مقال
قصة موسى (عليه السلام) والخضر
دراسة تعاقدية
بقلم: عدلي علي حماد
سورة الكهف من السور المكية، وقد عرضت هذه السورة ثلاث قصص
من قصص القرآن العظيم، وهي: قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى (عليه
السلام) مع الخضر، وقصة ذي القرنين.
فقد حكت لنا سورة الكهف بيان أحداث قصة نبي الله موسى (عليه السلام) مع العبد الصالح الخضر، التي سوف أستعرضها بإذن الله في ... دراسة لهذه القصة من ناحية العلاقة التعاقدية التي نشأت بين موسى والخضر، وما هي طبيعتها، والأحكام المستفادة منها، وبالأخص النقاط التالية:
1- طبيعة العلاقة.
2- الشروط المتبادلة.
3- الإنذار عند الإخلال بالتعاقد.
4- فسخ العقد.
5- آثار فسخ العقد.
أولاً: طبيعة العلاقة:
تبدأ القصة بذكر عزم موسى (عليه السلام) على الرحلة إلى مَجْمع البحرين
في طلب العلم، كما قال (تعالى) : [وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ
البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً] [الكهف: 60] .
وقد ذكر المفسرون أن سبب قول موسى (عليه السلام) لفتاه وهو (يوشع بن
نون) هذا الكلام: أنه ذكر له أن هناك عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من
العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه: [لا أَبْرَحُ] ، أي:
لا أزال سائراً حتى أبلغ مجمع البحرين، قال قتادة: هما بحر فارس مما يلي
المشرق وبحر الروم مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع
البحرين عند طنجة، والله أعلم [1] .
[فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: 65، 66] ،
لقي موسى (عليه السلام) الخضر، وهو عبد صالح وهبه الله نعمة عظيمة من العلم، وفضلاً كبيراً، وهي: الكرامات التي أظهرها الله على يديه، [مِن لَّدُنَّا عِلْماً] ،
أي: علماً خالصاً بنا، لا يُعلم إلا بأمرنا، وهو علم الغيوب، وهو العلم الرباني
ثمرة الإخلاص، ويسمى (العلم اللدُنِّي) ، يورثه الله لمن يشاء من عباده، قال ابن
عطية: (كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر
لأحكام أفعاله بحسبها) [2] .
[قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلََى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] ، أي: هل
تأذن لي في مرافقتك؛ لأقتبس من علمك ما يرشدني في حياتي؟ ، وهنا يظهر لنا
من واقع قصة موسى (عليه السلام) مع الخضر: أن هناك علاقة تعاقدية قد نشأت
بينهما، ينطبق عليها تعريف العقد، وهو لغة: (الجمع بين أطراف الشيء وربطه) ، واصطلاحاً: (ارتباط الإيجاب بالقبول الصادر من أحد المتعاقدين بقبول الآخر
على وجه يثبت أثره في المعقود عليه) ، وأركان العقد هي:
أ - العاقدان، أو طرفا العقد (موسى والخضر) .
ب - محل العقد، أو المعقود عليه (مرافقة موسى للخضر) .
ج - موضوع العقد (تعليم الخضر لموسى) .
د - عناصر العقد (الرحلة في طلب العلم) .
1- صدور طلب المرافقة من موسى (الإيجاب) ، وهي مخاطبة فيها ملاطفة
وتواضع من نبي الله الكريم، وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم
منه، وتعريف الإيجاب: (أنه ما صدر أولاً من أحد المتعاقدين دالاّ على رضاه
بالعقد) ، وقال الجمهور: (هو الصادر ممن يكون منه التمليك سواء صدر أولاً أو
ثانياً) [3] : أي: إن القبول كان من موسى والإيجاب من الخضر.
2- رد الخضر: يظهر منه عدم المخالفة في قبول اتباع موسى (عليه السلام)
له، ولكنه تحفظ في القبول التام؛ لعلمه بعدم قدرة موسى (عليه السلام) على الصبر
[قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً]
[الكهف: 67، 68] ، فبين له طبيعة الرحلة، وهذا أمر مهم، فعلى الطرف
المتعاقد أن يوضح للطرف الآخر قبل التعاقد ماهية:
أ- المؤهلات المطلوبة من المتعاقد.
ب- بيان طبيعة المهمة المطلوبة منه؛ حتى لا يفاجأ بها وتكون سبباً للخلاف، وهي الجهالة المنهي عنها شرعاً.
3- ويُعَد صدور (القبول) من الخضر مشروطاً [قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً] أي: إنك لا تستطيع الصبر على ما ترى، قال ابن عباس: لن تصبر
على صنعي؛ لأني عُلمت من غيب علم ربي [4] ، ويعتبر هذا قبولاً من الخضر
بمرافقة موسى له، حتى وإن لم يصدر بصيغة القبول الصريح، لأنه لما أجابه
موسى (عليه السلام) باستعداده للالتزام بالشرط لم يحتج الأمر لصدور قبول ثانٍ من
الخضر، وتعريف القبول: (هو ما صدر ممن يصير إليه الملك دالاً على رضاه بما
أوجبه الطرف الآخر) ، شرح الخضر سبب اشتراطه ذلك [وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا
لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً] ، أي: كيف تصبر على أمر ظاهره منكر وأنت لاتعلم باطنه.
4- تأكيد موسى لاستعداده تحمل مشاق الرحلة والالتزام بأوامر الخضر، ... [قَالَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً] [الكهف: 69] ، أي:
ألزمت نفسي طاعتك، فزاد موسى (عليه السلام) على ذلك أن اشترط على نفسه
بجانب الصبر على ما يراه من الخضر عدم العصيان لأوامره، مع استثنائه وربط
ذلك بمشيئة الله (عز وجل) ، كما قال (تعالى) : [وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ
غَداً (23) إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ... ] [الكهف: 23، 24] ، لذا: قال ابن عباس في
الرجل يحلف، قال: له أن يستثني ولو إلى سنة [5] ، كما يستحب الاستثناء في
الحلف لحديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حلف
على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى) [6] ، وكما جاء في الصحيحين عن أبي
هريرة (رضي الله عنه) في قصة سليمان بن داود (عليهما السلام) أنه قال:
(لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله،
فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف
إنسان، فقال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء
الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته) [7] .
5- على هذا الأساس تم إبرام العقد بناء على طلب موسى (عليه السلام)
بقوله: [هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] ، سؤال تلطيف على وجه
الطلب لا الإلزام والإجبار، فهو إيجاب من موسى يبدي استعداده لاتباع الخضر في
مسيرته ورحلته مقابل شيء واحد: أن يعلمه مما عُلم رشداً، وهذا هو محل العقد
أو العوض الذي طلبه موسى (عليه السلام) مقابل الاتباع، فيجوز أن يكون العوض
ماديّاً، أو عينيّاً، أو خدمة مثل خدمة موسى لشعيب مقابل إنكاحه له إحدى بناته ... [قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَاًجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ] [القصص: 27] .
فتكون قد تكاملت بذلك أركان العقد من تبادل الإيجاب والقبول، والاتفاق على
موضوع العقد، والتزام موسى والخضر بذلك، ولم يكتبا ذلك، ولم يُشهِدا أحداً،
مما يدل على أن الكتابة والشهود ليسا من شروط صحة العقد.
ثانياً: الشروط المتبادلة:
1- يتضح من الآيات التي مرت بنا أن كل طرف قد أملى شروطه قبل
التعاقد، فاشترط موسى (عليه السلام) على نفسه الطاعة وعدم عصيان أوامر
الخضر: [وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً] ؛ مما يوضح أن المتعاقد يحق له إملاء الشروط
على نفسه بشرط أن يلتزم بها، واشترط الخضر على موسى (عليه السلام) عدم
السؤال عن شيء حتى يقدم له البيان (الذكر) ، أي: لا يحق لموسى (عليه السلام)
السبق في السؤال أو الاستفسار عن شيء حتى يكون الخضر هو الذي يحدثه عنه:
[قَالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً] [الكهف: 70] ، والمعنى: لا تسألني عن شيء حتى أبينه لك بنفسي، فيكون الخضر قد شرط
عليه قبل بدء الرحلة ألا يسأله وألا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له
هو سرها.
2- ويستفاد أيضاً من القصة: قبول موسى (عليه السلام) المسبق لشرط
الخضر رعاية لأدب المتعلم مع العالم؛ لأنه قال [وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً] ، وقد
ألزمه الخضر بعدم السؤال، مما يعد قبولاً ضمنيّاً من موسى (عليه السلام) بجميع
شروط الخضر، والقبول الضمني يحتج به على المتعاقد إذا استمر في العقد بعد
علمه بالشرط، وموسى (عليه السلام) استمر في مصاحبة الخضر بعد علمه بالشرط
وإن لم يصدر منه قبول صريح بذلك الشرط.
3- ويعتبر العقد ناجزاً إذا لم يكن معلقاً على شرط، وإذا كان العقد مشروطاً
فينبغي أن يكون الشرط صحيحاً شرعاً، لحديث الرسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مئة شرط) [8] ، كما يجب ألا يكون الشرط منافياً لمقتضى العقد، مثل: أن يقول البائع بعتك
السيارة على ألا تركبها خارج البلدة، والشرط ملزم إذا صدر صحيحاً، كما قال
شريح القاضي: (من شرط على نفسه شرطاً غير مكره فهو عليه) [9] .
وهناك العديد من أنواع الشروط العقدية التي يمكن أن تقترن بصيغة الإيجاب
والقبول الصادر من أحد المتعاقدين، وهي كالتالي:
1- التعليق. ... ... ... ... 2- التقييد. ... 3- الإضافة.
1- التعليق: تعليق وجود العقد بوجود شيء آخر، بحيث لا يوجد ما لم
يوجد الشيء الآخر، مثل: أن يقول أحد المتعاقدين للآخر: بعتك داري إن رضي
شريكي.
2- المقيدة: صدور الصيغة المنشئة للعقد مقيدة حكمه وآثاره، مثل: أن
يقول البائع: بعتك السيارة بشرط أن أركبها إلى بلدة كذا.
3- المضافة: بأن يتم تأخير أثر العقد لشرط معين كأن يتفق على بدء سريان
عقد الإيجار بعد موعد محدد فيكون العقد مضافاً إلى زمن مستقبل [10] .
إذن: كان هذا أول أمر من الخضر لموسى (عليه السلام) ، والشرط القائم
الذي تعاقدا عليه: ألا يبادر موسى (عليه السلام) الخضر بأي سؤال عن أي
تصرف يراه حتى يفصح له عن سبب ذلك التصرف، والقاعدة الشرعية المستمدة
من حديث الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (المسلمون على شروطهم) [11] ،
وفي رواية أخرى زاد (إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) [12] تفيد: أنه إذا ما
اشترط المتعاقد لنفسه شرطاً وكان هذا الشرط لا يستوجب حدوث أي مخالفة شرعية، فإن على الطرف الآخر الالتزام بتنفيذ ذلك الشرط، وفي حالة إخلاله بالشرط فمن
حق المتعاقد أن يتخذ ما يراه مناسباً لحفظ حقوقه.
ثالثاً: الإنذار عند الإخلال بالتعاقد:
وتوضح القصة أن موسى (عليه السلام) والخضر شرعا في تنفيذ العقد مباشرة
ولكن ظهر أن موسى لم يتمكن من الالتزام بالشرط، وهو عدم السؤال عن أي
شيء حتى يحدثه الخضر عن أمر ذلك الشيء.
1- فكانت المخالفة الأولى بسبب سؤاله عن خرق السفينة: [فَانطَلَقَا حَتَّى
إذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً] ... ... [الكهف: 71] .
قال الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: (كانت الأولى من
موسى نسياناً) [13] لذلك كان الخضر معه لطيفاً، ولفت نظره بلطف ونسب
الضمير إلى الغائب [قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ] حتى يؤكد على ضرورة التمسك بشرطه
الأساس وهو المقدرة على التحكم في نفسه، والصبر على ما يراه من تصرفات
لأصحاب السفينة الذين أكرموهم وأركبوهم معهم مجاناً، فكيف يصح أن يخرق
الخضر سفينتهم مقابل إحسانهم إليه.
والظاهر أن موسى (عليه السلام) نسي فاعتذر [قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ
وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً] [الكهف: 73] ، قال القرطبي: (ففيه ما يدل على
أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف ولا يتعلق به ... حكم) [14] .
ولكن يثبت حق المتعاقد في إنذار الطرف المخل بشرط العقد ولفت انتباهه
للمخالفة؛ حتى يعود عنها ويقوم بتصحيح وضعه، ولكن بشكل لطيف لا يرهق
الطرف الآخر عسراً، ولكن يجعله ينتبه للمخالفة ويتدارك الخطأ فوراً.
2- أما الواقعة الثانية فكانت أشد استنكاراً، حيث رأى موسى (عليه السلام)
منكراً فأنكره فوراً: [فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ
نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قَالَ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً] [الكهف:
74 - 76] ، لم يكن موسى (عليه السلام) ناسياً هذه المرة، ولو نسي لاعتذر، ولكنه قصد إنكار المنكر؛ لذلك استلزم مواجهته بالخطأ من الخضر [قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً] ، خاطبه على وجه التحديد، فقد وقره في الأولى، ثم واجهه في الثانية لعدم العذر له، هنا تظهر عودة موسى وإقراره بالخطأ؛ لأنه خالف وعده مرتين فلم يعد له عذر، فاشترط على نفسه شرطاً جديداً [قَال َ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً] أي: قد أعذرت لك في ترك مصاحبتي لمخالفتي لك مرتين، قال ابن العربي: (يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقاً، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع) [15] ، قال القرطبي: (شرط هو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق شرط أن يوفّى به ما التزمه الأنبياء) [16] ، وهذا الشرط الجديد من موسى (عليه السلام) على نفسه هو شرط فاسخ للعقد، أو ما يسمى اليوم بالشرط الجزائي، لم يكن متفقاً عليه بينهما في أول العقد؛ لذلك جاء في الحديث الشريف عن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً) [17] .
3- المخالفة الثالثة التي أدت إلى فسخ العقد بدون إنذار: [فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا
أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ
فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ] [الكهف:
77، 78] ، فهذا وقت الفراق حسب قوله؛ لأن مجرد السؤال لثالث مرة موجب
لعدم المصاحبة وفسخ العقد فوراً؛ لتحقق الشرط الفاسخ بدون إعذار أو إنذار
للطرف الآخر، ويتجلى مدى الأدب النبوي من موسى (عليه السلام) في عدم
الإلحاح أو طلب العذر مرة أخرى، بل رضي بتطبيق الشرط عليه وفسخ العقد؛
لأنه قبل بشرطه الذي اشترطه على نفسه كما قال ابن حجر: (دلالة العمل بمقتضى
ما دل عليه الشرط، فإن الخضر قال لموسى (عليه السلام) لما أخلف الشرط: ... [هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ] ولم ينكر موسى (عليه السلام) ذلك) [18] .
رابعاً: فسخ العقد:
والمقصود من انحلال العقد هو: زوال الرابطة التعاقدية التي تربط المتعاقدين
بموضوع العقد، وهناك عقود لازمة بحق الطرفين كالبيع والإيجار، فسخها
كإنشائها، لا يكون إلا باتفاق الطرفين، وكل العقود قابلة للفسخ إلا النكاح والطلاق
والعتاق، وأما العقود غير اللازمة بحق الطرفين كالشركة والوكالة فإنها تنفسخ
برغبة كل واحد من طرفي التصرف، مثل العقد الذي كان بين موسى (عليه
السلام) والخضر فهو عقد غير لازم، لذلك جاز للخضر فسخه بسبب تحقق الشرط
الفاسخ من موسى (عليه السلام) ، ويعتبر هذا الفسخ الاتفاقي للعقد مقبولاً شرعاً،
بحيث يجعل الطرفان بينهما مدة محددة أو سبباً محدداً ينفسخ العقد بعده، مثل: أن
يقول: إن أتممت لك العمل الفلاني خلال ثلاثة أيام فأستحق أجرتي، وإلا فلا
أستحق شيئاً، فإن لم يتم العمل في المدة المحددة كما اشترط على نفسه اُعتبر العقد
مفسوخاً من تلقاء نفسه بسبب وقوع الشرط الفاسخ، ولذلك: لم يحتج الأمر إلى
إعذار أو مواجهة لموسى (عليه السلام) بالخطأ الثالث عندما وقع منه، وهناك حالة
أخرى تسمى الانفساخ، وتكون في حالة استحالة تنفيذ العقد، مثل: هلاك عين
المبيع قبل تسليمه، أو موت أحد الشريكين في عقد الشركة أو المضاربة [19] .
خامساً: آثار فسخ العقد:
المبدأ العام في نتائج انحلال العقد سواء بالفسخ أو الانفساخ: أنه يوجب إعادة
العاقدين إلى سابق وضعهما قبل التعاقد، ولكن يجب أن يرد كل طرف ما عليه
للطرف الآخر، فإذا كان الفسخ في عقد البيع وجب التراد، فعلى البائع إعادة الثمن
وعلى المشتري رد المبيع، وفي قصتنا: نرى مقابلة الأدب النبوي من موسى
(عليه السلام) بالوفاء من الخضر له بالشرط الأساس بالتعليم حتى بعد فسخه للعقد ... [قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَاًوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً] [الكهف: 78] وقص عليه أسباب الحوادث الثلاث، وأنها كلها تمت بأمر الله (عز وجل) ، لذلك
قال (عليه الصلاة والسلام) : (رحم الله أخي موسى وددت أنه صبر حتى يقص الله
علينا من أمرهما، ولو لبث مع صاحبه لأبعد العجب) [20] .
ويعتبر تنفيذ الخضر لشرط التعليم بالرغم من فسخ العقد المبرم مع موسى
(عليه السلام) ، يعتبر هذا أثراً من آثار العقد التي لا تنتهي أو لا تنقضي بانقضاء
العقد؛ لأن الخضر أوجب على نفسه تعليم موسى (عليه السلام) وإن كان اشترط أن
يتم ذلك في التوقيت الذي يحدده هو نفسه [حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً] ، مثل عقد
الزواج الذي قد ينتهي بالطلاق أثناء حمل الزوجة ومع ذلك فإن ولادتها بعد الطلاق
لا تعني عدم صحة نسب المولود للزوج السابق، بل يعتبر منسوباً له، لأنه أثر من
آثار عقد الزواج الذي انقضى بالطلاق، ولا يحق للزوج إنكار النسب طالما جاء
الولد على فراش الزوجية؛ لحديث المصطفى: (الولد للفراش، وللعاهر ... الحجر) [21] .
أسأل الله (عز وجل) أن أكون قد وفقت في هذا البحث المتواضع بتوضيح
بعض الجوانب التعاقدية من واقع هذه القصة العظيمة المليئة بالدروس والعبر، والله
هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.