قصة قصيرة
بقلم: د. مجدي الطويل
[وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحَافِرَةِ]
آيات سمعها المُلحن الكبير في المذياع فإذا جَرْس نبراتها يأسر تفكيره، وإذا به
يدندن بها، وتتقاذف (الجمل الموسيقية) في رأسه.. ويتمتم: عظيم.. عظيم!
اجتمع في النادي مع (شلته) المفضلة.. صحفي كبير، نائب رئيس تحرير
جريدة (التنوير) ، وكاتب، وشاعر، وموسيقي.. أخذ يحدثهم عن المشروع الذي
ينويه: تلحين مقدمة سورة النازعات بجرسها الموسيقي الخطير.. فإذا بهم ينهالون
عليه بالثناء.. رائع، إنك لقادر على تلحين الكلام العادي فما بالك بكلام القرآن! !
.. سوف تضيف جديداً للقرآن! ! .. إنه التفسير الموسيقي للقرآن! ! ، ولسوف
يخلدك التاريخ! .. إنك لرائد من رواد التنوير بهذا العمل الضخم، ولسوف تنقل
الأمةَ من الجمود والتخلف إلى النورانية والعالمية.. وانهالت عليه كلماتهم بالمديح
.. انتفخت أوداج الرجل وَشرَع في تركيب الجمل الموسيقية.. والنّااازعاات ...
وشرد في جُملِه عنهم، فاستأذنوه، وقال له الصحفي: سوف أنشر الخبر، إن هذا
عمل حضاري كبير.
ومرت الأيام على الملحن وهو حابس نفسه بين جدران معمله الموسيقي في
منزله الهادئ.. وأخذ يلحن، ثم يعيد التلحين، وقد استجمع كل مهارات صنعته..
إنه القرآن العظيم، أعظم النصوص وأقدسها.. فيجب أن يكون العمل على هذا
المستوى.... يجب أن تكون الموسيقى معبّرة عن الجلال والمهابة والغموض ... والقدرة..
قطع الهاتف حبل أفكاره.. قرأت أنك ستلحن مطلع سورة النازعات، عمل
رائع، لو أخذته منك سيكون رصيداً طيباً لمجموعتي الدينية! .. واستمرت المغنية
المشهورة تخاطبه، واسترسلت: لن يستطيع أحد غيري أداء هذه المعاني.. سوف
أبهر بها الجمهور.. وقاطعها قائلاً: سوف أفكر.. ما زال الأمر في بدايته..
واتصل به آخر، كاتب تنويري كبير: إن عِمَم الأزهر سوف تُهاجمك.. لا
تبال فهم جامدون وكلنا نقف وراءك نؤازرك، إنهم لا يفهمون عظمة هذا الدين
وسماحته، إن ما تفعله الآن سوف يخرج منه طاقة هائلة بلغة العصر.. سوف
يخلدك التاريخ كما خلد كبار الموسيقيين الذين لحنوا للكنيسة، إنه عمل متأخر قليلاً، ولكنه يجب أن يبدأ.
ردّ عليه بالشكر وأنّ الأمر لا يأخذ عنده كل هذه الأبعاد، فكل ما يفكر فيه هو
استغلال الجرس الموسيقي الموجود في كلمات القرآن! ! وأنه سيحاول المحافظة
على ذلك بالجمل الموسيقية اليسيرة التراكيب والعميقة المعنى ذات التأثير في
الشعور والوجدان.
اتصل به آخر من الملحنين الذي حذره من غلبة التجريد على الموسيقى دون
التطبيق الواقعي من الموسيقى الشعبية.. وعده أنه سيبذل قصارى جهده وأنه يعتبر
نفسه في صلاة وعبادة! .. وطلب منه الدعاء.
ملّ الرجل بيته قبل الفجر بقليل فقرر أن يذهب إلى الناس حيث أَلِفَ ذلك
دائماً.. قرر الذهاب إلى منطقة الأزهر؛ حيث الزحام الشعبي الذي يستوحي منه
موسيقاه الشعبية في أعماله.. وبعد قليل وجد نفسه في أحضان المنطقة.. رائحة
البخور الندية تملأ الصدور وشواهد التاريخ القديم تضفي الغموض والراحة على
النفس.. اختفى بين الناس ومع الناس.. يستوحي هذه المنطقة القديمة بسحرها
الغامض وتراثها القديم.. وأخذ ينظر إلى الأزهر من بعيد بأحجاره ومآذنه وشموخه
المعماري الفريد.. وأُذّن لصلاة الفجر، وكان هذا هو ميعاد انصرافه.
همّ بالانصراف لولا أن قابله صديق قديم متجه إلى الأزهر، أخذه بالأحضان
.. أين أنت يا رجل؟ .. مَرّ عُمْر.. ولكن أخبارك عندنا.. اسمك يملأ وسائل
الإعلام.
أنت؟ .. وأين أنت الآن؟ ..
أنا مدرس للشريعة في جامعة الأزهر، تزوجت وعندي أولاد، وحالي طيبة
والحمد لله، هيا بنا قبل أن تضيع علينا الصلاة..
تردّد المُلحن وتلعثم.. ولكن الصديق القديم جذبه كما كان يجذبه في الماضي:
هيا يا رجل حتى لا تضيع منك الجوهرة.. وبحد الحياء ذهب معه.. توضأ،
ودخل المسجد..
كم مر عليّ من زمن لا أصلي؟ .. يا الله! .. زمن طويل.. الأزهر بديع
في الفجر.. وهذا الباب الحجري الضيق الذي يكاد ينكتم فيه نفسك ثم تعبره لتجد
رحابة في فناء المسجد الواسع المترامي الأطراف.. وكأنك قد تحررت من قيودك
وقيود المجتمع والناس..
شعر بارتياح كبير، وقال لنفسه: هذه هي الحالة المثالية لتلحين المشروع..
ليتني آخذ ركناً هنا.. وقطع صوت الإقامة عليه تفكيره، وجذبه صديقه ليقوم
للصلاة.. الله أكبر، واستمع إلى الإمام: [وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ ... نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً.... .] .
انتبه الملحن إلى الكلمات.. أي قَدَر هذا.. وترددت الكلمات في جنبات
المسجد الرحب وانعكست جميعها في آذانه الصاغية.. أي مهابة وأي غموض وأي
جلال.. واشتغل اللحن في رأسه وتداخل مع الألفاظ القرآنية تصارعه ... ويصارعها.. جذبه صاحبه للركوع ثم للسجود.. هكذا حتى انتهت الصلاة.
نظر إليه صاحبه بعد الصلاة في شفقة ومحبة.. وقال له: أين كنت؟ ، ما
هذا الذهول البادي على وجهك.. فرد عليه: لقد كنت أصلي! .. فتعجب صاحبه
من الرد الغامض.. ولاحقه الملحن: أتعرف تفسيراً لما قرأه الإمام؟ .. ابتسم
صاحبه وصمت هنيهة من الزمن، ثم قال: (النازعات غرقاً) : هي الملائكة تنزع
نفوس بني آدم بشدة، (والناشطات نشطاً) : هي الملائكة تنشّط نفس المؤمن
فتقبضها، (والسابحات) : هي الملائكة تَسْبح وتُسبّح في الفضاء الكوني كله،
(والسابقات) : هي الملائكة التي سبقت الإنسان لعبادة الله الواحد القهار،
(والمدبرات أمراً) : هي الملائكة المُدبرة لما أُمِرَت به من أوامر الله (سبحانه
وتعالى) ..
قال الملحن: إذن، فالحديث عن الملائكة؟ !
قال له صاحبه: نعم، فهم خلق الله الذين لا يعصون له أمراً.
إنه حديث نادر لا يأتي إلا من عند الله؛ فهو وحده القادر على وصف أعمالهم، ومن يستطيع أن يخبر بذلك غيره؟ ..
انتبه الملحن لهذا التفسير وازدادت نفسه تشوقاً لمعرفة المزيد من المعاني..
زاده صاحبه واصفاً مشاهد نهاية الدنيا، والبعث، والنشور..
تعجب الملحن وازداد ذهوله.. يا له من حديث.. أي صورة هذه؟ .. أي
غموض؟ .. ملائكة لا ندري عن خلقهم شيئاً، يروحون ويجيئون في هذا الكون
الفسيح، ثم هذا اليوم العظيم بهذه الصورة المخيفة المرعبة..
وتابع صاحبه: يا صديقي، إنه يوم عظيم، يجب أن يعمل له العاملون..
والله لو أننا عبدنا الله صلاةً وتسبيحاً، وجاهدنا صباحاً ومساءً ما ضمنّا ماذا ... يُعمل بنا في هذا اليوم؟ ... وسأل الملحن في شغف: أين أستطيع أن أجد هذا التفسير؟ .. ودلّه صاحبه على مكانه.. واستأذن الملحن وقد بدى عليه الإجهاد من يوم طويل حافل.. وانصرف إلى بيته.
عكف الملحن على كتاب التفسير وانشغل مع الصور والمعاني التي يحفل بها
النص الذي يريد تلحينه.. ووجد نفسه يعرج إلى القرآن من أوله.. علّه يعطيني
إلهاماً لمشروعي! .. وبدء فيه: [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ..] ، [الّم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ..] .
[اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَاًخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الأَرْضِ ... ] .
[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ... ] ، [وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ..] .
[أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ..] .
[لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... ]
[اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَاً وَرَبُّكَ
الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ ... لَيَطْغَى..] .
وقرأ: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] .
تملّكته التلاوة والمعاني والصور أياماً انقطع فيها عن العالم.. العالم الذي
ينتظر منه ولادة المشروع العظيم.. التفسير الموسيقي للقرآن.. وحاول العودة إلى
ما بدأه ولكنه استحقر ما دار بخلده.. استرجع أعمال الموسيقيين في الترانيم ... الكَنَسيّة.. فلم تلهمه معاني تتقارب إلى ما يشعر به من جلال ومهابة وخوف ووَجَل ورجاء وتمنّي وحسرة وندم وإشراق واستمتاع حسّي وذهني..
ما الذي سأضيفه للبشرية؟ .. وكيف أستطيع أن أعبر عن ذلك كلّه؟ .
شعر بالعجز.. بل شعر أنه يتجرأ على الله.. ودبّ الخوف في قلبه، فقطّع
كلّ ما كتبه وأحرق تسجيلاته.. ثم توضأ وانغمس في صلاة طويلة طوال الليل،
وقرأ فيها: [وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ... ] .