المسلمون في الاتحاد السوفييتي
منذ مدة ووسائل الإعلام على اختلافها تتناقل أنباء القلاقل وموجات الاحتجاج
العرقية التي تسود عدداً من جمهوريات ما يسمى بالاتحاد السوفييتي، ذلك «الاتحاد»
الذي يضم أكثر من مائة طائفة عرقية تتحدث بما لا يقل عن ثمانين لغة، وتكتب
بما يزيد على ثمانية عشر نوع من الحروف الأبجدية، وتدين بديانات شتى، بل إن
أتباع الدين الواحد متفرقون إلى عشرات الملل المختلفة، فملل النصارى- على
سبيل المثال لا الحصر -تربو على (152) ملة.
بنية غريبة تدفع للتساؤل حقاً؛ إذا كان هذا هو مدى التباين بين شعوب هذا
الاتحاد، فعلى أي من أسس الوحدة ينهض هذا الكيان إذاً؟ ! !
ولرب قاسم مشترك يجمع بين هذه الشعوب والنحل ألا وهو أمنية الفكاك من
هيمنة الماركسية الحمراء التي ابتليت بها منذ ما يربو على نصف قرن.
فمنذ ما يقارب العام ونصف العام وزعماء الكرملين يواجهون ظاهرة جديدة لم
يألفوها من قبل تمثلت في اندلاع أعمال الشغب ومظاهرات اتخذت من جمهوريات
لاتفيا، لتونيا، كازاخستان، أستونيا، أذربيجان، وأرمينيا مسرحاً لها، راوح فيها
المتظاهرون في مطالبهم بين مطالب بمنح مزيد من الحريات، إلى داع إلى حكم
ذاتي، إلى ثالث يطالب بانفصام تام عن هذا الاتحاد كما حصل في جمهورية
كازاخستان المسلمة في أواخر عام 1986م.
ولعل حديثاً عن شعوب غير مسلمة هناك لا يهمنا كثيراً - نحن المسلمين -
بقدر ما تهمنا أحوال إخواننا المسلمين في الجمهوريات المسلمة القابعة تحت نير
الشيوعية.
إلا أنه على الرغم من كل ما حدث في تلك الجمهوريات من خروج على
طاعة الكرملين؛ مما يمكن اعتباره نقطة انقلاب في منحنى هيمنة هذه
الإمبراطورية ونفوذها، غير أن الخطر الحقيقي في حسابات الرفاق في موسكو،
والذي قد يزعزع كيانهم؛ بل ويقوضه يوماً ما هو ذلك القادم من صوب جمهوريات
آسيا الوسطى المسلمة المبتلاة بحكمهم البغيض، ذلك الخطر المحدق المنبعث من
تشبث شعوب تلك الجمهوريات المستمر بدينها، على الرغم من محاولات حوالي
ثلاثة أرباع قرن من الزمن لثنيهم عن ذلك.
ولعل هذا هو السبب الذي دفع زعيم الكرملين الحالي إلى شن حملته الهوجاء
على المسلمين الملتزمين قبل ما يقرب من عام ونصف عند توقفه في جمهورية
كازاخستان وهو في طريقه إلى الهند، حينما شدد على ضرورة القضاء على كل
الظواهر الدينية (يقصد الإسلامية) والعمل جدياً على نشر الأفكار الإلحادية، كما
وجه اللوم إلى بعض الكبار من مسؤولي الحزب ممن وصفهم بالفشل في ترسيخ
مبادئ الحزب، والذين كانوا -على النقيض من ذلك - يساهمون في بعض
المناسبات الدينية، بل ويدعون إليها أحياناً. ولعل زعيم الكرملين يشير بخطابه
ذلك إلى ظاهرة اكتظاظ المساجد بالمصلين الآخذة بالاضطراد، لا سيما في المساجد
غير الرسمية، والتي غالباً ما يتخذها المسلمون في منازلهم وبشكل يصعب على
أجهزة الأمن مراقبتها.
وتسلك السلطات الشيوعية في محاربتها لهذه الظواهر مسلك الجد، فكثيراً ما
أُقصي مسؤولون كبار عن مناصبهم لأسباب بسيطة لا تتجاوز قيام بعضهم بإحياء
حفلات في مناسبات دينية، كمناسبة حلول شهر رمضان مثلاً! ولا تخفي السلطات
الشيوعية قلقها حيال تزايد معدل الولادات لدى المسلمين في هذه الجمهوريات والذي
قد يفوق مجموع معدل الولادات في باقي الجمهوريات مجتمعة - بما في ذلك روسيا - مع حلول نهاية هذا القرن، في الوقت الذي فشلت فيه كل الجهود التي بذلتها
الحكومة لإقناع الأمهات الروسيات - على وجه الخصوص - لزيادة الإنجاب إلى
أكثر من اثنين، علماً بأن معدل الإنجاب لدى الأمهات المسلمات تجاوز الخمسة،
وكثيراً ما تحوز أمهات مسلمات على جائزة الأمومة لإنجابهن عشرة أبناء. وتنبع
مخاوف الحكومة الروسية من كون أن كبريات مرافق الدولة وفي مقدمتها الجيش
والمؤسسات الاقتصادية آخذة في الاعتماد وبشكل مكثف على الشبان المسلمين في
إدارة شؤونها، هذا بالإضافة إلى أن نسبة بسيطة جداً من هؤلاء الشبان يحسنون
اللغة الروسية، في حين أن الغالبية العظمى منهم لا تأبه بتعلّمها على الإطلاق مما
يجعل أمر ولائهم للإمبراطورية الروسية موضع شك متزايد لدى الزعماء الروس،
في وقت تتناقص فيه نسبة الأغلبية الروسية في ما يسمى بالمجتمع السوفييتي بشكل
قد يهبط إلى مادون نسبة إلى 48% مع حلول عام 2000 م. في حين تشير
إحصائيات عام 1979 م أن عدد المسلمين في أنحاء الإمبراطورية قد جاوز الـ
43 مليوناً، وأنه مع حلول عام 2000 م سيشهد الاتحاد السوفييتي ولادة طفل مسلم
كل ثانية وهو ما يشكل نصف معدل المواليد لدى الطوائف الأخرى مجتمعة، وإذا
ما تذكرنا هذا الكم الهائل من المواليد لدى المسلمين وتذكرنا أن هؤلاء المسلمين
مازالوا - وبعد مرور أكثر من نصف قرن على احتلال روسيا لبلادهم - في معزل
شبه تام عن الجنس الروسي وباقي الطوائف، لاسيما في الجانب الاجتماعي من
حياتهم، وأن هؤلاء المسلمين مازالوا يكنون الود لإخوانهم في البلاد المسلمة
المجاورة كأفغانستان، ويتحمسون لظهورهم على أعدائهم، الأمر الذي يقلق موسكو
كثيراً؛ ارتسمت لدينا أبعاد القلق الذي يساور الشيوعيين حيال مستقبل
إمبراطوريتهم، كما تبين لنا خطورة الدور الذي يمكن أن يلعبه أولئك المسلمون -
لو اتحدوا - في تقويض صرح أكبر دولة استعمارية همجية عرفها العصر الحديث، والله غالب على أمره.