المسلمون والعالم
الاعتداء على السودان..
خلفية تاريخية
بقلم: د. جلال الدين محمد صالح
في تطور مفاجئ ومريب وجد السودان نفسه أمام هجوم عسكري مباغت يقوده
المتمرد الجنوبي (جون قرنق) وحلفاؤه الشماليون من الجبهة الشرقية، وتدعمه كل
من إثيوبيا وإريتريا التي أكّد رئيسها (إسياس أفورقي) في أكثر من تصريح له دعم
حكومته لكل عمل عسكري يسعى إلى إسقاط نظام الحكم في الخرطوم، بل وأتبع
ذلك خطوات عملية تمثلت في توحيد المعارضة السودانية تحت قيادة (جون قرنق)
في (أسمرا) ، وإتاحة مجال التدريب العسكري لمجنديها، وتزويدها بكافة التسهيلات
الإعلامية والتحركات السياسية اللازمة، هذا غير ما يقوم به هو شخصيّاً في
المحافل الرسمية من اتهام السودان بتصدير الإرهاب، وإيواء المتطرفين، فماذا
وراء هذه التحالفات المشبوهة التي يرعاها (إسياس أفورقي) ويتقدم مسيرتها؟ .
للإجابة على هذا: لا بد من العودة إلى الوراء واستقراء التاريخ؛ حتى
تتضح الرؤية، وتكتمل الحلقة، وإلا فمن الصعب تحليل أحداث اليوم بمعزل عن
وقائع الأمس، ذلك أن أحداثاً كهذه لا يمكن أن تكون وليدة الساعة وليس لها جذور
تاريخية، ولا ارتباطات خارجية.
أمور لا بد من إدراكها: وما يحدث حالياً في القرن الإفريقي بعامة، وفي
السودان بخاصة لن يتم تحليله بشكل صحيح في نظري على الأقل إلا في إطار هذه
الرؤية الشمولية، ومن هنا: فإذا أردنا أن نعرف حقيقة الأحداث الماثلة أمامنا في
هذه المنطقة الحيوية من العالم لزمنا إدراك ما يلي:
أولاً: أهمية موقعها الاستراتيجي.
ثانياً: دورها الإقليمي والدولي في الصراعات العقدية، والاقتصادية.
ثالثاً: الصبغة الحضارية المتفاعلة فيها.
ولبيان ذلك: أرى ضرورة عرض شيء مما شهدته المنطقة قديماً ولو بشكل
مقتضب من صراعات ضد النفوذ، وفرض الهيمنة، فإن ذلك يعيننا على ربط
الأحداث بعضها ببعض، وفهمها على نحو متكامل.
تعود أهمية هذه المنطقة إلى أهمية وجود البحر الأحمر، حيث ميناء
(مصوع) و (عصب) في إريتريا، و (بربرة) في الصومال، و (بورتسودان) ، ... و (سواكن) في السودان، ثم ميناء (جيبوتي) ، وكلها موانئ إسلامية مربوطة ومتصلة
بميناء (جدّة) ، والسواحل اليمنية، الأمر الذي يَسّر ولوج الحضارة الإسلامية إليها
منذ وقت مبكر، وربط أهلها بمنابع الثقافة الإسلامية عبر التواصل مع منائرها
العلمية: (الحرمين الشريفين) في بلاد الحجاز، و (زبيد) في اليمن، و (الأزهر)
في مصر، حتى كان من ثمار ذلك: بروز علماء أفاضل يحملون قسطاً من هَمِّ
الرسالة الإسلامية، ك (جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي) ، صاحب كتاب
(نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية) ، و (عبد الرحمن الجبرتي) صاحب
التاريخ المشهور بـ (تاريخ الجبرتي) ، والإمام المجاهد (أحمد قران 1506 - 1543 م) الذي أرخ لفتوحاته (شهاب الدين أحمد الجيزاني) في كتاب له سماه (فتوح الحبشة) .
ولقد مات الإمام المذكور مقتولاً برصاص البرتغاليين الذين استنصر بهم الملك
الحبشي آنذاك في صراعه مع المسلمين، ومنذ ذلك الحين ارتبطت سياسات الحبشة
بسياسات الأوروبيين وأطماعهم، ففي عام 1510م كتبت (هيلينا) التي تولت حكم
الحبشة (من عام 1508 1540م) إلى (عمانويل) ملك البرتغال تقول: (السلام على
عمانويل سيد البحار، وقاهر المسلمين القساة الكفرة، تحياتي إليكم، ودعوتي لكم،
وصلتنا رسالة من قائد أسطولكم في بحر الهند؛ ليدافع عن عقيدة المسيح، ونحن
على استعداد لمنازلة أولئك الكفار بإرسال أكبر عدد من جنودنا في البحر الأحمر،
أو إلى مكة وجدّة، لنقضي قضاءً تامّاً على جرثومة الكفار) (?) .
وفي عام 1520م أبرم حكام الحبشة وثيقة عهد وتحالف مع الدول الأوروبية،
ترجمت إلى جميع اللغات الأوروبية، ونصت على توزيع مناطق النفوذ على النحو
التالي:
(يحتفظ ملك فرنسا بقوة عسكرية في (سواكن) ، ويمتلك ملك أسبانيا (زيلع) ،
ويتخذ ملك البرتغال من (مصوع) قاعدة لقواته، وأن تعمل هذه الجيوش ومعها
قوات حبشية على غزو جزيرة العرب مهد الإسلام، وطرد الأتراك المسلمين من
مصر وغيرها، وأن تمد الحبشة قوات حلفائها بما تحتاجه من رجال، وطعام،
وأموال؛ حتى يتم تحقيق هذه الأهداف) (?) .
وكشف جاسوس فارسي يدعي (نور الدين علي تبريزي) قبض عليه المماليك
في مصر أن: (نجاشي الحبشة أرسله إلى ملك الفرنجة يدعوه إلى الانضمام إليه
لسحق الإسلام، ورفع لواء المسيحية بأن يغزو مصر من ناحية البحر، في الوقت
الذي تغزوها فيه جيوش الحبشة من ناحية البر) (?) .
وكان من أهداف القادة البرتغاليين: (تحويل مياه النيل إلى البحر الأحمر
لحرمان مصر من ري أراضيها، وتخريب شبكة الري التي كانت قائمة فيها) (?) .
ولما جاء (منليك الحبشي 1865 1913م) ساند بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا
في جهودهم الرامية إلى الاستيلاء على السواحل الصومالية (?) .
وفي عهد الإمبرطور (هيلا سيلاسي) ازداد هذا التواصل صلابة حتى إن
عضو الكونجرس الأمريكي (هنري س. ريوس) قال: (كان الجيران المسلمون هم
الأعداء التقليديون للملكة الإثيوبية، ومنذ القرن الخامس والأباطرة الإثيوبيون
يتمسكون بالمذهب النصراني القبطي، وكانوا في حروبهم الواحدة تلو الأخرى
يدافعون عن الإمبراطورية ضد الغزاة المسلمين المحتلين، وقد كان معظم القتال
يدور بالقرب من الساحل الشمالي فيما يسمى اليوم إريتريا) (?) .
حقائق على ضوء التاريخ:
من خلال هذا العرض التاريخي يمكن أن نصل إلى تقرير ما يلي:
أولاً: أن هذه المنطقة هدف مقصود من الغرب لتقويض الوجود الإسلامي
ومحاصرة نفوذه، وأن صراعهم مع المسلمين فيها قديم، قدم اكتشاف أهميتها
عندهم.
ثانياً: أن الهيمنة عليها من الطرف المعادي يشكل تهديداً أمنيّاً، واقتصاديّاً
لمن حولها من الدول الإسلامية، ويعدّ أيسر الطرق إلى إخضاعها لسياسات معينة.
ثالثاً: أن تحقيق ذلك لا يتم إلا من خلال ربط الحكام المتعاقبين على الحبشة
بمشاريع الحضارة الغربية، ومن هنا: كان عزل الكنيسة الحبشية بإيعاز من
بريطانيا الملك (ليج إياسو 1913 1917م) الذي أعلن إسلامه (?) ، وتنصيب
(زوديتو (ابنة (منليك) مكانه، وهي التي ورث عنها العرش الإمبراطور (هيلا
سيلاسي) الذي استمر حتى عام 1974م، وهو العام الذي تحولت فيه إثيوبيا إلى
نظام ماركسي متحالف مع الكتلة الاشتراكية تحت زعامة ما كان يعرف بـ (الاتحاد
السوفياتي) سابقاً، ثم لم تلبث أن عادت إلى سيرتها الأولى بعد انتصار ثورة
(التجراي) بقيادة (ميلس زيناوي) ، و (إسياس أفورقي) على نظام (منجستو هيلا
ماريام) بتأييد من الغرب الرأسمالي.
فمن هو (ميلس زيناوي) ، ومن هو (إسياس أفورقي) ، وما العلاقة بينهما؟ .
(ميلس زيناوي) : هو زعيم الجبهة الشعبية لتحرير (التجراي) ، ينحدر من
قبيلة (التجراي) المجاورة لإريتريا شمالاً، التي منها الملك (يوحنا الرابع) (?)
1872 1889م، قتيل الحركة المهدية [*] في معركة (المتى) على الحدود
السودانية الإثيوبية، ترأّس (ميلس زيناوي) التحالف الذي أسقط (منجستو هيلا
ماريام) وخلفه في حكم الحبشة.
إمّا (إسياس أفورقي) : فهو حاكم إريتريا الحالي، التحق بالثورة الإريترية في
الستينيات بعد أن قطع دراسته الجامعية في (أديس أبابا) ، وابتعثته الثورة الإريترية
إلى (بكّين) ليعود بعد ذلك ويساهم في تأسيس حزب ماركسي (?) يمتطيه إلى
غاياته، كتب وثيقته (نحن وأهدافنا) منذ فجر التحاقه بالثورة، أبرز فيها نزعته
الشعوبية المعادية (للعرب) و (الإسلام) ، وقد تمكّن من أن ينفرد بقيادة (الجبهة
الشعبية لتحرير إريتريا) ويوجهها نحو أهدافه.
والعلاقة بينه وبين حليفه (ميلس زيناوي) تتمثل فيما يلي:
أولاً: أنهما يشتركان في اللغة، والعادات، والدين، والانتماء القومي،
ويتجاوران في الموقع الجغرافي.
ثانياً: يجمع بينهما حلف سياسي مدعوم من الغرب وإسرائيل، وضعا نواته
الأولى وهما في الأدغال، ويقوم على توطيد حكم الأقلية (التجرانية) في إثيوبيا،
وإريتريا.
ثالثاً: يرتبطان بإسرائيل تمام الارتباط، وينسقان معها في رسم سياساتهما،
التي محورها معاداة الوجود (العربي) و (الإسلامي) في المنطقة.
كان من آثار تحالفهما: الانقضاض المبكر على جبهة تحرير إريتريا (?)
عام 1981م وإجلاؤها إلى السودان؛ باعتبارها تمثل الوجه العربي، وتنتمي إلى
جذور إسلامية، والآن يعملان بعد وصولهما إلى السلطة بدعم من القوى الصليبية
والصهيونية للحيلولة دون نهضة المشروع الإسلامي في المنطقة، سواء أكان في
السودان أو غيره، ويحاولان إعادة تشكيل السودان على النحو الذي يتفق مع
أهدافهما ومخططات حلفائهما، إدراكاً منهما لدور السودان، المتميز في نشر الثقافة
الإسلامية ولغتها العربية في إفريقيا الشرقية، وحيث إن (جون قرنق) هو العدو
التقليدي للوجود العربي والإسلامي في السودان؛ فإنه أنسب من يحمل هذا المشروع
بحماس وإخلاص؛ ومن هنا: جرى تنصيبه قائداً عسكريّاً يقود الهجوم حالياً على
السودان، وانتصاره يعني بالنسبة لهما تأمين خلفيتهما بالقضاء على مشروع
حضاري منافس ومغاير لمشروعهما، ويحكم من قبضتهما على من تحتهما من
الشعوب الإسلامية، ويجعل من الثلاثة غصة في حلقوم الدول الإسلامية المجاورة،
ويكون لهم أيضاً وزنهم في ترتيب الوضع الأمني، والاقتصادي للمنطقة.
أما الزعيمان الشماليان: (الصادق المهدي، ومحمد عثمان الميرغني) ، فإنهما
على الرغم مما يعرفانه عن (جون قرنق) وحقده عليهما، وخروجه على نظامهما:
فقد رضيا الانضواء تحت لوائه، ومعلوم أن تحالف (جون قرنق) معهما ينتهي
بانتهاء غاياته، فهو تحالف مرحلي، والعجيب أن (إسياس أفورقي) حامي هذا
التحالف وراعيه، الذي لجأ إليه الصادق المهدي وصف حكومة الأخير بعدم الأهلية
للمساهمة في حل المسألة الإريترية عندما سئل عما يمكن أن يقوم به السودان في
ظل حكومة (الصادق) إزاء حل القضية الإريترية، بل وبكل تحدٍّ ودون إشعار
حكومة الصادق تجرأ (إسياس أفورقي) على عقد اجتماع مع الرئيس الأمريكي
الأسبق (جيمي كارتر) لمدة ساعة على متن طائرته في مطار الخرطوم حول
تطورات القضية الإريترية عام 1989م، وكان هذا اللقاء أول خطوة في الطريق
إلى (أتلانتا) التي شهدت تحت رعاية (جيمي كارتر) اجتماع وفد القيادة الإثيوبية
والإريترية، هذا اللقاء الذي تمخض عنه إدانة (منجستو) وتحميله فشل كل المساعي
السلمية، وإضفاء وسام (الوطنية) (?) على جبهة (إسياس أفورقي) الذي توج
أخيراً حاكماً على إريتريا بعد لقاء لندن الذي ضمه مع (ميلس زيناوي) و (هيرمان
كوهين) رئيس دائرة القرن الإفريقي وقتها في وزارة الخارجية الأمريكية، وتعاقد
فيه الثلاثة على المضي قدماً ضمن استراتيجية التحالف التي كان منها استيلاء
القوات الإريترية على جزيرة (حنيش الكبرى) ، وتهديد أمن اليمن بأسلوب، قد
يكون من بين أهدافه وضع فخ قصد به اصطياد اليمن بإقحامه في حرب منهكة
ومهلكة، فضلاً عن الهيمنة على الجزيرة.
الخطر يهدد مصر أيضاً: وليست (مصر) أيضاً بمنجاة عن أهداف هذا
التحالف، بل هي في أولويات أهدافه، ولكن من خلال بعثرة أمن السودان
وإسقاطه في وحل الصراعات العسكرية، حتى يؤول على الأقل إلى ما آل إليه
الصومال، وهذا في حد ذاته مكسب للأهداف الصهيونية، وإضعاف لمصر من
خلال تطويقها باضطرابات أمنية، أو أنظمة حكم مناقضة لهمومها الثقافية
والسياسية، والاقتصادية، ووقتها ستجد (مصر) نفسها مهددة في ثروتها المائية
النابعة من النيل، والتي بدأت إسرائيل من الآن بالتعاون مع إثيوبيا في بناء سدود
حولها من أجل تصريفها إلى منافع مشتركة بينهما، وقد أبدت مصر فعلاً قلقها
وقدمت احتجاجها، واستفسارها عن هذا النشاط.
بل إن تحييد (الصومال) بإغراقه في مشكلاته لا يبعد عن أهداف هذا التحالف، إذ نرى النظام الإثيوبي يستبيح بيضته، وينتهك حرمته لضرب ما أسماه
بالعناصر الإرهابية المتطرفة، ونرى (إسياس أفورقي) يؤيد هذا الانتهاك ويباركه،
وفوق ذلك: يرتب لقاءً بين السفير الإسرائيلي بأسمرا (أريل كريم) ونائب رئيس
ووزير خارجية ما عرف (بجمهورية أرض الصومال) ، وقد نصح السفير الوفد
بتحرير خطاب إلى (إسحاق رابين) رئيس الوزراء في حينه، وقد حرر الخطاب
فعلاً إلى (رابين) في 3 يوليو 1995م، موقعاً من (محمد إبراهيم عجال) الرئيس
المنصّب لهذه الدولة المزعومة، وتَضَمّن تخويف (إسرائيل) من خطر (التأثير
الإسلامي الذي يهدد المنطقة بأكملها) على حد تعبيره، وتعهد بأن يجعل من
جمهورية أرض الصومال (حصناً ضد انتشار الأصولية الإسلامية) .. كل ذلك بعد
أن بين أن هذا الخطاب حرر بناءً على نصيحة السفير (أريل كريم) سفير إسرائيل
لدى إريتريا (?) .
هذه هي خلفيات الهجمة العسكرية على السودان، فهل سنبكيه كما بكينا الأندلس من قبل؟ ، وهل نحن أيقاظ أم نيام؟