مجله البيان (صفحة 2414)

حوار مع.. حول مرجعيات الاستشراق المعاصر

البيان الأدبي

حوار

حوار مع د. حسن الأمراني

حول مرجعيات الاستشراق المعاصر

أجرى الحوار: محمد بن عمر

توطئة:

تعد ظاهرة الاستشراق من أبرز الظواهر الثقافية التي تبقى مفتوحة للسؤال

والقراءة؛ لأن أغلب الأسئلة التي تؤسس هذه الظاهرة الثقافية هي من نوع الأسئلة

التي يغلب عليها طابع الإثارة والإغراء بالمتابعة.

لكن أكثر أسئلة الاستشراق إثارة واستفزازاً هي تلك الأسئلة التي اختارت

التعايش مع لحظة السقوط الحضاري وتجربة الانهيار الغريب التي عاشتها الأمة

الإسلامية.

لقد كانت نية الاستشراق من هذا التوجه: العمل على تكريس هذه التجربة

واستمراريتها في نسيج الثقافة الإسلامية المعاصرة.

فالاستشراق توجّه خاصة إلى ثقافة السقوط، وبالمقابل أغفل ثقافة البناء، كل

ذلك تحت غطاء البحث العلمي والفضول الفكري والمعرفي.

إنه انطباع أولي استخلصناه من نص الحوار الذي أجريناه مع الدكتور (حسن

الأمراني) [1] الذي أنجز عملاً جامعيّاً اختار له عنوان: (المتنبي في كتابات

المستشرقين الفرنسيين) [2] ، وقد أثار في هذه الدراسة كثيراً من القضايا التي تمس

الاستشراق بشكل مباشر، ومن أهم هذه القضايا: الاستشراق: الموضوع، المنهج، المرجع، ...

ومن أهم المحاور والقضايا التي تستوقف الباحث والقارئ لهذا البحث: قضية

اشتغال الاستشراق الفرنسي بشعر وأدب المتنبي، من حيث هو لحظة تاريخية

وحضارية تعبر عن السقوط والانهيار، وتنشد البناء، وتبحث عن السبل الكفيلة

بالخروج من هذا السقوط والانهيار الحضاري.

وهذا الاعتناء بهذه اللحظة بالذات، أدى بالاستشراق إلى إغفال الجوانب

الأخرى المُشَكِّلة لأدب المتنبي، خاصة الفني ... وهذا الإغفال له ما يبرره إذا

أدركنا النوايا والخلفيات التي كانت توجه قراءة المستشرقين للتراث العربي

الإسلامي..

وهذا نص الحوار:

أ- من الأفكار التي راجت كثيراً في فضائنا الثقافي مؤخراً: فكرة نهاية

الاستشراق؛ لأن المعطيات الثقافية والحضارية التي كانت من وراء نشأة هذه

الظاهرة لم تعد مستمرة في هذا الفضاء، وهذا ما حَوّل الاستشراق من ظاهرة ثقافية

إلى ظاهرة تاريخية.. ما هو تعليقكم على هذا الفهم؟ .

- قد ينتهي الاستشراق مصطلحاً، ولكنه لا ينتهي فكرة، ولعله اليوم أشد ما

يكون ارتباطاً بالمؤسسات الغربية وخدمة لمصالحها، فمنذ نشأة الاستشراق كان همه

المعرفة المرتبطة بالغلبة والهيمنة، ولئن كان في فترة من الفترات مرتبطاً أشد

الارتباط بالكنيسة، ولا سيما منذ قرار مجمع (فيينا الكنسي، 1311م 1312م) ،

فإنه ما فتئ يغير جلده دون أن يغير أهدافه ومقاصده.

إن المستشرقين كانوا أول من دعا إلى تدمير آليات الاستشراق التقليدي؛

لشعورهم بأنه استنفذ أغراضه، ولا بد له إن أراد أن يستمر في الحياة من أن يغير

أدواته، وتلك كانت الأغراض من وراء صيحة (ماكسيم رودنسون) ، إن عزوف

المستشرقين منذ فترة عن هذا المصطلح، ورفضهم أن ينعتوا به، واكتشافهم بدائل

أخرى ك (الاستعراب) .. لم يكن الهدف من ورائه الدقة العلمية كما يريدون أن

يوهمونا بذلك بقدر ما كان تخلصاً ممّا يحمله المصطلح القديم من ظلال استعمارية

وتحكمية.

وإن وجود فئة من المستشرقين المعتدلين أو الموضوعيين أو حتى المتعاطفين

مع القضايا الإسلامية لا ينفي القاعدة بقدر ما يؤكدها، لأن أولئك يمثلون استثناء،

والشاذ لا حكم له كما يقال.

وهل يشك عاقل في أن الذين يخدمون (الإمبريالية الغربية) تحت اسم

(الخبراء) هم مستشرقون من نوع جديد؟ ، إن ما قدّمه (برنار لويس) وأضرابه

مثلاً لا يقارن بما قدمه أسلافهم.

ب -الدكتور حسن الأمراني: لقد أنجزتم أطروحة جامعية حول الاستشراق

الفرنسي وكلفكم هذا الإنجاز زيارة كثير من مكتبات فرنسا، نود أن تقدموا للقارئ

أهم المستويات المعرفية التي تؤسس الاستشراق الفرنسي وتميزه عن غيره من

أنواع الاستشراق.

- يجب ألا ننسى أن فرنسا وبريطانيا تمثلان حالة متفردة في علاقتهما بالعالم

الإسلامي، فهما (الإمبراطوريتان) الاستعماريتان اللتان بسطتا سلطانهما على معظم

العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من هذا القرن،

كما أن ماضيهما مرتبط أكثر من غيرهما من دول الغرب بالحروب الصليبية،

ولذلك: كانت العلاقة بين هاتين الدولتين والعالم الإسلامي علاقة احتكاك حربي

وتدافع ومغالبة أكثر مما كانت علاقة تواصل حضاري.

ولقد انعكس هذا الإرث الثقيل على التراث الاستشراقي لهما، ولذلك: تجد أن

الذين يصنفون عادة ضمن المتعاطفين مع التراث الإسلامي من المستشرقين، من

أمثال (ماسينيون) كانوا من أشد الناس ولاءً للفكر الاستعماري، ولذلك: كان

(ماسينيون) نفسه مستشاراً لشؤون الاستعمار، كما إنه كان من أشد الدعاة إلى إحياء

اللهجات المحلية في البلدان الإسلامية وإحلالها محل العربية، أي إنه كان يدفع

ببحوثه وكشوفاته في اتجاهين اثنين لا يتعارضان في نهاية المطاف: الاتجاه الأول

هو: تمجيد الشخصيات الفلسفية في تاريخ الإسلام وبعثها نموذجاً ومثالاً ينبغي أن

يحتذى، والاتجاه الثاني: تشجيع النزاعات التفتيتية والتفكيكية داخل المجتمع

الإسلامي، فما بالك إذا تجاوزنا (ماسينيون) إلى سواه من المستشرقين المعروفين

بعدائهم السافر للمجال الحضاري الذي يتخذونه مرتكزاً لدراساتهم.

أما المعتدلون منهم، من أمثال (جيل كيبل) ، و (أندريه ميكال) ، فإنهم

يحسون بغربة قاتلة داخل مجتمعاتهم، ويشعرون بأن أصواتهم لا تكاد تسمع، لا في

الغرب ولا في العالم الإسلامي.

ج- هناك ظاهرة تبدو غريبة في استنتاجات المستشرقين، ذلك بأن أغلب

المستشرقين نعتوا الثقافة الإسلامية بأنها حضارة نص! ، بماذا تفسرون هذا

الاستنتاج؟ .

- بدلاً من أن نتساءل: هل الحضارة الإسلامية حضارة نص أم ليست ... كذلك؟ لا بد أن ندرك طبيعة المعرفة الاستشراقية، هذه المعرفة التي ظلت تفتقد إلى العمق والشمولية، وهذه السمة هي التي ما تزال عالقة بما يمكن تسميته: الاستشراق الدائري، الذي يعتبر (محمد أركون) علماً بارزاً من أعلامه.

لقد كانت المعرفة الاستشراقية في منطلقها معرفة خبرية، تقوم على ما يصل

إلى المؤسسة الاستشراقية من أخبار لا تخلو من أوهام، يسوقها بعض الرحالة، أو

نسجها الخيال الشعبي، ومما لا شك فيه أن المعرفة الخبرية من مقومات العلم في

الإسلام، ولكن شرطها: الصحة، وهو الشرط المفقود في المعرفة الاستشراقية،

ويكفي أن نقرأ (أنشودة رولان) لندرك طبيعة تلك المعرفة المشوهة التي تجعل

المسلمين بزعمه وثنيين مشركين، يؤمنون بثلاثة آلهة: (أبولون، وترافاكان،

ومحمد) .

وقد كان يغذي هذا الاتجاه ما ظهر عند طلائع المستشرقين، من أمثال (جيوم

بوستل) (1510 1581م) ، الذي قيل عنه إنه كان من دعاة الوحدة بين المسلمين

والمسيحيين! ، ومع ذلك لم يستطع أن يتخلص من النظرة التي ترى أن من فوائد

تعلم العربية أنها تعين على مجادلة أعداء المسيح من المسلمين! !

ثم تحولت هذه المعرفة إلى معرفة نصيّة عندما قام (ديربيلو) (1625 - 1695 م) بتأليف كتابه (المكتبة الشرقية) ، هذا الكتاب الذي يعد أول كتاب غربي يضم معارف عن الشرق الإسلامي في شكل موسوعة معجمية، وبذلك انتقلت المعرفة، مع (ديربيلو) من الخبر إلى النص، أي: إلى استنباط المعرفة المتعلقة بالشرق الإسلامي، من كتب المشارقة أنفسهم.

وستمر فترة من الوقت قبل أن يُضاف إلى هذا المصدر المعرفي مصدر آخر

هو المصدر العيني.

وكان الفرق بين هذه المرحلة وسابقتها: أن إحداهما كانت غارقة في الماضي، بينما جمعت الأخرى بين الماضي والحاضر.

وقد كان الاستشراق الحديث والمعاصر بحاجة إلى جهد كبير لتخليص المعرفة

الاستشراقية مما علق بها من قصور، نتيجة قصور مصادر المعرفة.

د- الأستاذ حسن الأمراني، تنزعون في الكتابة نحو مجالات مختلفة: الإبداع

النقد الكتابة الفكرية.. لكن الذي جمع هذه الكتابات هو أنها تعبير عن زمن السقوط

وتشخيص للحظة الانهيار الفكري والحضاري الذي تعيشه الأمة الإسلامية.. من

خلال هذا المُعطى نود منكم كلمة أخيرة لقراء مجلة (البيان) ؟

- لا أدري أي هاجس دفع بي وأنا أعد دراستي عن المتنبي في دراسات

المستشرقين إلى أن أُعْنَى عناية خاصة بلحظة من التاريخ فيه من واقعنا المعاصر

تشابه كبير، فقد تبين لي أن تلك اللحظة هي لحظة الانهيار الحضاري التي قام

المتنبي في وجهها صارخاً مستصرخاً باحثاً عن الفتى الذي يستطيع أن يحقق معه

رسالته، فكان (سيف الدولة) [على ما فيه] أقرب ما يكون إلى الصورة المثال التي

كان يحلم بها الشاعر، فلذلك ربط مصيره بمصيره، وقد عني المستشرقون بهذه

اللحظة بالذات أكثر مما عنوا بدراسة الجانب الفني من شعر أبي الطيب، وذهبوا

في تفسير تلك اللحظات مذاهب شتى لم تكن تخلو من الشطط.

ولا يشك أحد أننا نعيش لحظة من أشد لحظات الانهيار الحضاري الذي يواكبه

تغطرس الاستكبار التدميري، وأمام هذا الواقع لا مفر من صيحةٍ تنبه الغافلين،

وتستل من الظلمة فجراً، فلا عجب إذن أن يكون هنالك خيط جامع عندي بين

الإبداع والإنتاج الفكري، وهذا الخيط هو صرخة الألم التي قد تكون من جهة

المصدر كصرخة ابن أبي موسى الغساني في غرناطة، ولكنها من جهة الأثر بحكم

كونها صرخة جماعية لا فردية قد تكون كصرخة قطز في (عين جالوت) .. ولعلها

كما قال (الكواكبي) [*] : كلمة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح،

فقد تذهب غداً بالأوتاد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015