، والذين هادوا: الذين

اتبعوا موسى (عليه السلام) وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل،

والنصارى: الذين اتبعوا المسيح (عليه السلام) وهم الذين كانوا على شريعته قبل

النسخ والتبديل، والصابئين وهم الصابئون الحنفاء كالذين كانوا من العرب وغيرهم

على دين إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق قبل التبديل والنسخ، فإن العرب من ولد

إسماعيل وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا

حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة ... وكذلك بنو إسحاق

الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين..

فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم هم الذين مدحهم الله

(تعالى) [12] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015